كونه يقبع فوق تلة عالية معزولا عن كل ما يمكن أن يحيط به من مظاهر الحياة له دلالتان .. إما إن من بناه كان يريد أن يعتزل المجتمع و يكوّن مملكته الخاصة و إما أنه أراد أن يشرف على كل ما يحيط به بنظرة بانورامية سمائية ... أو أن ما يحيط به لم يعد يطيق أن يحتوي هذا الكيان بما يشمل بين جنباته.
الأصعب هو أن تزور هذا المكان ليلا .. و على غير المتوقع تفتح لك سيدته ببشاشة و ترحيب لطيفين تردك فورا إلى قصة لعلك سمعتها في طفولتك عن ساحرة في عمق الغابة تزين بيتها بالحلويات و تستهدف الأطفال تستضيفهم و تسمنهم ثم تأكلهم .. و لعلي كنت سأضحك من هذا الخاطر الطفولي لولا أننا قرأنا كثيرا في الآونة الأخيرة عمن لم تعد تستهويهم أية لحوم حيوانية فقرروا أن يجربوا لحوم البشر ...
انتابتني رعشة و أنا أضع قدمي في داخل البيت و أحاول أن أوازن بين الأفكار التي تعصف ببالي و بين ابتسامة مجاملة أحاول أن أرسمها دون أثر للتوجس في ثناياها.
كانت المرأة لطيفة و لديها بنات ثلاث في سن المراهقة و كان البيت يشي بنظافة مثالية غير أن هناك رائحة واخزة جدا استجديت كل قوى ذاكرتي لتحديد كينونتها غير أنني فشلت ..
تتكلم المرأة ببطء شديد و كأنها تريد أن تتكئ على كل حرف قبل أن تنتقل للكلمة الأخرى و كأنها تلقي درسا على أطفال الروضة و لا تريد أن يفوتهم حرفا أو لعلها توقن أن كلامها ذو قيمة عالية فلا تريد أن يسقط منه على الأرض شيئا في طريق إلى المتلقي.. و يفسر هذا البطء في الكلام بدانتها الظاهرة ففي غالب الأمر يعم البطء كل تصرفات الإنسان و ليس الكلام فقط .. و البطء قرين البدانة .
و لا تقل بدانة بناتها عنها و لكن وجوههن الصغيرة فيها براءة مستلبة .. براءة فقدت معناها منذ زمن طويل مع أن أعمارهن لا تشي بتجربة طويلة الأمد.
تعالى صراخ طفل صغير لعله رضيع من غرفة مجاورة كسر حاجز الخوف و الترقب و الهواء الثقيل الذي يغلف المكان .
قامت الأم في حركة رشيقة لا تتناسب مع بدانتها و عادت بالطفل الذي لا يبدو أنه دون الثالثة لكنه يلتقم ثدي أمه و يجلس في حضنها الكبير .. كان منظرهما مضحكا لدرجة أنني كتمت ضحكة مستغربة و قرصت فخذي مرارا و أنا متربعة على الأرض لأتأكد أنني أشهد واقعا..
ما الذي أتى بي إلى هذا المكان الغريب المخيف؟ ربما كان علي الانتظار في الطريق حيث تعوي الذئاب أو الكلاب فأنا لا أقدر أن أميز بينهما حيث أسهمت الحضارة في تدجين قدرتي السمعية .. لكنني خفت من التجمد بردا ريثما أستطيع العودة لمنزلي ..لكنني تذكرت أن من دفعني لأطرق على هذا الباب الغريب لم يكن البرد و لا عواء الذئاب أو الكلاب.. من دفعني كان انقطاع الاتصال بالهاتف الجوال لأطلب نجدة من مكان ما ..
و للوهلة الأولى من طرقي على الباب تأكدت أنه لن يكون ثمة اتصال و لن أستفيد شيئا من دخولي إلى هذا البيت و لكن استثارتني الفكرة بأنني قد أعثر على مادة قصصية مثيرة في مكان ناء و منعزل كهذا .. طبيعتنا البشرية غالبا تجعلنا ننسى ما نحن فيه من ظروف سيئة و عاجلة لننشغل بأمور جانبية لا تساعدنا في الظرف الآني.. لكن لو ابتعدنا قليلا عن المنطق لوجدنا أن الأمور لا تحدث مرتين في الحياة بذات التراتبية و لا حتى بذات التشكيلات و علينا أن ننتهز الفرصة بأي شكل ممكن لتشكيل حياة أخرى نرويها للآخرين بطريقة ما ..
