يترنح السكر في كل خلية من خلايا جسده الضخم الفارع، وحبيبات من العرق الفضي تتلألأ فوق جبينه وتغطي أنفه وتتراقص فوق شفتيه الغليظتين. وكان الرجل الستيني يسير ببطئ في زقاق ضيق يغرق في ظلمة تامة لا يبين فيها سوى بعض الأضواء الوانية المتوجهة على استحياءٍ كأنما تكابد خجلاً مما تقف عليه من أسرار الليل. كان يدمدم بكلمات لأغنية خليعة. هذا الليل السكران معشوقه ونديمه، وهذه السكرة كل ما ينال من لذة هي الغياب بعينه. يطيب له الغياب عن حقائق حياة لا تفترق عن البشاعة إلا باللفظ، وحتى اللفظان باتا في ذهنه مشحونين بذات الصور والمشاعر. فكلما قال "حياتي" تواردت في ذهنه كلمة "بشاعة"، وجاءت تتهادى في مخيِّلته كراقصة متصابية أناخَ القبحُ عليها بِكَلْكَلِهِ، تنبعث منها رائحة كريهة وتشع صورتها بوهج يبعث على الغثيان.
وعلى الرُّغم من انسياقه وراء سكرٍ مفرط متواصل، فقد نمت لدى الرجل العجوز، وعلى مَرِّ السنين، غريزة من اليقظة البالغة يفرزها خوف فطري تطور في ذاته على امتداد عمرٍ من التَسَكُّعِ في الشوارع والحواري، إضافة لما تعرض له من تشريد وترهيب في صباه وشبابه الأول. وكان في أيام الصبى كلما قفل راجعا من العمل إلى مخبئه الحقير عند المساء استنفر كل حواسه وأعصابه تَحسُّباً لأي هجوم مباغت قد يتعرض له على يد أحد زعران الأحياء وما أكثرهم. كانوا يتعرضون لعاثري الحظ في ظلمات الليالي سعياً وراء المال وأشياء أخرى ثمينة. وكان قد سمع منذ بداية وعيه الكثير من القصص المخيفة، حتى أنه عاش إحداها بنفسه، إذ انقضَّ عليه ذات مساء، وكان لا يزال شاباً يافعاً، شابان في أحد الشوارع الضيقة المظلمة.
يُطلق الآن تنهيدة قصيرة تذوب في الهواء كذوبان التفاصيل الليلية والهياكل المعتمة في عينيه وتمايعها. وفي لحظة تناهى إلى وعيه خلال سجف السكر شعورا طارئ بالتيقظ والتحفز. إن أنفه لا يخطئ هذا التنبيه أبداً. هكذا قرر بثقة كاملة أنه ملاحق! شَقًّ صدَرَه بنفس طويل اعترض لهاثه كنصل يحتَزُّ صدره، ثم جمع كل تركيزه الذي بعثره الخمر في أذنيه وعينيه. كان بالرغم من سكره لا يزال قادراً على التقاط ما يرسله إليه محيطه المادي من إشارات وما يَحُكُّ حواسَه من مثيرات خفف السكر من حدتها. وحث خطاه وهو يرسل ببصره إلى أقصى الزقاق حيث راحت تلوح له أضواء كثيرة لعربات تمر مسرعة وأبنية مضاءة في قلب الليل. وقد جعله قربه من نهاية الزقاق ودنوِّه من الشارع العام الحافل بالناس يشعر براحة نسبية بما يمثله ذلك من خلاص وتحرر من مشاعر الخوف ولو بعض الشيء. لكن في لحظة تلامحت عيناه الزائغتان شبحاً قطع مجال بصره كما يقطع الغزال الرشيق أمام عدسة الكاميرا هرباً من عيون الراصدين، واجتاحته رعشة من الخوف المتصاعد فحاول أن يقنع نفسه بأن الخمر هيأ له ما رأى وبأن ذلك لا يعدو الخيال الصرف، ثم زاد من سرعة خطوه حتى انقلب مشيه هرولة عجولة. وكان قد أصبح على بعد أمتار قليلة من نهاية الزقاق الذي أقسم في داخله على ألا يسلكه بعد الليلة، وراح يزايله الخوف رويداً مع اقترابه من خط السيارات العابرة كالومض للشارع العام العريض عندما انقض عليه من الخلف جسد صلب أحكم كتم أنفاسه. وقد حاول الرجل المخمور أن ينتفض ويملئ الشارع صراخاً، أو أن ينفلت من يدي مهاجمه ثم يطلق ساقيه للريح، لكن على حين بغتة تلقى لكمة قوية في معدته جاءته من الغيب اللامرئي، وقد طوح به ألم اللكمة بعيداً عن حلبة الوعي وأبقاه متأرجحاً ما بين الصحو والغياب. وبعد ذلك لم يعِ مما حوله سوى أصوات أبواب سيارة تفتح وتغلق بعنف، وموتور سيارة ينطلق مزمجراً مما أثار فيه رعباً أسطورياً مشابهاً لما يختبره الأطفال عند مشاهدتهم لقطات رعب سينمائية لأول مرة في حياتهم.
