ها هي تقف وراء الشباك ذي الستائر البنية ، تحمل على ذراعيها ابنتها ، وتنظر إلى نعش زوجها المحمول على الأكتاف ، يتقدم حاملو النعش ، يتبعهم المشيعون مرددين اللازمة الجنائزية ، هي لا تعرف حقيقة مشاعرها في هذه اللحظة ، ملتزمة الصمت والهدوء ، بخلاف باقي نساء عائلة زوجها اللائي يطلقن الصرخات والنحيب المرفق بلطم الوجه ونتف الشعر ، هي اختارت أن تنعزل بغرفتها مع ابنتها فقط ، لم ترد أن تشارك الآخرين في هذا المأتم لأسباب تحسها ، ومقتنعة حتى النخاع بها ، لكنها أعجز ما تكون على تفسيرها للآخرين ! ضرتها تنتحب ، تبكي وتشهق ... عز عليها فراق زوجها أبي أولادها الخمسة ، واليوم فقط غفرت له كل ما تقدم من زلاته وما تأخر ، بما في ذلك زلته الكبرى المتمثلة في زواجه من "زينب" تلك المتصابية المتعالية التي تغلق عليها باب حجرتها الآن .
قبل ثلاثة عشر سنة ، لما كان عمر "زينب" تسع سنوات كانت تذهب كأترابها إلى المدرسة ، وكانت ذات مساء عائدة إلى البيت صحبة رفيقتها "سعيدة" ، فالتقطتهما سيارة "العربي" أبي "سعيدة" ، وكان في كل مرة يركبان معه ، يوصل "زينب" أولا إلى منزل ذويها ثم يعرج على بيته ثانية ، لكن في هذا اليوم ، كان له رأي آخر ، فتوجه مباشرة إلى بيته ودعا الصغيرة لانتظاره لبعض الوقت مع "سعيدة" حتى يقضي شغلا مهما كما أفهمها ، دلفت البنتان إلى حجرة "سعيدة" وانغمستا في اللعب ... وأسرع الوقت فحلت الساعة التاسعة ليلا دون أن يشأ "العربي" أن يوصل "زينب" إلى أهلها الذين كانوا ينتظرونها قلقين بدون شك ... وأخيرا نادى "العربي" على "زينب" ليتوجها معا إلى السيارة ... وعوض أن يقصد رأسا بيت أهلها ، ذهب بها إلى إحدى الدور في حي لم تكن تعرفه ، طلب منها مرة أخرى أن تدخل معه إلى المنزل وتنتظره لبضع دقائق حتى يقضي شغلا مستعجلا !
لم تمانع الطفلة ، فدخل العربي وزينب الصغيرة تتبعه ، تخطيا الصالة إلى غرفة نوم، ساورها خوف خفيف منبعه غريزتها ، أجلسها على الفراش وبدأ يتحسس جسمها الصغير ! قبلها أولا كما كان يقبل ابنته دائما على مرآها ، ثم ضمها إلى صدره ، قبلها في فيها ثم شرع بنزع ثيابها ، فأخذت تمتنع : " أرجوك يا عمي لنذهب إلى البيت ، تأخرت ... سوف تضربني أمي !" ركز نظره على وجهها الصغير ... ثم دفعها بقوة واقتلع كل ثيابها : تنورتها وسروالها والتبان ... صرخت الطفلة لكن صفعة قوية وتهديدا بمدية كانا كافيين لتلين ، وتستكين ، ويتحول صراخها إلى أنين خافت متقطع ... وتحول "عمها" الذي كان يعطف عليها كما يعطف على "سعيدته" إلى عدو حقيقي ، وحش ذي قوة جبارة !... نزع سرواله ثم أخرج شيئه المنتصب فكان آخر شيء تراه الصغيرة قبل أن تغيب عن وعيها ... لتصحو بعد حين على ماء دافئ ينساب على جسدها العريان في الحمام ، وألم فظيع يضج ما بين فخديها ! بدأت في الصراخ ، لكن صفعات "الحاج العربي" كانت لها بالمرصاد فنجحت في إخراسها !... ألبسها ثيابها على عجل ثم ناولها بسكويتا وعصير برتقال مكرها إياها على تناولهما ثم حملها إلى السيارة ... أوصلها إلى بيت أهلها ، ولما لم تستطع المشي طرق الباب وطلب من أخيها "رؤوف" أن يحملها إلى الداخل مدعيا أنها كانت تستحم مع ابنته "سعيدة" في حمام منزله فزلت قدماها وسقطت على أرضية الحمام راطمة رأسها بالجدار حتى فقدت وعيها ... لم يساور أهل زينب شك في تصديق "العربي" الذي طالما أكد لهم أن "زينب" هي بمثابة ابنته "سعيدة" .