وفي مطلق الأحوال الأفضل أن نذهب للحظة بدلا من انتظار مجيئها فما بالك بمن وضع في أتونها ؟..
عندما خرجت من بيتي قبل حلول المساء لموعد مهم لمت نفسي كثيرا و تساءلت عن الجنون الذي يخرجني من بيتي في هذا الوقت مع أصوات الرصاص المزغرد في الجو الذي يسمع من جهة قريبة غير مرئية .. تساءلت بيني و بين نفسي إن قضيت نحبي في الطريق ..هل سيكون ما ذهبت لأجله معادلا لمغامرة كبرى أفقد فيها حياتي؟ و كانت النفس الأمارة بالهوى تقول نعم تستحق فأينما كنتم يدرككم الموت و لو كان موتك الليلة فالأفضل أن لا يكون و أنت وحيدة ..
كأن هواجسنا دوما تأتينا من صلب واقعنا أو أنها نبوءة وشيكة التحقق.. منذ خروجي وجدت أن الطرق مغلقة و القتال محتدم بين الجهتين.. و سولت لي نفسي أن الخروج من هذا الأتون هو عين الصواب و أنني فعلت ما يتوجب فعله .. انحرفت في شوارع جانبية و بدأ الظلام يفرد خيمته السوداء و كأنه لا يكفينا سواد ما نحن فيه من قتل و تخريب.. و بعد انعطافات و استدارات وجدت نفسي على طرق ترتفع و تهبط و الهاتف النقال لا يعمل لسبب ما ..
تذكرت في تلك اللحظة مغادرتنا نحو بلد مجاور لحضور مؤتمر صحفي و الطرق مقطوعة بسبب الثلج و الضباب يغطي المكان، كان السؤال الملح في وقتها : أي جنون أخرجنا؟ لكنني كنت أعزي نفسي بوجود المجموعة التي كانت ترافقني و لا بد أن كلا منهم كان يدير في داخله نفس السؤال دون أن يجرؤ على طرحه علنا ..
خفت الآن و أنا هنا أن أطرح ذات السؤال خوفا من أن تسمعني عزيمتي فتفتر أو ينتابها الخوف و حاولت أن اهدأ حركتي و أريح قلبي قليلا لأشيع بعض الشجاعة في روحي ..
بيت يقبع فوق قمة قريبة يصدر منه نور خافت دعاني فوجدته طوق نجاة .. و ها أنا أدير نفس أسئلة الخوف لكن بطريقة أخرى ..
استأذنت الأم في الذهاب قليلا بينما بقيت معي بناتها الثلاث و قبل أن تخرج من الغرفة حدجتهن بنظرة جانبية زاجرة .. أعتقد أنني فهمت سببها فقد لمحت على وجوه البنات رغبة ملحة في الكلام و ربما انتظرن وقتا طويلا كي تتسنى لهن هذه الفرصة للحديث لكنني مازلت مكبلة بالخوف و أخشى منهن بالقدر الذي تخشى به الأم هذه الزائرة الغريبة في الليل..
تحدثنا بشكل مجامل لوقت طويل ثم اقترحن علي أن أبدل ملابسي و أخلد للنوم فلن أستطيع المغادرة إن لم تتوفر لي سيارة و ليس لديهن أي وسيلة اتصال بالعالم سوى سيارة تموينات تأتي أسبوعيا لتمدهن بما يحتجن إليه من أطعمة و أشربة ..
كانت لدي حاجة ملحة للذهاب إلى الحمام و كان آخر ما أحتاج إليه دخول الحمام في بيت لا أعرف مدى نظافته و لا أعرف من سيهاجمني فيه في الوقت اللاحق .. لكن الحاجة كانت ضرورية فقررت أن امتشق شجاعتي و طلبت منهم إرشادي للحمام.
وقفت أمام بابين مصمتين أحدهما باب الحمام مددت يدي إلى مقبضه فمر من أمامي طيف أسود مسرع كالريح .. نظرت برعب شديد فلم أجد أحدا في الممر!
فتحت الباب فوجدت وراءه جدارا ملونا مصمتا .. استغربت من جدوى وجود الباب أمام الحائط.. و أدركت أن الباب الآخر هو باب الحمام..
حاولت بعد أن جلست أن استرجع من ذاكرتي بعضا من الآيات و الأذكار أهدىء بها روحي لكنني لم أستطع أن أكمل جملة حتى آخرها .