وبعد ذلك لا شيء.
غاب عن الرجل وعيه وعاد إليه وقد وجد نفسه في مكان مظلم قذر بدا أنه يستخدم كمستودع إذ يمتلئ بصناديق مختلفة الأحجام. وكان المكان يستنير بشحيح الضوء المتسرِّب من باب خلفي، أما الباب الكبير الذي لاح في مقابل الرجل على مسافة طويلة، فقد كان مقفلاً تماما وغارقاً في الظلام.
حاول الرجل أن يتحرك من مكانه لكنه عجز عن ذلك، وقد تبيَّن له أن يداه مقيدتان بحبل غليظ خلف ظهره، كما أن ساقه اليمنى كانت مشدودة إلى الحائظ خلفه بسلسلة حديدية. وخالجه الشك في صحة وعيه، فلذَّ له الإعتقاد بأنه داخل حلم مزعج لن يلبث أن يطير ويتلاشى بصحوه من النوم. وقد عزا غرابة المنام وقوة إحساسه إلى الخمر التي شربها في سهرته. بيد أن هذا الخاطر لم يدم طويلاً إذ لم تمضي بضعة دقائق على استرجاعه لوعيه حتى اندفع إلى المكان شابان عبر الباب الخلفي، قام أحدهما بإشعال المصباح الكهربائي الذي تدلى من السقف، فبهر الضوء عيني الرجل فضيقهما ومرت لحظات قليلة قبل أن يردد بصره بين الشابين، فوجد أحدهما، وهو الذي أشعل المصباح، ملثماً فلا يبين منه غير العينين، وما أن استقرت عيناه على الشاب الآخر مكشوف الوجه حتى جحظتا بدهشة تلقائية، وحاول أن يكذب عينيه لكنه لم يفلح في ذلك، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة بادره الشاب قائلاً:
- مرحبا يا عماه!
ظل الرجل يحدج الشاب بنظرة داهشة وقد عقدت لسانه المفاجأة، فاستطرد الشاب قائلاً بلهجة اعتذارية:
- كنت والله أودُّ أن تجمعنا ظروف أفضل من هذه، لكن الحق عليك أنت يا عمي.
ووجد الرجل نفسه يقول للشاب بلهجة بذل جهداً لجعلها متماسكة:
- منيب، ما تقوم به عيب يا بنى، وخطير! سوف تسبب لنفسك متاعب ما أغناك عنها.
فقهقه الشاب عالياً وقال:
- خطير؟ وما وجه الخطورة في هذا؟ إنك لا تعدو كونك سكيراً فاسقاً وعجوزاً. آسف، لكن هذه هي الحقيقة بلا زيادة أو نقصان. وإن أحداً لن يعبأ بمجرد الإنتباه إلى غيابك فضلاً عن البحث عنك.
