عندما امتطيت السيارة ، ودعتني أمي بالزغاريد و لم تنس أن توصيني بالحذاء خيرا ، بينما بدا الحزن على وجوه شقيقاتي ، و لم أدر في تلك اللحظة هل أبكي أم أشكر جدي على كل حال .. نفورا من ضجيج المحرك توغلت في مستنقع اللحظات المنتحرة ، كانت الصور تتقافز في ذهني لتوقظ الثعابين الراقدة .
يمكنني الجزم بأن حياتي ظلت تسير بشكل هادئ إلى أن بلغت سن الصيام ، ثم دنا آدم من الشجرة و هوى ابن يعقوب في ظلمات الجب. غدوت ملزما بانتعال حذاء جدي بما أني الذكر الوحيد في سلالته ، هكذا شاءت أمي تنفيذا لوصيته و تواطؤا مع القدر و النرد . حين عاد جدي من الحج قبل أن أولد بزمن طويل ، لم يجلب معه شيئا سوى حذاء مصنوع من جلد بعير حجازي ، و المدهش أنه مصبوغ بخليط عجيب من القطران و شحم الإبل ، و لعل هذا هو سر لونه الداكن الذي لا يتأثر بالزمن ، إنه يشبه إلى حد ما بشكله الحربي تلك الأحذية التي ينتعلها رعاة البقر . كانت أمي تخبئه في غرفة جدي المقفلة ، و لا ينفتح الباب إلا ليلة الجمعة . يحضر شيخ مجذوب يحمل مبخرة ، يظل يمررها فوق الحذاء و هو ينشد بصوت رتيب : « اللهم صل على المصطفى / حبيبنا محمد عليه السلام » ، و يأتي فقيه الجامع رفقة جوقة من المقرئين ، ينخرطون في تلاوة جماعية لسورة الكهف ، بأصوات متمردة على كل المقامات.
لا أدري هل من حسن حظي أن قدمي تضخمت أم أن الأمر كله لعنة في لعنة ، على أية حال ، وجدت الحذاء ضيقا إلى حد مؤلم ، ربما لأني ألعب الكرة كثيرا بينما لم يكن جدي يقترف شيئا بقدميه سوى المشي . كان لابد لي أن أستعين بمكر شقيقاتي ، لكن أمي لم ترغب في السماح بأي تعديل عليه رغم إلحاح بناتها الأربع و أزواجهن أيضا ، ربما خوفا من انقشاع البركة . و من جهتي توسلت إليها كثيرا أن تأخذه إلى « الخراز » كي يوسعه و لو قليلا ، فكانت تجعلني أبدو كمن يصب الماء في الرمل.
بعد انتقال جدي صالح إلى الرفيق الأعلى، انتعله أبي عشر سنوات حتى أصابه ورم خبيث ، و لم يجد الأطباء حلا سوى البتر ، لكن الميكروب اللعين كان قد تغلغل في كل الجسد . ذات يوم ، سمعتُ شقيقاتي مع أزواجهن يتهامسون في الصالون ، و فهمت من ثرثرتهم أن الحذاء هو الآثم ، و لم أجد حرجا في الوشاية بهم ، فغضبت أمي و طردتهم جميعا بعد أن قرصت آذانهم بكلام ثقيل. و راحت تحكي كيف حلت على جدي البركة منذ أن جاء به من بلاد الحجاز ، رأى في المنام عودة محمد الخامس من المنفى ، و تحققت الرؤيا بعد ثلاثة أشهر . فرح جدي بذلك كثيرا ، إذ رحل رب عمله الفرنسي متنازلا له عن المكتبة ، فجعلها فورا محلا لبيع السواك و حبة البركة . و هكذا تبدلت الأحوال و انهمر الرزق على جدي كالمطر ، و استطاع أن ينتقل من كوخ صفيحي في « كاريان سنترال » إلى بيتنا الحالي في « الحي المحمدي » ، و شاءت المشيئة أن يكون رقمه مطابقا لرقم جناح الأمراض العقلية في مستشفى ابن رشد .
لن تقتنع أمي بأي هراء يطعن في بركة الحذاء ، و لن ينجح أحد في تليين عقلها المتصلب كدماغ شيخ سلفي . « إنه متين ، لا يتأثر بتقلبات الطقس و لا بتحولات الزمن ، إنه يصلح لكل وقت و لكل مكان » هكذا تقول أمي ، و تضيف بنوع من الوعد و الوعيد : « ها سخطي .. ها رضاي .. » و خوفا من سخطها لم أجد مفرا من انتعاله رغم التسلخات في الأصابع و الكعب . أنتعله في الصيف كما في الشتاء ، أمشي به إلى المدرسة ، أذهب به إلى الشاطئ ، أركل به الكرة في الشارع . كثيرا ما توسلت إليها طمعا في حذاء رياضي ، فكانت تجيبني على نحو صارم : « حذاء جدك فيه البركة ، يحميك من الكسور و أعين الحاسدين » .
من الغريب أني كلما انتعلته اعترتني رغبة جامحة في الرفس و الركل ، فغدوت شرسا على غير عادتي ، صارت شجاراتي كثيرة بسبب نظرة مريبة تارة أو تعليق عابر تارة أخرى ، و كان لابد أن ينعكس ذلك على دراستي فرسبت سنتين . و قد راح صاحبي النوري ضحية لإحدى نوبات سعاري ، إذ ركلته بعنف فأصيب بكسر بينما كنا نتجادل حول نجاة ابنة جارنا أستاذ الفلسفة ، تلك الفتاة المغرورة التي مالت إليه بدعوى أناقته ، و تهكمت على حذائي و اتهمتني بسرقته من فيلم الرسالة ، و فوق ذلك نعتتني بابن المجذوبة . لا أنكر أني أشعر نحوها بنوع من الإعجاب رغم لسانها السليط ، فلعله مجرد انجذاب فيزيقي يتجلى في قشعريرة دافئة داخل الأحشاء ، انجذاب يجعلني متلهفا لاكتشاف لون ملابسها الداخلية .
