حين اختطفه الموت أدركت مقدار ما خلفه غيابه في حياتها من فراغ ... فقد انقطعت علاقتها بمن حولها حين اختارته بدل ما أرادوا .... تذكرت جنازته .... القبر الذي ابتلع جثته كان بحجم ما تشعر به من ضياع، وفراغ ...
ترددت قليلا قبل أن تلامس أصابعها جرس الباب ... يبدو المسكن فاخرا ... هنا يقطن أناس لا يقلقون بخصوص أواخر الشهر، ولا يفرغون عجزهم بضرب الزوجة والأبناء ... كانت تشعر بالرهبة في السابق كلما مرت قرب مثل هذه البنايات ...
راودها شعور بالقلق ... فهي لا تعرف وجه الشخص الذي خاطبته في التليفون.
كم ينبض القلب بذكراه، وبقدر ما بقيت العين تحتضنه من ملامحه ... أيقنت الآن أن أجمل الفضاءات هي تلك التي لا زالت تحتل مساحات من الذهن والعين...
وتجيش النفس بعبير الذاكرة...
اشتدت رغبتها في السير بلا وجهة، وأن تغمض عينيها وتسير في اتجاه المجهول...
أن يقبل هذا الرجل تشغيلها ... شعاع نور قد يعيد لحياتها بعض الأمل والاستقرار...
ترددت مرة أخرى قبل أن تضغط على الزر... الصمت يعم المكان، وسرت في جسدها قشعريرة ربما بسبب خوفها بين جدران رخامية لا تبعث في نفسها ما هي بحاجة إليه من هدوء...
في لحظة ما تصورت أن بإمكانها هزم العدم... ترى هل كان بالإمكان تقليص مساحة الألم،... ممددة كانت في سجنها المسيج بالفراغ...
وأخلى ظل الهدوء مكانه في الفؤاد لصقيع الوحدة...
شعرت ببرودة رخام الجدار تحت كفها... تذكرت قوله يوما: الرخام هو أجمل شيء ميت...
والآن حان وقت رحيلي... لا تبك يا رفيقة أطلقي العنان لذكرياتك عساها تخفف عنك لحظة الرحيل... سأكون هناك بالانتظار لما يأزف أوان رحيلك...
وتساءلت: أليس ما عزمت عليه، ضعف واستسلام... واختيار لموت بطيء...
ومرة أخرى ارتعدت يدها وهي تتحرك نحو زر جرس الباب...
تذكرت أنها لم تحدد طبيعة العمل الذي سيعرضه عليها صاحب هذا البيت... كان الحديث مبهما، ومحملا بالكثير من الألغاز...
ارتعدت يدها جراء برودة الرخام، خالته نائما تحت هذا الحجر... أبدا لن تداعب ضحكتك فضاءات الحياة،... راودتها فكرة بناء قبره وتغليفه بالرخام، عسى أن تكون الأجرة كافية لتحقيق ذلك... ترى ما الذي يريده منها صاحب البيت... تذكرت أنه شجعها على عدم التردد في العمل عنده ، وأنها ستحصل منه على أكثر مما تتوقع من أموال... فهو بحاجة فقط لقدر من العناية بعد أن أحيل على التقاعد...
فكرت أن عليها امتلاك ما يكفي من الشجاعة لقبول العرض... وتذكرت أن اسمها أعجبه حين سألها عبر التليفون:
-إسمي جميلة يا سيدي
-وأنا متأكد أنك كذلك؟ قال لها.
وماذا عساها تفعل الآن؟ فهي تشعر بقدر من الضياع، والخوف... مؤكد أنه ينظر إليها من عليائه، ينتظر لحظة تجاوزها لخط الوصول...
وبلا تفكير كان أصبعها يضغط على زر الجرس انبعث صوت بلبل جميل،... انفتح باب الشقة، ومن وراء الباب ظهر وجه الشيخ تعلوه ابتسامة ماكرة:
-أحب من يحترم مواعيده مثلك يا جميلة.
خطت داخل البهو فوق أرضية رخامية زرقاء وسقف علته سحب تسبح في فضاء لازوردي،... فقالت وكأنها تحدث نفسها: عسى أن يكون البحر قبري، والسماء كفني وحضن الحبيب الغائب شمس تدفيء ذكريات ولو كانت من رخام.