لقد أنهكوه، لم تبق زاوية واحدة إلا ونظروا إليه من خلالها، استنزفوا كل طاقاتهم النفسية، والمادية، صوروا الأمر له سهلا لاشيء فيه من الصعوبة أو العناء، وضعوا أمامه كل الأحلام كحقائق، البيت الواسع فوق قمة الجبل الأخضر بزيتونه ولوزه، السيارة الوردية ذات الفرش الفخم، الأموال الطائلة، والفتيات، دنيا الشباب، والرفاه كله، دنيا الأمنيات البراقة اللامعة الواقعة بين أعطاف الحلم ونوازع الشباب المتقد الملتهب، دنيا الحلم الوردي المصاغ بأقلام رومانسية تعج بالحرارة اللاذعة للحقائق، دنيا الغرائز المتلاطمة في مجاهل موج عات تزأر به تفاعلات مقتبل عمر يجوس أقبية الوجود بحذر الاكتشاف واندفاع الطاقة، كل الأشياء ستتحقق لك، ليس هناك أمرٌ تتمناه بعد اليوم، فقط اشر بإصبعك على ما تريد يكون لك دون نقاش.
دارت عيناه داخل صدورهم، حيث القلب المليء بالسواد، الغاص بالحقد، العاج بالمرواغة، جالت وسط السواد والحقد والمراوغة، فارتدت أوسع مما كانت عليه.
- الأمر لا يعنيني.
- لا نطلب منك الكثير، فقط أن تقول ما تسمع، وتحدث بما ترى.
اختفت عيناه في المحاجر، وغاب خياله بعيداً إلى أم عمر حين غاب جسد ولدها داخل المعتقل، ثم غابت روحه. أم عمر التي خرجت تستقبل جثمان ولدها بالزغاريد والفرح والدموع، كان المخيم قد خرج معها يزغرد بفرح ودموع، سجي جثمانه في غرفته الصغيرة المتواضعة، ففاح المسك وانتشر العنبر، جروحه لم تفرز غير دماء كانت تنقط لتدمج في تراب الأرض، وعلى صفحات كتاب ظل مفتوحا منذ غادر المنزل حتى عاد، دفتر توجته جملة واحدة – كم رخيص دمنا حين يراق من أجلك يا وطن – وانطلقت جنازة شهيد، كجنازة عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وعز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني، جنازة شهيد، تظللها أرواح شهداء وملائكة، والتحم الجسد بالتراب، واحتضنت الأرض جسد شهيد، ملحمة الوطن والشهداء.
عادت عيناه مكانيهما، انطلقتا كصاروخ، فارتجف الجسد حين أحس بدماء الشهيد تدفق في عروقه، انتفض واقفا وهو يصرخ...
أعرف طريق زنزانتي
( 2 )
انغرست قدماه في الوحل حتى الركبتين، رفعهما بقوة غير اعتيادية، انغرست من جديد، انتزعهما بسهولة، فأصبح الوحل فاقدا قوة الجذب التي يمتلكها، اتجه صوب بيدره، لقد اخبره أهل القرية أن السياج أصبح دائريا حول بيدره أثناء وجوده في الكويت.
- لكنه بيدري!!، أنتم تعرفون ذلك جيداً، وسيبقى كذلك رغم السياج.
اصطدمت عيناه بالسياج، فانطلق كنمر غاضب متخطيا كل الحواجز الأولية، لم يلتفت إلى اللوحات المكتوب عليها "ممنوع الدخول"، أمسك البوابة بيديه وبدأ يخلخلها، وبلحظات بسيطة كان قد أتم انتزاعها، وما أن هم بالدخول حتى وجد صفا من البنادق التي تحدق به بشراهة وتعطش للحم والدم، تقدم احدهم ودفعه بيديه صارخا بلكنة عربية ركيكة:
- اخرج من هنا، ممنوع الدخول!!
- لكنه بيدري!!، وأنا أعرف كل ذرة تراب فيه، وأعرف أين كانت حبات القمح تستقر، وعلى أي عمق. أعرف بيوت النمل، وأعرف متاهات الخلد، أعرف طعم الليل، ورقة الندى، هناك مرتع طفولتي، وهناك على الصخرة المنتصبة الشامخة كانت أمي تجلس لتمسح عرق أبي بيديها قبل أن يتناولا طعام الإفطار، وهناك لدغتني أفعى رقطاء، أفرغت سمها بدمي، لكن أبي دلك اللدغة بتراب البيدر، فمات السم، وهناك أيضاً تعيش سلحفاة هرمة، أحبتنا وأحببناها، كانت صديقة عمري، وكنت صديق عمرها، شاهدت أولادها وهم يخرجون من البيض ليلامسوا التراب والندى والزهر، وقال والدي أن أجداده حدثوه عن أولاد خرجوا من البيض قبل أعوام طويلة، وهناك...