سكنتني الهواجس في باب وراءه جدار و تذكرت عندما ابتنوا لصبح جارية الخليفة جدارا أمام باب غرفتها لتجد نفسها في غرفة بها باب وراءه جدار بما يعني أنها في قبر كبير.. كنت ك صبح لكن الوجهة معكوسة .. و لعلي دخلت هذه المصيدة بمحض إرادتي و بحماقة كبرى لم أكن أعرف مداها عندما خرجت من بيتي .. خفت أن أموت بالرصاص فيتحول بيتي إلى قبر كبير فدخلت إلى قبر آخر أموت فيه رعبا ..
عادت الفتيات إلى الغرفة يحملن الشاي و الأكواب النظيفة جدا و قدمن لي بأناقة تشي على تربيتهن الرفيعة بالرغم من عزلتهن..
لكن الفضول الذي يسكنني دفعني للصمت و الإيماء برأسي لكل كلمة تقال في هذا المكان ...مكان مريح و آمن و لكنه خطر و مزعج في ذات الوقت .. جدار يقف وراء الباب لغز سكن بالي .. ليس من الذوق أن أسأل عنه أهل البيت فهذا يعد تدخلا في خصوصيات البيت ..
كنت أود أن أسال عن سيد البيت لكنني أحجمت إذ أن هذا قد يعد عيبا كبيرا و في نهاية الأمر لا شان لي بهذا الأمر فأنا سأمضي في الصباح إلى بيتي ..
بدأت سحب الخوف و الترقب تزول فيما بيني و بين الأم و بناتها و تحدثنا في كثير من الأمور تختص بالحياة اليومية و تربية الأولاد و التعليم و عرفت منها أنها تقوم بتعليم بناتها في المنزل لأن سيد البيت يعتقد أن الخروج للانخراط في المجتمع مفسدة كبرى .. كنت أود أن أدحض لها هذا التفكير العقيم لكنني أحجمت عن هذا فقد علمتني التجارب السابقة أن لا أحاول تغيير قناعات الناس الذي ارتضوا لأنفسهم قيودا معينة .. هم أدرى بأنفسهم يعلمون أن لا حياة لهم دون هذه القيود .. الحرية سلوك لا يمكنك أن تعلمه للآخرين بل يجب أن ينبثق من ذواتهم .. الكرامة أيضا صنو الحرية ..
عجبت إذ عرفت أن الأم البدينة التي ترتدي فستانا طويلا مشجرا و قمطة بيضاء على رأسها تحمل درجة علمية جيدة و تنحدر من أسرة كريمة. و لكنني أزحت عجبي جانبا فقد قابلت كثيرا من النساء اللواتي يعتقدن أن مسيرتهن في الحياة تتوقف عند الزوج و الأولاد ..هذا ما عملهن إياه المجتمع الأبوي و هذا بالضبط ما منعني من نقاشها في أي موضوع لأنني كما دوما سأجابه بدفاع عن ذكورية المجتمع أكثر من الذكور أنفسهم.. النساء غالبا ملكيات أكثر من الملك نفسه .
لم أشأ أن أغادر مكاني الذي جلست فيه رغم أن الفتيات دعونني لأنام في غرفة نوم فارغة أعدت للصبي الذي لا يبدو أنه يريد أن يكبر ..لكنني بدافع الفضول و ربما بدافع آخر أحببت أن أذهب للحمام... ليست عادتي فأنا أخشى كثيرا أن لا تكون نظافة الأماكن مطابقة لمعاييري في النظافة لكنني مشغولة بباب يختبئ وراءه جدار..
هناك من يقرأ أفكاري في هذا البيت لأنني ما إن خرجت من باب الغرفة حتى مر الطيف الأسود المسرع كريح من أمام الباب الغريب و لامس أطراف ملابسي.. انعقد لساني من الرعب و أشرت للطيف و أنا أدعو الفتاة الصغرى لتلاحظ لكنها تجاهلت في صمت.
أعرف أن ما يخيفني موجود فقط في رأسي و إن بقي في رأسي فسيبقى للأبد .. قررت أن اقتحم المجهول اقتربت من الباب قبض الطيف على يدي فنفضتها في قوة .. و فتحت الباب .. ليس إلا الجدار المدهون و الصمت .
اقتربت مني الفتاة الصغرى و همست : هذا البيت بناه والدي و هذا الجدار يغطي القبر الذي دفن به .. كانت هذه وصيته و قد بني القبر قبل البيت والدي أراد أن يبقى على مقربة منا حتى بعد موته ..ليتأكد أننا ننفذ تعاليمه ..يقودنا مع أنه يقبع وراء باب وجدار.. مسجى جسدا أكله الدود لكنه يراقبنا و مفاتيح حياتنا بيده ..