بدون سابق إنذار وقفت أمام شباك الاعتراف في شموخ نبيل، وكأنها تُهِّم بأداء أغنية أوبيرالية أو تستعد للعب دور كليوباترا، كانت نظرتها بالرغم من الضوء الخافت تحمل أكثر من معنى للحياة، رسمت علامة الصليب على صدرها ثم قالت بصوت مبحوح أشبه بصوت ملائكة السماء عند تسبيحهم للرب :
ــ تبدأ القصة منذ هاته اللحظة بالذات وليس لها أي امتداد في الماضي...
صمتَت برهة ، وانتبهت بدوري لهذه العبارة الغريبة التي لم أستطع فك شفرتها، فخلتها رسولا بهيئة امرأة، أرسلها الرب لي بعد أن بدأت أرتاب في بعض معاني الإنجيل، ارتعدت فرائصي لهذه الفرضية، لكني استجمعت كل قواي بعدئذ، وبين قرارة نفسي رهبة أمام هذا الشبح، لدرجة تمنيت أن تكون أمامي ورقة، وفي يدي قلم بغية تدوين اعترافها، هذا إن كان اعترافا. وبينما هممت برسم علامة الصليب وطلب المغفرة من الرب أردفت قائلة بنفس الصوت، ونفس النظرة، ونفس التحدي:
ــ بعد أن كنت جاهلة بمبادئ عقيدتي، أو بالأحرى هي التي تجاهلتني، رأيتني في حلم لم يقع بعد ، أنني امتطيت حصان السماء الحادية والعشرين، متوجهة نحو سر الأسرار، ولغز الألغاز، كنت متوجهة وانتهى، بدون أي استعداد لذلك، حتى رأيتني، هذا إن كنت فعلا موجودة، أتكلم بلغة لاتينية فصيحة، ممزوجة ببعض التعاويذ اليهودية، وشيء من سفر التكوين... كنت على وعي بسر اللعبة الإلهية وما جاورها من غموض، لكن الشيء الوحيد الذي استعصى على ذهني، هو سبب مجيئي إلى هنا.
أكملت عبارتها هاته، ابتسمت برفق وبشيء من حياء الموناليزا، حدجتني بنظرة مخيفة ثم انصرفت، أو ربما تبخرت وكأنها لم تكن من قبل.
جمد الدم في عروقي، كانت أول مرة أحس بها بمثيل هذا الخوف، وهذا الجزع، لحسن الحظ أني كنت مطلعا نسبيا على بعض كتب الفلسفة، وإلا ظننت الأمر سحرا، أو مسا من قوى خفية، بل إن صورتها لم تستطع أن تمحى من ذاكرتي، لدرجة بدأت أتمثلها في كل الأشياء، حتى عندما وقفت أمام سيدنا المسيح، رأيت وجهها فيه، بنظرتها المتحدية الجامدة، أعوذ بالله من هذا الارتياب، بل اشتدت وطأة الأمر عندما أصبحت مكان السيدة العذراء، بفستانها الطويل، وشعرها المنسدل كشلال مترامي الأبعاد، وطلعتها التي لن يعرف أحد ما بعدها... أكثرت من التعاويذ، لحسن الحظ أني كنت الوحيد في الكنيسة، ثم سرت إلى المكتبة التي تحوي أغلب رفوفها كتبا حول أسرار السماء، وصورا لبولس، والحواريين، بعض لوحات ليونارد دو فانسي... وقفت أمام الرفوف أهُمُّ بحمل كتاب لم أكن اعرف ما هو، لدرجة فقدت معها الإحساس بالانتماء للأرض، فرأيتني أطير أو بالأحرى فكري يطير بي نحو الأعلى، تراءت لي أشباح ووجوه ميزت بعضها، كالنبي موسى، وماري مادلين، والنبي سليمان، والنبي دانييل، وشاموييل... فجأة وجدتني أجلس على أحد الكراسي وفي يدي كتاب دلالة الحائرين لموسى بن ميمون، كنت أقلب صفحاته الواحدة تلو الأخرى، وكأني أسابق نفسي في القراءة، وأحاول أن أتجاوز مرحلة الفهم، فيصبح الفهم هو الذي يحاول أن يفهمني وليس العكس، ما هذا الهراء، أكانت هي السبب، أم الحالة التي كنت أمر فيها، ربما لم أجد جوابا، أو بالأحرى كان الجواب ثقيلا علي فلم أتمكن من حمله، ثم وهمت نفسي باستعصاء إيجاد حل يشفي غليلي، ويخرجني مما أنا عليه. عندها قررت التوجه للبيت كي أسترخي قليلا وأشرب بعضا من النبيذ المعتق، عسى أن يأتي هذا ببعض الراحة، وبينما هممت بالخروج ، فإذا بشبح يقف أمام الشباك الخشبي يريد الاعتراف، استحسنت الأمر، فقد يكون هذا محمودا بالنسبة لتائه مثلي، ثم بدأت أصغي الاستماع، فإذا بصوت مألوف يطرق أذني قائلا:
ــ إن من يختلط عليه الماضي بالحاضر، ومن يفقد بوصلة الزمن، ومن يجد نفسه أمام عقارب ساعات كثيرة، لكل واحدة منها اتجاهها الخاص دون إشارة لزمن موحد، إن من يرى نفسه هكذا فليعلم بأنه إله، أو نسيت بأن الإله خارج الزمان، وإلا لكان فاسدا وغير خالد، أما المكان فقد تمكنت من الخروج منه عندما سافرت قبل قليل، ورأيت تلك الوجوه التي لم ترى شيئا منك، هنيئا يا بطلي ويا حبيبي...