لكن اليهود دفعوه قبل أن يكمل حديثه، حاولوا أن يخرجوه من أرض البيدر، لكنه تشبث بالأسلاك الشائكة دون أن يحس بألم الوخزات، اقترب منه يهودي آخر، صفعه على وجهه، فلم يسعه إلا أن ترك السياج ليوجه لوجه اليهودي صفعة ممزوجة بالدم، وعاد كالليث الجريح ليتشبث بالسياج من جديد ونظراته تمسح أرض البيدر بحنان العودة وإصرار البقاء.
فرق السكون أزيز الرصاص المتجه صوب الجسد المتشبث بالسياج، فارتخى الجسد، وسكنت حركته، ثم سقط على السياج كتلة باردة لا حياة فيها، وفاض الدم من الجسد على أرض البيدر يرويه...
حنان العودة وإصرار البقاء
( 3 )
قيدوه بالسلاسل، مزقوا جسده بالسياط، اشبعوا جراحه ماء ممزوجاً بالملح والبهار، أطعموا جسده للكلاب، خلعوا أظفاره من جذورها، غسلوه بماء شديد الحرارة، وعلى الأثر بماء شديد البرودة، ضربوه بالنوبات الكهربائية، اطفأوا الدخائن بكل أنحاء جسده، أرهقوه نفسياً وجسدياً وعصبياً. هددوه بانتهاك عرض أمه وأخته وزوجته.
لكنه صمد، عانى أشد الآلام وتحملَّ خوفاً من السقوط، قال لنفسه:
- لا أملك إلا جسداً واحداً، فليفعلوا به ما شاءوا، لا أملك إلا روحاً واحدة فليأخذوها إن شاءوا، لكني سأصمد، وفاءً لجسد رافقني منذ الطفولة، بل قبل الميلاد، وفاءً لجسد تشكلت ملامحه من هواء وسماء وماء هذه الأرض، وفاءً لروح لم تلامس تفتح الحياة إلا فوق هذه الأرض، أما أمي وأختي وزوجتي، فعليهن أن يصمدن صمود مآذن الأقصى، وحسن بك، وعليهن أن يعلمن بان الأرض والعرض لا يحميان إلا بالصبر والثبات، أنا لا املك لهن إلا رعاية رب تعهد بحمايتهن.
- من الخير لك أن تتكلم، من هم أصدقاؤك؟
كان يدرك تماماً ما معنى أن يتكلم، لو تكلم فإنه سيحدث تقليصاً بالدائرة التي صنعها خلال زمن طويل، والدائرة بحاجة لأن تتسع أكثر بكثير مما هي عليه الآن، وما بين التقلص والاتساع يقع هو، بجسده وروحه، بعزمه وإرادته، وهو، هو فقط، من يستطيع أن يحافظ على القطر من التقلص والانحسار، عليه أن يتحدى بجسده الوحيد، وروحه الوحيدة، كل ألوان العذاب والألم والقهر، عليه أن يتحدى بقوته الذاتية الإيمانية كل قواهم المادية، إنه المحور الثابت عليه قطر الدائرة، ليس أمامه سوى خيار واحد، خيار الصمود، كيف لا وهو المحور؟
- لم يكن معي أحد، كنت فرداً لا أكثر ولا أقل!
- المماطلة لا تفيدك بشيء، ستتكلم شئت أم أبيت، اليوم أو غداً، في هذا الشهر أو الذي يليه، المهم أنك ستتكلم رغم أنفك!
- لن أتكلم، لأني لا أملك قولاً غير الذي قلت!
- سأقطع لسانك يا ابن "...."!!
- أنت أجبن من ذلك، أنت تحتاج إلى لساني، تحتاج إليه أكثر من حاجتك إلى لنفسك، لساني هذا أثمن الآن من مئة مثلك.