حملت البنت إلى فراشها ، وقفل "العربي" عائدا بسيارته إلى حال سبيله بعدما تلقى من أهل زينب الدعاء الخالص بالصحة وطول العمر والشكر والامتنان على العناية التي يحيط بها ابنتهم.
عادت الأم إلى فراش زينب للاطمئنان عليها ، فارتمت البنت في حضنها وبدأت تبكي بمرارة ولما سألتها عما حدث لها بالضبط ؟ قالت لها بالحرف : "عمي العربي ضربني ، والله العظيم إنه ضربني" لم تشأ الأم تصديق ابنتها ولا ما تسمعه أذناها فعنفتها ونهرتها ، لكن زينب التي أصبح وجهها شاحبا ، أصرت على أن "الحاج العربي" ضربها بدون سبب ، وأخذت تحكي لأمها كيف أخذها إلى منزل آخر ، وكيف جردها من ثيابها وعنفها و... !" ذهلت الأم وصرخت ليلتحق بها باقي أفراد الأسرة متسائلين عما حدث، فقالت لهم إن البنت تقول إن "الحاج العربي" اعتدى على شرفها ... تسمر الجميع في أماكنهم مشدوهين غير مصدقين ما يسمعون ، انهار الأب فارتمى جالسا على كرسي ، وأخذ رؤوف يعبر الغرفة جيئة وذهابا ، بينما عادت الأم لترفع صوتها بالصراخ داعية بالويل والثبور ... استعاد الأب بعضا من رباطة جأشه وصاح في زوجته : "كفى ! هكذا ستفضحيننا يا امرأة ! ثم نهض متثاقلا من مكانه ، لبس جلبابه الصوفي وبلغته ، ونادى على ابنه رؤوف ، فخرجا متوجهين إلى دار "الحاج العربي"...
ضغط على زر الأنتيرفون لتجيب الحاجة نفيسة :
-من ؟
- هل "الحاج العربي" موجود؟
!- لم يعد بعد .
-ألا تعلمين أين هو الآن ؟ ترى متى يعود ؟
-لا أعرف "يا سيدي" ما عنده وقت محدد !
-شكرا أللا سامحينا !
أطرق مفكرا لهنيهة ثم قال موجها الكلام لابنه رؤوف :
-ماذا نفعل الآن ؟
-لنبحث عن النذل في كل مكان أو ننتظر عودته حتى وإن تطلب منا الأمر المبيت هنا !
عاد الأب للتفكير من جديد ، ثم قال :
-إلى المنزل الآن ، وغدا يكون شأن بحول الله !
-كما ترى يا أبي .
لم ينم عبد الله تلك الليلة ، ولا باقي أفراد أسرته المصدومين ناموا ، بات يفكر في المصيبة التي حلت به ، قبل ساعات فقط كان هني البال قانعا بما قسمه له ربه ... وجاء هذا "الحاج" فدنس شرفه وأضاع طفلته ، يا للعار ، لماذا يا ربي سلطت علينا هؤلاء الأغنياء "الحجاج" الأنذال ؟ اللهم عونك ومددك ... اللهم أرنا فيهم يوما أسود يا رب العالمين !!!
صلى الفجر ، وتوجه بالدعاء إلى رب السماء لينتقم من هذا "الحاج" الذي لم يجد إلا صغيرته ليقتله فيها ... انتظر بفارغ الصبر طلوع الشمس ، ثم توجه بمعية زوجته إلى ورشة "الحاج العربي" الذي استقبلهما بارتباك متصنعا الترحيب بهما وعارضا عليهما خدماته إن كانت لديهما حاجة عنده .
