وضع نقطة النهاية.وأحس بنشوة تسـري عبر مسامه لتغمر كافة جسده..شبك يديه خلف رأسه وتمطى قليلا نحو الخلف..تأمل شاشة حاسوبه وابتسامة الرضا ترتسم فوق محياه..أعاد قراءة مقالته ليطمئن على سلامتها من الأخطاء..ثم سحب أوراقا من الآلة الطابعة ومضى يعدو بها مسرعا نحو مكتب رئيس التحرير..أمره بالجلوس وهو يتصفح الأوراق بسرعة فائقة..كان يتابع حركات عينيه وهما تتنقلان بين أسطر مقالته مثل كاسحتي ألغام..ثم رآه يصحح شيئا لم يتبيّنه بالضبط..أحس بغصّة في حلقه لأنه كان حريصا على ألا يتسرب أي خطأ إلى مقالته الأولى ليكسب ثقة رئيسه ويجعله مطمئنا إلى قدراته اللغوية العالية..
أنهى رئيس التحرير قراءة الأوراق ورفع إليه عينين حمراوين تطلان من فوق نظارتيه السميكتين كأنهما قعر كأس زجاجي من النوع الرديء..قال بصوت من يسدي نصيحة إلى أحد أبنائه:
" اسمع يا بني..ثمة أمور ينبغي أن تدركها جيدا في مهنة المتاعب هذه..لا تجعل قلمك مثل آلة التصوير تلتقط الوقائع كما هي..بمعنى آخر لا تكن عبدا للواقع يفرض عليك سلطته ويصادر منك شخصيتك..ابعث الدفء والحيوية فيما تنقله لتجعل القارئ ينصت إليك بشغف كبير..وإلا انصرف عنك إلى غيرك..دعك من التنظيرات وفلسفة المبادئ التي حشوا بها أذهانكم في معهد الصحافة..الواقع يلقنك أشياء أخرى لا يعرفها منظرو المعهد.."
لم يدرك علاقة كل هذا الكلام بما جاء في مقالته..هي مجرد تغطية لنشاط اجتماعي لوزير الدولة أشرف خلاله على حفل ختان أطفال معوزين..فهل أساء الأدب من حيث لم يشعر؟..أم خالف الأعراف والتقاليد المتبعة في مثل هذه الحالات؟..
همَّ أن يسأل رئيسه عن مكمن الخلل في مقالته عندما سمعه يواصل حديثه بثقة العارف المجرب وبلهجة لا تخلو من تقريع وتوبيخ:
"أنت في مقالتك هذه لم تراع هيبة وزير الدولة..لقد جعلته مثار سخرية الرأي العام..كيف يشْرف وزير الدولة..نعم وزير الدولة على نشاط اجتماعي لم يستفد منه سوى عشرة أطفال؟..هذه مهزلة..الوفد المرافق لمعاليه كان بالتأكيد أكبر من عدد المستفيدين؟..هذه نكتة مقرفة.."
تململ الصحافي الشاب فوق مقعده وأقسم بأغلظ الأيمان أنه ما نقل إلا ما رأى بأم عينيه..وأن سكان هذه المناطق بالذات ، المعروفين بعزة النفس والإباء ، يفضلون أن تظل حشفات أبنائهم مغلفة على أن تمن عليهم الدولة بأي عمل خيري..سوَّى رئيس التحرير نظارتيه فوق أنفه وبدا متوترا على غير عادته..ثم قال بصوت أشبه ما يكون بالهمس:
" اسمع يا بني.. نحن نعلم أن سمعته ساءت بعض الشئ بعد نجاته بأعجوبة من الهزيمة في الانتخابات الأخيرة ، وبسبب وعود التشغيل التي لم يَفِ بها..ولكنه لم يكن وحده..كل المسؤولين يعِدون ولا يَفون بوعودهم..ثم لا تنس أن الرجل هو زعيم الحزب الذي يصدر هذه الجريدة..وفضله علينا جميعا كبير..لذلك فموقفنا حرج للغاية..نحن الآن بين المطرقة والسندان..وعليه ، فقد تصرفتُ في مقالتك وأضفتُ صفرا إلى العدد الذي كتبتـَه..زيادة صفر صغير لن يضرك في شيئ..أليس كذلك ؟ وعليه فرقم مائة ، على الأقل ، لن يُغضِب معاليه ولن يثير سخرية أحد.."
عادت به ذاكرته إلى أيام الدراسة..تذكر ذلك الصفر الذي منحه إياه مصحح اللغة العربية المتشدد ، لأنه اختلف معه في الرأي عند تحليله لقصيدة "المومس العمياء" لبدر شاكر السياب..هو فسر ما آلت إليه المومس بعوامل اقتصادية واجتماعية..وآمن المصحح المتشدد بأن الأسباب أخلاقية بالدرجة الأولى..كلفه موقفه ذاك ضياع سنة من عمـره لأنه كرر الفصل الدراسي ذاته بسبب ذلك الصفر..وها هو الصفر الملعون يعود منتصبا أمامه من جديد وهو ما زال يخطو خطواته الأولى في ميدان العمل..سمع رئيس التحرير يقول وهو يمد إليه الأوراق:
" سلمها للمكلف بالطبع..مكانها طبعا هو الصفحة الأولى مع صورة مناسبة لمعاليه..تأكد بنفسك من أنه أضاف الصفر إلى العدد الذي كتبتـَه.."
لم يشعر إلا ويداه تمزقان الأوراق..ألقى بها فوق مكتب الرئيس..وقال ببرودة أعصاب استغرب هو نفسه كيف حافظ عليها:
" لا، لن أبدأ عملي بافتراء على القراء..إذا زوّرتُ اليوم رقما بسيطا ، فإنني غدا لن أجد غضاضة في تزوير حقيقة ناصعة البياض..كلا..لن أنقل للقارئ إلا ما رأيتُ وما عاينتُ..ولن أخشى في الحق لومة وزير الدولة ولا دولة الوزير..أما أنت فاحرص على منصبك - إذا شئت – وأنت ذليل مهان..اعتبرني مستقيلا من عمل لا يشرفني.."
وقبل أن يسمع رد الرئيس عليه صك الباب خلفه بقوة وانصرف..
المصطفى السهلي - سلا الجديدة - المغرب