دعوني أخبركم عن تجربتي الأولى ،عن اندهاشاتي، فقد كان العالم واسعاو المسافات شاسعة وما كان يجري كبيرا و متنوعا و كانت سرعة التقاطي للأفكار و الرؤى بطيئة و متمهلة، ذلك لأن سيلا من الدهشة و الإعجاب يسيل حولي كلما أطلقت عيني تجوسان المكان ، تتفحصان كل وجود جديد أعده صيدا و غنيمة لغرائزي التي تنطلق تباعا دون مقاصد، هذه هي تجربتي الأولى و هكذا كا ن وجودي منبسطا و محتفيا بإدراكات ملونة ، لا مثيل لها في تاريخي الماضي القصير ، هكذا أتممت تأسيس قواعد إدراكي و من ثم ضعت في التيه الممتد من بوابات الثغو الأولى حتى مصاريع أبواب الهرم المهترئة ، كائنا لا أشبه ما كنت عليه إبان وجودي المجازي في ذلك العالم العلوي، و ها أنا الآن بعد ذلك أجلس في مكان أوهمت نفسي و الآخرين على إنه المكان الملائم ، يمرون بي يرونني بسحنتي ذات الملامح العادية ، لكن ما بداخلي يزمجر كحيوان جريح ، لست أنا وحدي كذلك إذ إنني أكاد أرى حيواناتهم الداخلية التي تطل من أعماق نفوسهم تتحين الفرصة للأنطلاق في أدوارها بعضهم حيوانه مستخذ ككلب يضع ذيله الأعوج بين فخذيه القذرتين، يلبس تلك النظرات المنكسرة ،و بعض تلك الحيوانات الداخلية يعوي كالذئاب وبعضها الآخر يتلصص كابن آوى وأخرى تزمجر كأسود جائعة و آخر ينهق كحمار ، جميعنا نشترك بشكل عادل ببزوغ حقائقنا الحيوانية التي تنكر لها باضطراد زمني متتابع و طويل تكويننا المدعي بأنه ينتمي للسماء و حيث دربنا أنفسنا على إتقان الوهم ، ذلك الوهم الذي مفاده إننا عائدون إلى مكاننا الأصلي ، مكاننا الأول العالي هناك ، لكننا عندما ننسى دربتنا على السمو نسقط عاجزين إلى حضبض جذورنا المزمجرة و العاوية و الناهقة وأحيانا المغردة كالعنادل ، كدجاج يملك أجنحة لكنه لا يطير بيد أنه يصفق بجناحيه مذكرا نفسه بأنه لا زال ذلك الحيوان المنتمي إلى جذوره الطائرة.
- تفضل استاذ الشاي..
تناولت استكان الشاي من يده التي لم تكن في المنظور لكنني لاحظت كمه المبلول بماء حار لا زال يتصاعد منه البخار و لم تكن كلمة استاذ إلا خيطا من خيوط الخديعة التي أدمنها الكائن الفراغي المنتشر في كل مكان ، و عندما نظرت إليه ،كان يبدو مستنكرا سماجتي الناتجة عن عدم وصول رنين كلمته الموحية بنعومة نسيج الخديعة الناتجة عن رنين طبل يعلقه إلى جانبه ، عندها لم أستنكر ذلك إذ تذكرت طبلي الذي كنت أحمله على نحو سليقي ، كان ذلك اليوم الذي قطعت فيه حبل الطبل المعلق إلى جانبي هو آخر عهدي بمهنة الخديعة التي ورثتها عن أسلافي ، ذلك اليوم الذي لفظني فيه الفراغ إلى حيز الحقيقة الضيّق ، في البداية كنت أشعر بالإختناق لكنني علمت بعد زمن قصير أن حيز الحقيقة الجديد قابل للتمدد و الاتساع .....