-نريد التحدث معك على انفراد يا حاج !
-فليكن ، تفضلا غلى المكتب .
وبعدما استوى على كرسيه الوثير دعاهما للجلوس على كراسي الزوار ، لكن السعدية تكلمت :
-قل يا "حاج ما زارا" ماذا عملت لك ابنتي حتى صنعت بها ما صنعت ... منك لله، ماذا فعلت لك ؟! قل يا وجه النحس تكلم يا نذل يا شيطان في صورة إنسان !
تغيرت ملامح وجه الحاج واضطربت عضلات وجهه حتى جعلت عينه تغمز دون إرادته ، فتململ في جلسته وقال :
-ألزمي حدودك يا امرأة ، أنسيت من تكلمين ؟ هذا سيدك الحاج العربي وأجرك على الله ! ماذا تخرفين ؟ وعما تتحدثين ؟ أهذا جزاء خيري فيكم ، اخرجي علي !
قالها وانتصب واقفا ! لم تتمالك السعدية نفسها فانقضت عليه مبعثرة كل ما كان على مكتبه من أوراق وأقلام لتمتد يدها إلى ربطة عنقه ، وتجذبه منها جذبا مسببة له آلاما ، أطلق على إثرها كحات ، ليسارع إلى تخليصه من يدها أحد الحراس بمساعدة زوجها عبد الله الذي زجرها قائلا :
-ماذا أصابك ؟ هل جننت ؟ هل أتينا من أجل هذا ؟ لو كانت الفوضى ستحل مشكلتنا لقتلت الحاج واسترحنا !
ترك زوجته خارج المكتب تلعن وتسب وتتوعد وعاد إلى مكتب "الحاج" ، حاول الحارس منعه من الدخول لكن "العربي" أمره بإدخاله وتركهما على انفراد بعد غلق باب المكتب عليهما .
وبعد مدة لم تقل عن ثلاثة أرباع الساعة ، غادر عبد الله مكتب "الحاج" حاملا بيده ظرفا به أشياء ما ليرافق زوجته ويعودان إلى المنزل يعتصرهما الألم وهما غارقان في صمت مأتمي.
وجد العيال في انتظارهما فبادرهما رؤوف :
-ماذا سويتما مع اللعين ؟ لن يهدأ لي بال حتى يدخل السجن أو اشرب من دمه !
حدجه الاب بنظرة كلها تحسر:
-اسمع يا ولدي يا رؤوف ، ما كان قد كان ! والفوضى لن تعيد لأختك شرفها ، بل ستزيد وضعنا تعقيدا ! وأنا اتفقت مع "الحاج" على حل !
-وأي حل هذا الذي اتفقتما عليه ؟ هل بإمكانه استرجاع شرف ابنتك ؟ هل البصقة إذا بصقها الواحد على الأرض يستطيع إعادتها ؟
قالها موجها نظره إلى أمه ، فأردف عبد الله :
-اعترف "الحاج" أن الشيطان الرجيم لعب برأسه في لحظة ضعف فوقع ما وقع ... والآن هو مستعد لتصليح غلطته .. وبما أن القصاص لن يفيدنا في شيء ، فقد اتفقنا على أن يتزوجها !
-كيف ؟ يتزوجها ؟ يا للعار ! شيخ يتزوج صبية ، طفلة في عمر أحفاده ؟ ما هذا الذي اسمع ؟
-لن يتزوجها الآن ، ستبقى معنا إلى أن تبلغ سن الزواج ، ثم سيدخل عليها على سنة الله ورسوله "وكفى الله المؤمنين القتال" .
-وهل فكرتم فيم سيقوله الناس ؟
-ومن قال لك إن الناس سيعرفون ؟ إن الحاج أحرص ما يكون على كتمان السر ، فهو خائف من الفضيحة ؛ أقصد خائف من افتضاح أمره أمام زوجته وأولاده والناس !!
عم الصمت برهة ثم أردف :
-في الحقيقة لم أجد أحسن من هذا حلا ومخرجا لنا مما نحن فيه.
-على أي حال هي تبقى ابنتكم، عوموا في بحركم أنا لم يعد لي دخل في الموضوع ! هل سمعتم ؟ لم يعد لي دخل بالموضوع.