وزادت بالرجل حدة الخوف الذي تضاعف في قلبه منذ اللحظة التي تعرف فيها على هوية خاطفه. ما الذي ينوي هذا المجنون فعله؟ هل يريد قتله؟
وراح يرنو إلى خاطفه الشاب بنظرة عميقة محاولاً الإستهداء إلى حيلة قد تنجده من المأزق الذي وقع فيه، على حين راح الشاب يذرع المكان بخطوات بطيئة واثقة كأنما ليؤكد سطوته وسيطرته الكاملة على المشهد، وفي لحظة ما أصدر إشارة من يده إلى رفيقه فانصرف بصمت عبر الباب الخلفي. واقترب منيب من الرجل المخطوف الذي انعكس على صفحة وجهه ضوء المصباح مبرزاً ما في هذا الوجه من تجاعيد وشقوق عتيقة زادها الضوء عمقاً وتجذُّراً، ثم قال وهو يكور يده اليمنى:
- أنت الآن في قبضتي، وابنتك الجميلة أيضاً!
فوجد الرجل نفسه مضطراً لأن يغضب، فحمل نفسه على الهتاف بحدة:
- إخرس! لا تنطق اسم ابنتي بلسانك القذر!
فأشاح منيب بوجهه عن الرجل وخفض بصره إلى الأرض وهو يرسم على شفتيه ابتسامة تنم عن الإشفاق. وبعد لحظات قصيرة قال وهو يسدد نحو الرجل نظرة ثاقبة:
- لو كنت وافقت على زواجي بابنتك، ألم تكن قد وفَّرَت على نفسك هذه الإهانة وحفظت نفسك من الموت؟!
فرد الرجل قائلاً رغم دبيب الخوف في صدره:
- لو كنت أهلاً لما رفضتك.
فعاود الشاب الإبتسام، على حين تابع الرجل يقول يصوت لم يفلح في لجْمِ نبرات الخوف فيه:
- ثم هل فقدتك عقلك يا منيب؟ أترتكب جريمة قتل من أجل فتاة لم يوافق أهلها على زواجك منها؟
فقال منيب متجاهلاً السؤال:
- أتدري؟ أريد أن أنبأك سراً.. لقد قبلت ابنتك الجميلة آلاف القبل!
وجم الرجل وامتقع وجهه حتى أصبح لونه أٌقرب إلى البياض، على حين تابع الشاب يقول بلهجة تغيرت إلى القسوة:
- لقد جعلني رفضك لي أكثر إصراراً على نيلها. أتدري لماذا؟ لأنك لم تكتفي بالرفض، بل إنك حرصت على إهانتي وتذكيري بالأصل القذر الذي أتحدَّرُ منه، وكأنك أنت نفسك إبن الباشوات وسليل المجد العتيق، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. إنك لا تقلُّ عني قذراة، ولا يمكن أن تكون قد نسيت تاريخك الحقير رغم كل الخمر الذي تعبُّه ليلياً دون انقطاع.
صمت منيب للحظات علا خلالها صوت لهاثه الذي نمَّ على انفعال ما يتحرك في صدره. وبعد لحظات من الصمت الثقيل رفع رأسه إلى الرجل وقال بلهجة متغيرة:
- هل صدمك الخبر؟ وماذا كنت تتصور؟ هل بإمكانك أن تسجن ابنتك وتمنعها من أن تعيش حياة هي ملكاً لها وحدها دون شراكة لك فيها؟ أجل كنا نتبادل القبل، وكنا نلتقي في خلوات طويلة. والمثير في الموضوع أنك لم تفطن إلى علاقتنا، ولم تكشف أي تغيُّرٍ وقع على ابنتك. هل لاحظت شيئاً متغيراً فيها؟ هل كانت قبل علاقتنا إنسانة، وبعدها إنسانة أخرى مختلفة؟ أم أن خوف الله هو الذي يدفعك إلى ذلك الحرص الكريه؟ هل تخاف الله حقاً؟ عجباً، إنك لَسِكِّير فاسق! فكيف تعرف خوف الله؟ هل تدري أن الخمر من أكبر الكبائر؟ هل تدري أن الله يَعِدُ بإسكان أمثالك قيعان سحيقة في جهنم؟
فقال الرجل متسائلاً:
- أوهل تعرف أنت خوف الله يا ترى؟
فابتسم منيب وقال:
- ربما.. لكني لا أسمح لهذا الخوف أن يقيد حريتي، تماماً كما تفعل أنت، فأنت تعرف أن الخمر حرام، وأن القمار حرام، وأن النسوان حرام، ومع ذلك لا تحرم نفسك من كل تلك الأمور مجتمعة. ولا يمنعك هذا من المداومة على الصلاة، وزيارة الكعبة، وارتياد الجامع.