ارتشفت استكان الشاي ببطيء شديد و كانت مقاعد المقهى مرتبة بشكل مقصود يفضي إلى تحقيق أقصى انسيابية ممكنة للضجيج المحتمل ،الرجل صاحب المقهى ينظر نظرة ارتياح إلى كل ذلك ، كانت الطبول تقرع في كل مكان من المقهى ، طبل يحاذي طبلا ، انتبهت الى إن بعضهم يجلس بهدوء لا يصدر ضجيجا ، قلت في الواقع ، لم لا ، أنا لا أملك طبلا و ساغ لي أن أمد عنقي نحو أولئك الصامتين ففوجئت بأن طبولهم كانت تستقر بين فخذي كل واحد منهم ، ربما كانوا بانتظار شيء ما قبل قرع طبولهم ، ربما لم يكونوا من الناقرين ، إذ يحتمل أن يكونوا من القارعين الأفذاذ ، في تلك اللحظة أنتهيت من رشف استكان الشاي و اختفيت مثل قشة بين قش كثير على سطح هذا السيل و رغم الدوي المكتوم الصادر عن هذا السيل إلا إنني لم أشاهد طبلا بشكل مكشوف و صريح و كنت مرتاحا لذلك إلا إن راحتي لم تدم طويلا إذ لاحظت إن أي إثنين ينتحيان جانبا ، سرعان ما يخرجان طبلين من مكان ما ثم يبدءان بالقرع كما يحلو لهما و يستمر ذلك الفعل الضاج ولا بد لي من أن أسميه فعلا لأن الأيدي و الرؤوس و الأكتاف و الأعناق كلها تشترك بجوقة تؤدي عملا ، و اكتشفت أن ضجيجا حركيا و صوتيا يهاجمان العين و الأذن مما جعلني بائسا لعلمي بأن سد أذني فقط لا ينفع لقهر الضجيج بل علي أن أغمض عيني و عند ذلك سأكون كائنا أصما أعمى ، سال العرق من جبيني غزيرا عندما اكتشفت خيوط الخدعة الخبيثة التي ستحولني إلى مخلوق منحاز كليا إلى عوالم الضجيج و ذلك بسلبي سمعي و بصري و ترك فمي مفتوحا ليمارس ضجيجا بلا حدود ،هذه إذن هي الخدعة ، إلى هذا الحد أرعبتني الفكرة و على طول الشارع الممتد من الشمال إلى الجنوب كنت أتمرغ وسط ضجيج لا ينقطع يتحول أحيانا إلى فحيح مخيف أو نقيق مقرف أو نباح بعيد مختلط بعواء أبعد و هكذا رحت أستفز كل طاقاتي للعوم وسط بحر من الضجيج المنوع ، في اللحظة التالية شعرت أن كتفي اليمنى قد انخلعت من المفصل إثر ارتطامها بشيء يشبه السنديانة العتيقة ، ندت عني صرخة مكتومة ، تبينت أن السنديانة العتيقة كانت رجلا أو بقايا رجل يابس ،و قد استحال إلى ذلك الشيء الذي لا يجيد الأعتذار أو يتقن لغة ما ، فراح من فرط حيرته يمارس ضجيجا غريبا يشبه النفخ في بوق عميق الصوت على وتيرة واحدة يطيح بما تبقى لي من قدرة على السمع محاولا تدميرها ، انتبهت الى ذلك مبكرا فأغلقت أذني بكفي محاولا الرسو على شاطيء هذا السيل الصاخب، شعرت برغبة شديدة للجلوس مجددا بيد إنني لم أجد رصيفا يصلح للجلوس ، كان رصيفا تنتهكه الأقدام بلا حدود ولم يكن هناك إلا نضدا عليه أقداح زجاجية مصفوفة بدقة ملفتة للنظر و خلفها ثلاث ماكنات لعصر الفاكهة ، اتكأت على النضد ، قلت مؤشرابورقتي من فئة الألف ذات اللون الذي يشبه لون عصير الجزر ....
- أريد عصير جزر
في تلك اللحظة رحت أراقب حركاته، أهمل طلبي وراح يضرب على طبول كثيرة صفت بمحاذاة النضد، تراجعت سريعا كالملدوغ ثم خطوت مبتعدا وكان خطوي سريعا و متقاربا، شككت بعيني اللتين في رأسي ، أيعقل أنهما تتآمران علي بتحويلهما كل شيء إلى طبول قارعة و سمعي ما بال سمعي أهو كذلك ؟ أنني حقا في ورطة ، أكره الطبول بكل أنواعها حتى تلك التي تشترك في الجوقات الموسيقية و شجبت كل معزوفة يصنع إيقاعها طبل مهما كانت و أيا كان مؤلفها إذن تبا للطبول ،لكن ذلك لم ينفعني كثيرا فقررت الرجوع إلى البيت قبل أن يقتلني الضجيج ، و لم يكن الباص الصغير يخلو من طبول و عندما قذفت نفسي إلى شارعنا الذي يطل بيتي المتواضع عليه و الذي كنت أحسبه شارعا هادئا ، كان مليء بتجمهرات هنا و هناك كانوا يحملون طبولا احتفالية تعرفت على بعضهم ، لم أعهد بهم ميلا للطبول قبل ذلك, لكنني بعد كل ما رأيت لم أعد مندهشا مما يجري لأنه كان يجري بشكل بدا مقبولا من الجميع كان بعضهم يقرع طبله بمتعة كبيرة تقرب من حدود الطرب ، دلفت إلى البيت فوجدت الجميع مجتمعين حول طبل كبير وسط غرفة الجلوس ينقرون على طبلهم دون مهارة ، لم ينتبهوا لي لقد سلب الطبل عقولهم ذلك الطبل الذي لا أدري كيف حصلوا عليه و كانوا ينظرون إليه بفخر و كأنهم يقولون لي ها نحن أيضا لدينا طبل – أنا ليس لي طبل ، رحت أصرخ ، أنا أكره الطبول ،انا أكره الطبول..أنا أكره الط...... ثم قيدوني و ذهبوا بي إلى مركز الشرطة..،
قال الضابط الذي يضع طبلا صغيرا جميلا على منضدته يستخدمه كمثقلة فوق الأوراق ا الكثيرة
- أيها الكاتب افتح المحضر.. يعترف بأنه لا يود امتلاك طبل ولم يقتن واحدا ولا يرغب بذلك و هو يكره الطبول .
ثم وضعوا شيئا لامعا و ضيقا في معصمي و ها أنا أمامك سيدي هل أنت القاضي ، و هل القضاة صاروا يلبسون المعاطف البيض .