كان هذا آخر ما قاله رؤوف وانصرف ، وانصرف باقي أفراد الأسرة ليبقى عبد الله وزوجته وحيدين . فبدأت تبكي من جديد ، ربت زوجها على كتفها وقال :
-كفى يا سعدية ، ما كان قد كان ولن يفيد البكاء في شيء.
"يا وجعي عليك يا صغيرتي يا زينب ، منك لله يا العربي ، اللهم خذ حقنا والسلام !"
وفي الصباح الموالي جمع عبد الله أفراد أسرته ووجه لهم تعليماته القاضية بحراسة زينب وعدم تركها تخرج من البيت وحدها ، كما أخبرهم أن رغبة "الحاج العربي" زوج زينب المنذور ، قضت بانقطاعها عن الدارسة وملازمتها البيت وهو سيتكلف بالصرف عليها إلى أن يعقد عليها ويأخذها إلى بيتها .
من ذلك التاريخ أصبحت زينب حبيسة البيت لا دخول ولا خروج ، ولا أصدقاء ولا لعب ، فقط كان "الحاج العربي- قدرها- يزورها كل جمعة حاملا إليها بعض الهدايا والملابس ومنفحا أسرتها ببعض المال ... وتمر السنين ببطء فتكمل زينب خمسة عشر سنة لتصبح فتاة مكتملة ، رائعة الجمال ، لكن بلا إرادة ، منقادة ، لا تعي كثيرا حقيقة ما حصل ويحصل لها ولا ما يدور حولها . وهكذا أعلنت خطبة الحاج لها ليتبعها زفاف بمذاق المأتم لأن لا أحد من أسرتها استطاع إقناع نفسه بمعقولية هذه الزيجة ولا أحد من أقارب "العربي" كان راضيا على هذه المهزلة على حد قولهم . ولم يجد عبد الله وأسرته جوابا على تساؤلات المتسائلين من الأقارب والجيران الذين تعجبوا لهذه الزيجة الشاذة ، وأجمع الناس على أن طمع أهل زينب وجشعهم هو فقط ما دفعهم لبيع ابنتهم لهذا الموسر الذي انجر وراء نزواته وشهواته فأتى بضرة للحاجة "نفيسة" في آخر عمرها كدليل على عدم وفائه وتنكره للإخلاص والملح والطعام والعهد ، كسائر رجال آخر الزمان !
وكما يقتاد أي حيوان يشتريه المرء من سوق البهائم ، رافق العربي زينب معه إلى نفس المنزل الذي اغتصبها فيه قبل ست سنوات ، ليكرر فيه اغتصاباته لها ، لكن في هذه المرات بدون دم ولا صراخ ولا عنف ، كان حينما يريد قضاء وطره منها تترك له جسدها يعبث به وفيه كما شاء كما لو كانت دمية أو مجرد جسد بلا روح ... إلى أن حملت منه لتضع طفلة جميلة اختار لها من الأسماء "وداد" لتحس زينب بعد ولادتها بغريزة الأمومة ، وليصبح لحياتها معنى لأول مرة ، وتصبح هذه الـ "وداد" الصغيرة هي المبرر الوحيد لوجودها ... وتمر الأيام والليالي رتيبة نسخا من بعضها البعض بلا طعم ولا مذاق ، لا تحمل أي جديد يذكر، إلى أن كانت تلك الليلة التي عاد فيها العربي مبكرا وأخبر فيها زينب أنه مريض جدا . وعلى الساعة الثانية صباحا صحت على وقع ارتطام شديد بالأرض ، سارعت إلى فراش زوجها فوجدت جثته على الأرض ، أنارت الغرفة لتقف على ذلك المشهد الفظيع: الدم يسيل من فم "الحاج" وعيناه مبحلقتان لا تطرفان ، أطلقت صرخة حادة ليلحق بها بعض الجيران الذين سجوا الجثة ، وحملوها إلى غرفة أخرى وقدموا العزاء لها : وبعد أن وعت ما حدث ، شعرت بشيء دفين عميق داخلها يوحي إليها ، بل تكاد تسمعه يصيح فيها : "انطلقي وعانقي الحرية" !
محمد اغبالو
طنجة 2008