خيم الصمت، وعاد التعذيب يأخذ دورته الجديدة، ظهر الإعياء الشديد على الجسد المنهك، فصاح مدير التعذيب: حافظوا عليه حيّاً، إياكم أن يموت، نريده حياً، إنه يملك الكثير، نحن بحاجة إلى للسانه، أفهمتم؟
رفع جسده المنهك المتأرجح بالسلاسل، وقذف بنفسه بسرعة مذهلة في وجه أحدهم، استشاط اليهودي غيظا وانطلق كالوحش نحو الجسد المقيد غارسا فيه قضيبا من الحديد.
في الصباح كانت الجنازة تتجه صوب المقبرة، الآلاف تسير صامته صمت فخر واعتزاز، اختاروا له قبراً وسط المقبرة، ودفنوه هناك...
فأصبح محورا لدائرة الشهداء
( 4 )
الأمر ليس خطيراً، عملية انتقالكم من وسط هذه التجمعات القذرة، لن يكون إلى الصحراء، ولا إلى مستنقعات آسنة، بل إلى شقق مفروشة، تمتاز بجمال هندسة غريب، عدا ذلك، سيتوفر لكم جو نفسي هادئ، حيث لا ذباب، ولا بعوض، لأن المجاري المفتوحة التي تقطع كل الأزقة لتزكم أنوفكم بالروائح النتنة ستتحول إلى مجارٍ حديثة مغلقة تجري تحت الأرض مسافات طويلة.
وهذه السقوف الصفيحية ستتلاشى، سنمنحكم سقوفا من الاسمنت المقوى، لا تؤثر فيها الرياح العاتية، ولا يزعجكم صوت المطر المرتطم بالصفيح، بيوتكم ستكون دافئة، آمنة من التصدع والانهيار، سنمنحكم حياة البشر، حياة الناس، حياة الأثرياء، حياة أهل المدن الذين ينظرون إليكم بازدراء وشزر.
آه، لو كنت تدرك حقا ما معنى البحر، هناك معادلة بسيطة جدا يتضمنها البحر، لكنها قيمة وتستحق أن تذكر، البحر والشاطئ وحدة واحدة، فحيث يكون البحر يكون الشاطئ، وحيث يكون الشاطئ تكون عكا، تكون حيفا، تكون يافا، تكون بيسان، تكون تل الربيع، تكون أم الرشراش، يكون المثل " لو كانت عكا بتخاف من هدير البحر ما سكنت على شطه " يكون السور الذي أذل جحافل فرنسا، السور جلل نابليون وتاريخ بلده بالعار والخزي. حيث يكون بحر يكون سمك، البحر والسمك وحدة معناها حياة، من دون بحر لا سمك، ومن دون سمك تنعدم حياة البحر، فنسميه البحر الميت، فيكون فناء شاملاً، البحر والسمك وحدة نسميها حياة.
هناك معادلة أخرى، بؤبؤ وعين ينتجان دون شك رؤية بعيدة، لا، لا تقطب حاجبيك، قريبة أو بعيدة، ليست هذه المشكلة، المهم هناك رؤية وكفى!
المعادلة الأخيرة هي الأهم، مخيم وفلسطين ينتجان قضية، قضية شعب، أتدري ما معنى قضية شعب، هي رمز التحدي من أجل البقاء، من أجل العدالة. إذن، نحن والمخيم، كالبحر والشاطئ، كالبحر وحيفا ويافا وبيسان وتل الربيع، كالبحر وعكا، كالبحر وسور عكا، كالبحر والسمك، وكذلك كالبؤبؤ والعين، لذلك، حين يرحل البحر عن السمك، أو السمك من البحر، والعين عن البؤبؤ، والبؤبؤ من العين، عد إلينا...
لأننا عندها فقط سنرحل
( 5 )
تجمهر الناس في الزاوية الشمالية للقرية، حين وصلت السيارات العسكرية وهي تحمل أعدادا كبيرة من الجنود، كانت الدبابات قد أحاطت بالقرية قبل وصول الجنود إلى القرية، تركزت فوهات مدافعها نحو حدود القرية ووسطها، تفرقت العصافير في الأفق محلقة بطريقة غير اعتيادية، وانتشر الحمام رفا يغطي سماء القرية، حمام خائف وجل، يدرك بغريزته التي لا تكذب حجم الحقد الكامن في صدور الدبابات ومَنْ عليها، حمام يعرف بالفطرة أن الزلزال قادم، لكنه زلزال بشري، لا علاقة له بخطر الطبيعة.
