صكت خالتي وجهها بحدة ،وصاحت بصوت جاف خرج من بين أسنانها:
ـ بنت الحرام!!
خالتي وأمي منزويتان في غرفة "بالدويرية" بعيدا عن أنظار المدعوات،الأولى مطرقة ودموعها على خديها بينما رفعت الثانية من صوت جهاز التلفازمخافة أن يسمع كلامهما.ظهر على الشاشة مذيع نشرة منتصف الليل وقد ارتسمت على وجهه المستطيل ابتسامة لامعنى لها:
ـ مازالت قوة التحالف تدك بغداد بأنواع مختلفة من القنابل والصواريخ تأتيها من كل الجهات...
رفعت العريفة العجوزصوتها الأجش ،وعيناها الضيقتان على الباب محاذرة أن يتسرب شيء من كلامها إلى الخارج:
ـ الرجل حاول كثيرا... لكنه لم يجد شيئا!!
ليلى ابنة خالتي مكومة ،كفأرة مذعورة واجفة،فوق السرير في غرفة تنيرها شمعتان فوق شمعدانين فضيين.الجو ثقيل ،ورائحة العرق والخمر تزكم الأنوف.جسدها الصغير ملفوف في إزار أبيض أعد ليكون عربونا على طهارتها.
في الوقت الذي قبع العربي، بجلبابه الأبيض ،في ركن قصي من الغرفة يتصبب عرقا ونظراته زائغة.
أردفت العريفة ، وعيناها تمسحان وجه خالتي وقد شعت منهما مخايل الدهاء:
ـ المسكين صبر عليها كثيرا،، لابد أن نجد حلا..
النساء و الفتيات يرفلن في أبهى حللهن في خيمة كبيرة نصبت أمام الدار،يقرعن الدفوف ،يغنين،يزغردن ويرقصن في هستيريا واضحة.وبين الفينة والأخرى يسترقن النظروالسمع إلى الغرفة التي توجد بها ليلى،وينتظرن، بفارغ الصبر، ما ستسفر عنه اللحظات القادمة.
ذات ليلة ظلماء، تسللت ليلى إلى فناء الدارالمكشوف على أطراف أصابعها وتلقفها الدهليز الطويل ،الذي كانت ترتعش عندما تقطعه وحدها.في غفلة من الجميع،ارتمت في أحضان الزائر الغريب كعصفورة خائفة...
كبس الليل على القرية رغم المصابيح الكثيرة المحيطة بالدارفي حرب علنية مع ظلام الليل.الزغاريد تتوالى والأغاني تتعالى..وبين لحظة وأخرى يحل السكون دليل تعب المغنيات ليسمع نباح الكلاب ونقيق الضفادع ...
كانت ليلى فراشة ندية أينعت في غفلة من الجميع ،لم يأبه لها أحد إلى أن خطبها العربي ،الكهل الذي عاد من فرنسا بعدما هجرته زوجته وأولاده.قال أبوها:
ـ على بركة الله ..
قال العربي:
ـ خير البر عاجله..
مازال صوت المذيع يلعلع دون انقطاع:تعرف مدينة القدس حركة دؤوبة لطمس معالمها...
انتبهت خالتي على صوت العريفة المنهك:
ـ أريد فروجا صغيرا..
طارت أمي الى الزريبة من الباب الخلفي دون أن يلحظها أحد.أحضرت ديكا صغيرا، انتزعته من أحلامه،وسلمته للعجوزالتي جزت رأسه بموسى صغيرة واعتصرت دمه في قنينة صغيرة أخرجتها من حضنها.
بعد لحظات ،خرجت العريفة من غرفة ليلى وفوق راسها صينية فيها ثوب أبيض تجلله قطرات دم طري .تبعها العربي مهرولا وقد دثر رأسه بقب جلبابه متجها إلى حيث ينتظره الرجال. تطايرت الأوراق والقطع النقدية وارتفعت أصوات النساء و الفتيات ،وهي تقرع أذني العربي الذي حاول جاهدا أن لايسمعها:
هاهو يا اولاد الدرب...
لاتقولو العريس كذب...
بياضي على اليوم يا يما...
بياضي على اليوم يا يما...
...........................
............................