صمت منيب لبرهة ثم قال للرجل مطمئناً:
- لكن أريدك أن تطمئن إلى أن ابنتك لا تزال عذراء رغم علاقتنا الطويلة، مع أن ذلك لن يستمر طويلاً طبعاً، إذ لن يحول دون زواجنا بعد موتك حائل.
ورغم أن الخوف كان قد بلغ مداه عند الرجل العجوز، فقد وجد نفسه يقول وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة صفراء:
- وهل تظن أن ابنتي يمكن أن تتزوج بقاتل أبيها؟!
فضحك الشاب وقال:
- ثق بي، لو أنها كانت قادرة لأجهزت عليك بنفسها!
وتبادل الشاب والرجل نظرة فيها قتامة ثقيلة تنضح بالكراهية والقسوة، ثم تنحنح منيب وقال وهو يدنو منه بصوت كالوشوشة:
- لقد جاوزت الستين ببضع سنوات، وما بقي في عمرك من سنين قطعاً لا يساوي ما انقضى منها، أما نحن فلازلنا في مقتبل العمر والحياة أمامنا طويلة وشائقة.
ثم قال بعد لحظة صمت:
- لا شك أن ابنتك ستشتاق إليك كثيراً، فهي ابنة بارَّة، وهذا ما يجعلني أحبها أكثر، لكن صدقني، سوف أجعلها تنساك تماماً وفي مدة خيالية.
وأخرج منيب من جيب معطفه مسدساً كاتماً للصوت، ثم وجهه إلى جبهة الرجل العجوز والذي ارتسمت على وجهه أفظع آيات الخوف والهلع. أراد منيب أن يطيل لحظات العذاب، فظل ممداً يده في الهواء، مسدداً فوهة المسدس إلى ما بين عيني الرجل، ثم قطب حاجبيه وكأنه تذكر أمراً هاماً وقال:
- على فكرة، أريدك أن تطمئن على ابنتك تماماً، فسوف تكون بعد موتك في أيد أمينة هي وثروتها الموروثة عن أبيها الفقيد الغالي!
ظل الرجل ينظر إلى معذبه بنظرة هلع خرقاء على حين تابع منيب يقول:
- لو كنت نذلاً من الأنذال لحويت ابنتك بضعة أشهر ريثما أستولي على ثروتها ثم رميتها لكلاب الشوارع (هنا ارتسمت على شفتيه ابتسامة) لكنني ابن أصل كما لا شك تعلم، ولا يهون عليَّ فعلٌ كهذا.
في تلك اللحظات لم يكن يخالج الرجل العجوز أدني شك في أنه هالك، وقد حضر نفسه للموت بأن تلا الشهادتين في سره، وقد أمده اليأس بقوة خفية فاندفع رغم قيوده نحو الشاب وأطلق على وجهه بصقة أصابت عنقه.
سدد منيب إلى الرجل نظرة خالية من أي أثر لانفعال. مرت لحظات صامتة مشحونة بالتوتر، و لا يزال منيب يمد يده بالمسدس. تمنى الرجل أن ينتهي عذابه فوراً، تمنى أن يأتيه الموت بسرعة خاطفة. لكن شيئاً ما برق في ذهن الشاب وعينيه، فأخذ يبتعد عن الرجل بخطوات بطيئة نحو الباب الخلفي وهو يمسح البصقة عن رقبته بمحرمة أخرجها من جيب معطفه، ثم تناهى إلى الرجل صوت منيب يقول بلهجة طفولية فرحة تنضح براءة قبل أن يعبر الباب الخلفي:
- يا لها من ليلة رائعة! سنلهو معاً حتى طلوع الفجر، سنلعب كثيراً أيها العجوز ونصرخ أكثر، سنصرخ من فرط اللذة، وشدة الألم!