شعرت بالعرق يتصبب بغزارة، خشيت أن يكون هناك أحد يسترق السمع، بل إنها زادت من غرابة الأمر عندما مدت يدها فوجدتها أمامي بقدرة قادر، كيف دخلت إلى هنا، وكيف خاطبتني بهذه الصفة، وأنا الذي يخاطبني الكل بالأب، لقد كانت أول مرة أسمع أحدا ينعتني بهذه الصفة، كان وجهها قريبا من وجهي، يوشك أن ينقبض عليه، لدرجة أنها تحسست أنفاسي السريعة فتأكدت من رعبي، أومأت لها بالرجوع مخافة أن يرانا احد، فهمست لي بصوت لطيف، يزرع الهدوء في بحر هائجة فرائصه:
ــ أونسيت يا حبيبي أن سكان الأرض قد جحدوا بالإله، لن يزورك أحد بعد الآن...
كانت تتكلم بصيغة الواثق من نفسه، ثم أردفت وقد أحسست بشفتيها بمحاذاة أذني :
ــ هل أنت خائف مني ؟ أم أنك خائف من عقاب السماء؟ تذكر يا حبيبي بأنك إله، وقد جئت لأخبرك بهذا.
استجمعت كل قواي، ثم أبعدتها عني قائلا :
ــ من أنت ؟ ومن أرسلك إلي في مثل هذا الوقت ؟
ابتسمت برفق، ثم عادت تهمس بكل ثقة في النفس:
ــ لقد أرسلني إليك زعيم الجبابرة، وسيد العالم، ورب الأولمب زوس، لقد زوجني إياك، ثم احتفلنا احتفالا ديونيزيا لم تشهد به الأرض قبل الآن، لدرجة أن سيد الجبابرة وضع إكليلا من الورد على رأسي، حسدتني عليه نساء الأولمب، ونساء العالم برمته...
فجأة ابتعدت عني بسرعة مكسرة إيقاع هذا الهدوء، ثم قالت :
ــ إن أمر إله الآلهة فوق كل شيء، لقد زوجنا بمباركة من السماء، فهل ستعصي أمرها، مثلما عصيت أمر نبيك عندما فكرت بأنه رجل سياسة سعى للسلطة دينيا؟
يا للهول؟؟ لقد كانت على علم بما يدور في خاطري، لم أخبر أحدا بهذا، ولم أكتب سطرا وحيدا حول ما فكرت فيه، تسمرت في مكاني، وجحظت عيناي أكثر من ذي قبل، أحسست بالخوف يسير في جسمي كله، مثلما يسير سم أفعى قاتلة في جسد ملدوغها، هممت باسترجاع كل قوتي، ثم بدأت أتلو بعضا من سطور الإنجيل باللغة اللاتينية، وأرسم علامة الصليب في الهواء كي تكون حدا فاصلا بيننا، كانت تنظر لي بكل إشفاق، لم تقاطعني إلى أن أحسست بالعياء، فتوقفت رغما عني، حينها خاطبتني بنفس الصوت الخافت:
ــ حبيبي هلا ارتميت في أحضاني، فقد أغواك وهمك لدرجة فقدت معها الإحساس بالانتماء، هيا قبلني وستحس بمدى حبي لك...
فجأة ساد ظلام كثيف اختفت معه كل الأشياء بما فيها جسدي...
لم أدر كم مر من الوقت، لكني استفقت بعدها فوجدتني في غرفة بيضاءـ باردة، تيقنت بعد ذلك بأني في المستشفى، وصوت أحد الآباء يخاطب الطبيب قائلا:
ــ لقد وجدناه يكلم امرأة من صنع خياله، لم يكن أمامه أي شيء إلا الفراغ، لدرجة أنه كان يردد بين الفينة والأخرى بعض التعاويذ باللغة اللاتينية، فظنناه أصيب بمس من الجنون، عندها أمسكنا به فرأينا المسكين قد أصبح جثة هامدة.
جحظت عيناي، لقد كان كل شيء باردا، وكان كل شيء أبيضا، كنت عاريا تماما، إلا من غطاء أبيض، وبينما هممت بالحديث معهم، وقفت مرة أخرى أمامي، بنفس الشمخة ونفس الصوت قائلة:
ــ حبيبي لا تفكر بالحديث معهم، إنهم لن يسمعوا ما ستقوله، فقد أخذت آلهة الأولمب روحك من هذا العالم، ستحيى حياة جديدة برفقتي بعيدا عن لباس الكنيسة.
ثم مدت يدها بعدئذ، تداعب بها اجفاني دون أن يراها أحد من الحاضرين، عندها ساد ظلام كثيف، انقطع فجأة إحساسي بالحياة، حينها لم أعد أعرف أي شيء، إلا أني أصبت بفقدان الوجود، وجمود كبير يلفني...