دوى المحرك مزمجرا في يأس، محاولا الانعتاق من أسره ليتوه في صمت الجبال.. و السيارة العجوز تلتهم الطريق المتعرج أمامها.. في كد و مثابرة و كأنها باتت تحفظها عن ظهر قلب...
في الجهة الخلفية من السيارة أرواح حبيسة، استكانت في أحضان الزمن، عيون تبصر و لا ترى شيئا.. و أفكار شاردة تجتر أحكام القدر..
جلس صابر بين تلك الأرواح المنجرفة وراء تيار القضاء بقسمات جامدة منحوتة من صخرة الجرانيت... لا شبح ابتسامة في الأفق يبشر بانفراج جو العبوس ..في رحلة يومية بين جبال تزيد من إحساسهم بتفاهتهم و عقم أحلامهم...
شرد صابر بفكره...و انفلتت ذاكرته من سجن المكان مسافرة عبر الزمن تنبش في ذكريات الماضي البعيد.. تذكر يوم أعلنت نتائج البكالوريا.. و كيف استقبله أهله و جيرانه بالمشروبات و الحلوى.. و هو كالطاوس يختال بينهم مستقبلا عناقاتهم و زغاريدهم و كأنه ملك في حفل بيعة و ولاء..كيف لا و قد حصل على الامتياز و الدنيا تفتح له أحضانها و تسقيه من طيب كأسها.. و هو مأخوذ بها، مفتون برقتها، ثمل بعشقها...
ماذا سيفعل الآن و ليس له من إرث أبيه إلا الحسرة و الضياع... فكل آماله تناثرت شظايا أمام ناظريه.. و أحلامه تحتضر و هو يقف أمامها مكتوف اليدين يكبله عجزه و يقتله يأسه...
لم يجد أمامه إلا باب مركز المعلمين ليصون إرثه.. و يطعم أفواها جائعة...و هو يمني النفس بأنه يوما ما سيعود لينبش ركام الزمن باحثا عن شظايا أحلامه لعله يبعث فيها الروح من جديد...
تعود أن يكلم نفسه أمام المرآة، و كأنه جني يسكن ذاك الجسد المتآكل المنعكس في مرآة تخجل من الصورة التي تعكسها فتحاول أن تشوش على ملامحها، كان يقول :" لا بأس سيأتي يوم تغرم بي حبيبتي و ترضى عني بعد كل هذا الجفاء".
مرت أيام و ليالي طويلة بين عواء الذئاب و نباح الكلاب.. و سمفونية أصبح يمقتها لحشرات ترفض الصمت المنبعث من قلب الليل... و جبال تنتصب كالوحوش تعانق مخاوفه و تداعبها.. أحيانا كثيرة كان يتساءل هل هذه البقعة حيث تم تعيينه كانت موجودة قبل الآن أم أنها أُوجدت من أجل تعذيبه؟ فهو لم يدرسها لا في مقرر التاريخ و لا في مقرر الجغرافيا.. و لم يرها قط على خريطة هذا البلد الحبيب.. سؤال آخر كان يؤرقه: هل تتلذذ الوزارة المشرفة عليه بتعذيب العبيد الذين يعملون بأرضها فتضعهم في منجنيق و تقذف بهم لأحضان العبثية و الصدفة؟
استفاق من شروده.. نظر إلى رفقاء درب الشقاء ممن رمت بهم أقدارهم إلى هذا المكان... و ابتسم متهكما.. إنهم كمن يرحلون إلى السجن بعد أن تم الحكم عليهم بالسجن المؤبد.. كيف استطاع أن يتأقلم مع هذا المحيط و ينصهر فيه أعواما منتظرا أملا أخذ يتلاشى وراء جبال شامخة لا تسمح للآمال أن تسكنها أو أن تتسلل إليها...
سنوات و هو ينظر في أعين بريئة تأتي لتسرق الأمل.. أملا في الانعتاق من أسر هذه الجبال التي تئد أحلامهم و تقتل عزائمهم ...فيعتصر قلبه من الألم.. كان يود أن يلقي بالمقررات الدراسية في سلة المهملات و يلقنهم أهم درس و عنوانه الحياة.. فمن يثق بعد بالحياة؟ !!!!!