اعلم ان الأمر لا يعنيك ، قدر ما يعني لصنم ما صنعت به الأصابع الملطخة بالطين..
أنا التي دونتك في كتبي ، و رسمتك ، و نحت تماثيلك كلها ، ثم ناديتك:
هيت لك..
قد قالت أمي حقا ان هذا دأب أهل الطين و الماء ، فهم ينسون الشجر ، و حلاوة الثمر ، و غرابة شروق الشمس ، و يبحثون عن عشق غير منظور ، فلا يمكثون ليلتهم حتى يكونوا قد قرروا صناعته من طين ، يسلمونه نبضهم ، و يضعونه أمانة بين أضلاع من صنعوا.. ثم يشتكون دموعهم الى صمته ، و ليالي السهد في انتظار أول همسة منه.
رأيت بأم عيني كل ما مرّ بأمي ، غير انني أستغفلت بصري و بصيرتي ، و وضعت إيمانها بعدمية وثني تحت باب خرافة امرأة عجوز قد قتل الزمان كل أمانيها ، فأصبحت تحذرني من أمل هو كل ما أمتلك من غدي..
مثلما علمت ان المسنين يقولون كل موعظتهم قبل ان يناموا نومة اللحد..
فقد شهدت ان إرتكاب الأخطاء عند بني الإنسان متوارث ، انما العظة لا يصنعها الا شيب الرأس ، و تعجز عن نقل أوجاعها كتب السماء.
هيت لك ايها الطين.. ايها الصامت.. ايها المعبود..
ان لرائحتك براءة العبق ، و لصمتك جمال الموسيقى ، و لوقوفك الذي يزدريني دلالا لا يليق الا بك..
في صباي كان لألقك حضور تمرد على مداه ، و عقب إجتياح جنتي بكل أصناف الخريف التي لا ترحم ، إرتضيت ان تكون لمعالمك جغرافية رفضتها بأنفة قبل إشتداد الريح و تساقط كل أوراق الشجر..
و يا لحماقتي حين صرخت مجددا:
هيت لك..
كيف لعتبي ان يطول زهدك في حبي؟؟..
ان الغنج الذي أضرم نار الشوق كان إفتقارك لحاسة ما تتلمس أبعادي..
و لا تندهش!!..
فأنا خير من يدري ان الأصنام لا ترى و لا تسمع..
و لا تعجب ان سلاحي في وجه غد معصوب العينين مثلك هو إثم عشقي لضرير.. أصم..
أنت تجهل مذاق الليالي التي لا تبوح بأسرار صباحاتها.. مثلما لا تشتهي ان يكون الآتي غير ما مضى..
خوفي من قباحة ما تفعل.. إيماني انك لن تفعل شيئا..
و هذا الدرب الذي حفظ غبائي عن ظهر قلب يرى بعين اليقين أن أحب الطرق الى نفسي تلك التي سحقتها أقدام الملايين من مبصرين سبقوني على وحشة طريق معشوشب زاهر لم تمسه قدم بعد ، و إن أبعدني عن لظى اليأس و خيب المسعى نحوك..
اني الآن لا اشتكيك الى أحد ، و لا ألومك.. فأنت الحب الأول الذي يمنع المرء على الإتيان بمثيله ما بقي له من العمر..
أنت من حذرني منه كل فلاسفة الأرض و علمائها ، و كل من اكتووا بنار لم توقدها انت البتة في صدورهم..
انت انت.. الوثن الاعمى ، و انا أنا.. تلك التي تطرح ثمارها حيث لا ثغر سيتذوق حلاوتها ، و لا أنامل ستلتمس رقتها..
رغم ذلك ، حتى اللحظة التي ستبدأ فيها التجاعيد بالإرتسام على وجهي ، سأجاهد ان لا تكون سواحل دموعي مغطاة بمويجات طائشة تمس طينك المترف بولهي و تأوه شهوتي..
لا أود حتى إغماض جفن الوجد ان أراك مبتلا بكل زبد بحار غضبي و حزني و شبقي..
أخشى عليك الذوبان في حضن حمم الماضي و براكين الإنتظار..
و إن حان فصل ذبول الصبا ، و أصبح كفنك موشى بنتوءات عظامي فاني لن استكين كغيري ، و لن أستمع لنصائح الشيوخ و توسل أمي..
جديد أنت دوما بحلة لست تملكها ، انما تغزلها الأيادي المرتعشة شبقا لتسعد بإكذوبة أنبتتها مخيلة الجنون.. و ما أشقى من يسعد بحكايات لن تكون الا أطيافا مرت بأجفان الوسن..
أيها المعبود.. اني اكتب سطوري و انا أذرف دمع الوداع و الندم دون أن أنسى ان رسالتي لن تصلك ، و لن تكون عبرة لمن سيأتي بعدي ، و إن وصلتك فلن تراها ، و إن رأيتها فستعجز عن حل رموزها البشرية..
و أسوأ ما ذكرت لك من حقائق ، انني لازلت أعاند بكبريائي ذلتي و أصر على تدوين آخر حرف بآخر دمعة في آخر ليلة..
ان الكتابة اليك الآن ليست بدافع شوقي لأحضانك التي افنيت دهري في الوقوف عند رماد مدافئها ، بل هلعا من لحظة تزل بها قدمي على شفا القبر..
و قبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة أعيد على أسماعك قصائد ألمي ، و أقسم لك انك ستتحطم كأنني لم أصنعك بيدي.. و ستمحى سطوري كأني لم اأكتبها ، ـو يفنى جسدي كأنه لم يخلق في متوالية بشرية لا تمل من غباء إدمانها على لذة تكرار عذابها..
هناك بدعة أخرى علي أبتلاع مرارتها قبل الرحيل ، و لابد من الإعتراف بها:
غدا سيكون لك الملايين من العشاق الجدد.. الحمقى الجدد.. الموتى اللاحقون..
و سأهيم بك معهم _ناسية ما حدث لي في بدن آخر قد دفن_ قدر ما رقصت الارض حول أهزوجة الشمس..
انتهى..