ذات أحد ، ذهبت إلى ملعب الإعدادية على غير العادة ، و كان الأستاذ فيما أظن غير راض عن حذائي الحجازي ، لكنه لم يقل شيئا ، و إنما قدم لي حذاء ألمانيا من ماركة « أديداس » ، بدا العرض مغريا و كدت أستسلم لإغواء اللحظة لولا فزعي من سخط أمي ، مع ذلك لم يبد عليه الغضب و إنما زم شفتيه فحسب . ربما من حقه القلق ، كيف لا و قد واجه صعوبة بالغة في إقناع المدير بتنظيم مباراة ضد تلاميذ إعدادية موليير. نزلوا إلى عالمنا الهامشي من الأحياء الراقية في كازابلانكا ، كانوا نظيفين أكثر من اللازم ، و بدا عليهم الاشمئزاز منا و من الغبار الذي يعلو فضاء الملعب. لكن الذي أثار استيائي هو ذالك الأجنبي الطويل ذو الشعر الأشقر و الزرقة المستفزة في عينيه ، ظل يرمقني بنظرات لاسعة ، و الأدهى من ذلك أنه أخذ ينادى على رفاقه و يشير إلى حذاء جدي بنوع من الاستغراب ، اقترب أحدهم مني مقلدا مشية عارضات الأزياء ، و سألني بنبرة متهتكة و هو يمضغ العلكة :
- « حذاؤك ليس له مثيل .. من أي متحف يا حبيبي ؟ »
أجبت و عضلات وجهي تتقلص بسبب ضيق الحذاء :
- « من متحف أمك ! .. كلمة أخرى و أرسلك إلى طبيب النساء !»
صدمه الرد فتراجع محتميا بالأشقر ، و قبل أن تحتدم نيران المناوشة ، كان الحكم يطلب منا الاستعداد . بدا الحذاء ثقيلا بما يكفي ليجعل حركتي بطيئة ، حتى أنني فكرت في إكمال المباراة حافي القدمين، لكن الخوف عصرني بأصفاده الكابحة . الألم كان يتزايد كلما ركلت الكرة ، و تضخم أكثر بسبب نظرات هؤلاء المدللين ، و أخيرا وجهت لهم ضربة قاسية حين هتكت شباكهم بقذيفة قوية ، ثم أشرت بذراعي على نحو بذيء . لكن الأشقر لم يظهر عليه أي انزعاج ، و ظل يستفزني بتلك الابتسامة الغامضة . ارتفعت حرارة المباراة أو ربما حرارتي أنا ليس إلا ، و لم يكن غريبا أن تغدو تدخلاتي أكثر عدوانية ، فلم أتأخر في نيل بطاقة صفراء .
في لحظة ما ، حاول الأشقر مراوغتي و في عينيه نظرة ساخرة ، أو هكذا خيل إلي، وصل الغليان إلى أنفي ، فاندفعت بكل ما في جسدي من عنفوان و حنق ، حتى تصاعد الغبار و أعاقني عن الرؤية ، فأخطأ حذاء جدي الكرة و استقر أسفل بطن الأشقر . تلوى على الأرض و هو يركل الهواء كخروف مذبوح ، صرخته كانت أشبه بصوت قط ربطوا بيضتيه بسلك شائك ، لا أدري كيف شعرت بنشوة خالية من الندم ، و الأغرب من ذلك أني قفزت فوقه و شرعت في الرفس بكل ما بقي في جوفي من سعار ، أسرع الحكم و ألقاني على الأرض ، بينما راح زملاء الأشقر يهرولون نحوي كقطيع من الثيران ، فلم أجد بدا من الفرار عبر السور و لم أكترث للحجر الذي أصاب ظهري .
لم يعد في إمكان أمي أن تكتم حركاتها المضطربة ، نظراتها كانت متسكعة حيث لا يدري أحد ، ربما هائمة في عوالم جدي لتطلب المدد . سألني القاضي عما جرى فأجبت متلعثما :
- « و الله لم أقصد ... كان الحذاء ضيقا بشكل لا يطاق .. » .
بدا عليه الخشوع و أنا أحكي له تاريخ الحذاء ، و كان مندهشا حين قاطعتني أمي و راحت تدافع عن براءة الحذاء بكل ما تملك من حماس و إخلاص لذكرى جدي ، قالت بأن الذنب ذنب من تجرأ عن جهل و سخر منه ، فالحذاء المبارك ثأر لنفسه و أنزل عقابه بالجاهلين . ثم راحت تقهقه بلا سبب ظاهر حتى تدلت من أنفها فقاعة مخاطية ، فلم تجد حرجا في مسحها بكم الجلباب دون اكتراث للذهول الذي طفا على الوجوه. رمقها القاضي بنظرات مكسوة بالشفقة قبل أن ينصح شقيقاتي بأخذها إلى الطبيب ، فيما أمهلني لأكمل سنتي الدراسية ثم يكون الذي ليس منه بد .
هكذا حل الصيف ، وها أنا أنزل من سيارة البوليس قبالة بوابة الإصلاحية ، و زغاريد أمي مازالت ترن في أذني كسكين مشحوذ . لا شك أن جدي مرتاح في تربته الآن رفقة الأشقر .