خيم الصمت على الجميع في الوقت الذي ترجل فيه أحد الجنود من سيارته العسكرية متقدماً الصفوف نحو البيت، الشارة التي فوق كتفه تدل على أنه ذو رتبة رفيعة ومستوى مرموق، شدته الدهشة للوراء، نفض رأسه وكأنه قادم من عالم آخر وصرخ:
- لماذا لم تخلوا البيت؟ الم يصلكم الأمر قبل أسبوع؟ ما هذا العناد؟ ما هذا التحدي؟
- وهل يعنيك حقاً إن أخلينا البيت أم لا؟
- لا، لا يعنيني أبدا، الأمر قد صدر وانتهى، وسأنفذه فورا لتكونوا عبرة لغيركم.
- لقد هدمتم قبل هذا البيت آلاف البيوت، وقلتم لأصحابها نفس الجملة، ولكنكم ما زلتم تهدمون، وعليكم أن تكونوا مستعدين لهدم بيوت هذا العام، والعام الذي يليه، ولأعوام قد تطول، ولكنكم يجب أن تتذكروا أن الذاكرة الشعبية للأجيال تتوارث، ويتوارث معها صورتكم وانتم تهدمون وتدمرون، والذاكرة لا تهدم ولا تدمر. ونحن نعلم من خلال ذاكرتنا أنكم قادمون للهدم، سواء أخلينا البيت أم لم نخليه.
- إذن لماذا لم تخلوه؟
- حتى لا نمنحك شعور اللذة بإصدار أمر قابل للتنفيذ، أنت تستطيع أن تهدم البيت، ولكنك لا تستطيع إجبارنا على منحك صورة الإنسان.
أشاح بوجهه بعيدا إلى حيث الجنود، نادى أحدهم، وبدأ يدندن معه بلغته الخاصة، فتوجه الأخر نحو صندوق كبير داخل الشاحنة الأولى واخرج كتلتين من حديد، عرفهما المحتشدون فوراً، لقد أصبح منظرهما معهوداً عليهم، ووسط الصمت الذي اخذ مداه داخل جميع الحلقات المصطفة كانت العبوتان الناسفتان قد جهزتا، وبدد الصمت دويّ انفجار هائل، ارتفع بالجدران الثابتة مسافة عالية ليعيدها مكانها كومة من أنقاض حزينة تشير أصابعها الإسمنتية الساخنة نحو السماء.
تحرك الجنود وسط الصمت الثقيل القاتل نحو سياراتهم، كانت الفرحة تبدو على محياهم، والبهجة كادت تتشقق من جلودهم، بدوا سعداء مرتاحين، خلافاً للحظة وصولهم الأولى، وقبل أن يدور المحرك، التف رأس الضابط لتظهر الشماتة في عينيه، لكنه عاد وأخفى رأسه بين يديه حين رأى أهل القرية يمسحون الأنقاض ويضربون...
أوتاد الخيمة مكان البيت المنسوف
( 6 )
أشهر مرَّت على احتجاز جواز سفره بعد وصوله من بغداد، فخسر جراء ذلك فصلاً دراسياً كاملاً في الجامعة، عدا عن عذاب "أحضر غداً صباحاً" ويظل هناك مصلوباً حتى يخيم الليل، "عد غداً صباحاً"، وأخيراً أراحوه من عذاب غداً صباحاً، ولكنهم احتفظوا بجواز سفره، ومرت الأيام والأشهر متتالية، سريعة، فأحس بان الزمن إذا بقي سائراً هكذا، فإنه سيتركه على المحطة الأولى "وإلى الأبد"، ولكن هل يستطيع هو أن يوقف عجلة الزمن عن الدوران؟ هل يستطيع أن يمسك بالثواني والدقائق من رأسها ليضغطها نحو الأسفل؟ هل يستطيع أن يخرج من زمن قائم إلى زمن يجب أن يكون؟ ليته يستطيع ذلك، قال في سره.
لكنه كان يعلم بان الأيام تسير للإمام، وهي الوحيدة التي تفقد القدرة على السير نحو الخلف، فتركيبتها مرتبطة بالتقدم نحو الأمام، دون الالتفات للعوامل الحياتية والدنيوية، تسير دون أن تحس أو تستشعر أي ضرورة تمني وقوفها أحياناً ولو هنيهات معدودة.
لذلك عليه أن يفكر كيف يستطيع أن يُحِدثَ ثقباً في خطوات الزمن الخاص به، عليه أن يعرف وبسرعة بأن الشباك الملقاة على طريقه ما هي سوى وهم، سحر، كحياتِ سحرةِ فرعون، عليه أن يغوص في عمق زمنه ووقته، في عمق أيامه وثوانيه، ليجد مخرجاً من حالة الاستسلام التي بدأت تدب بأطراف مستقبله، الفشل ليس ابتكاراً أو عزيمة، بل ركون واستسلام وهزيمة، هم يملكون منعي من السفر، إزالة أيام من قاموس وجودي، ولكنهم لا يملكون إلغاء عقلي وإرادتي، هم يملكون البسيط، وأنا أملك مقاليد وجودي وكينونتي، وأنا، أنا فقط من يستطيع أن يحدد مسار زمني.
يا إلهي، كيف لم أفعل ذلك منذ البداية؟ إنه وطني، وهي جامعاته، غداً صباحاً، وما أن يبزغ الخيط الأول من النهار سأتجه لجامعة النجاح الوطنية.
وصله التبليغ بواسطة مختار المخيم، توجه حسب الساعة المحددة، دخل الغرفة لا مبالياً بشيء، لقد استطاع أن يجد صمام الأمان لنفسه "وللأبد" وكل ما سيدور الآن لا يستحق أن يرهق نفسه وأعصابه من أجله.
- هاك جواز سفرك، ستأخذه...!!
فلم يدعه يكمل حين قال: لا تتعب نفسك ببقية الكلمات...
لم أعد بحاجة إليه
( 7 )
- نريد أن نوقف هذا المد العلمي المخيف بين فئات الشعب الفلسطيني، لقد انتشرت المدارس إلى حد فاق التصور، لم يعد هناك شاباً أو فتاةً لا يجيدا التفكير، لقد نجحوا في تخطي سياسة التجهيل المرسومة لهم، بل واجتازوا جميع الحدود المعينة لهم.
لابد أن نخطو خطوة عملية تجاه المدارس والجامعات، خطوة مدروسة، تشيع الرعب بقلوبهم وتبعدهم عن مواصلة التحصيل العلمي. يجب أن نحولهم إلى رعاة بقر، إلى مجموع يستبد الجهل بكل أطرافه وأحواله، المعركة ليست طائرات ودبابات، بل علم وتاريخ، وهؤلاء أصبحوا قادرين على فهم التاريخ، يعرفون معنى وعد بلفور، ويدركون مغزى سايكس بيكو، وجودهم في دول العالم بدأ يكشف جزءاً من أكاذيبنا، والمستقبل يرسل تحذيراته لنا منذ هذه اللحظة، علينا وبكل ما نملك من قوة وحيلة أن نوقف هذا التطور في عقول هؤلاء الناس.
- وكيف سنفعل ذلك؟
- نزرع المدارس سمّاً، ونحقن الجدران موتاً، ونختار مدارس الفتيات، لأنهن سريعات الخوف، وتمتاز قلوبهن بالوجل، فإذا استطعنا أن نبعد الفتيات نكون قد خطونا خطوة واسعة تفيد مستقبلاً أكثر مما تفيد حاضراً.
- وما هي الفائدة المستقبلية.
- فتيات اليوم هن أمهات المستقبل، فإن استطعنا أن نزرع الجهل بعقول الأمهات ووجودهن، فإنَّ النشء الذي ستنجبه لا بد وسيغذى بحليب الجهل، وبهذا نضمن جهل الأجيال القادمة، فإن لم تنفعنا بجهلها فإنها لن تضرنا بأي حال من الأحوال.
وانتشر السم، وزحف وباء رهيب، فريد من نوعه، لم تعرف أرض فلسطين مثله قبل هذا الوقت، وتساقطت الفتيات في الصفوف والساحات كإعجاز نخل، وبدأن بالتقيؤ الشديد، فانتفض الشعب، وامتلأت المشافي أطباء وصيادلة، ممرضين وممرضات، وتوحدت سواعد الضفة ساعداً واحداً لا يمكن شله، والتقى العالم مع الأمي، والحمال مع الطبيب، والزبال مع الأستاذ الجامعي، واختلط العلم بالبساطة، وسالت الشوارع والأزقة غضباً يحمل صور التحدي، مبدياً عدم الخوف من الموت ورعاته، وظلت الضفة ساحة غليان لا يهدأ، وفرض منع التجوال، إلا أن الجو ظل مشحوناً بالتوتر القابل للانفجار.
ورفع الحظر، وفتحت الأرض أحضانها لأبنائها، وامتدت قلوب المدارس والجامعات لفتيات اليوم، وأمهات المستقبل...
مستقبل العلم والنور والحرية
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم