ــ" هل من مزيد ... ؟ "
ــ ط ..... "
و ركض النادل يلبي الطلب ، و انبطح آخر شعاع صريعا وسط الأهداب المنتوفة ، و انحجبت الشمس و انطوت الجدران الصلدة المغلقة من دون نوافذ على أنوار المصابيح المغبرة و دخان السجائر الرخيصة و رائحة العرق و الكحول و القيء الممزوجة برائحة السمك المقلي و بودر المومسات ... و غاص كل شيء ، و تولد خيط رفيع امتد حابيا مع طبقات الخنق و هستيريا من القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة يربط أجزاء هذا العالم المكهرب ببعضها ...
ــ ” و أنت ... “
ــ ” أنا ... ماذا ؟ “
ــ أنت تنزوي في الركن ، ظهرك إلى الحوت السابح في زرقة الجدار وراءك .. تتملى صورة أمامك و حواليك .. لوحة رائعة من دون شك .. يونس ينجو من جوف الحوت لتوه ، لكنه يستقر في قاع البحر ... تصفيق !
ــ ” هل من مزيد ... ؟ “
ــ ” و ماذا يمكنك أن تفعل غير ذلك ؟ اشرب رغم أنفك نخب الأفعى الرقطاء التي تمخض عنها الجليد و حملتها ريح العشق و الهوى نحو ثعبان الشمس و الذهب الأسود .. فزحفت بصخب .. ترى ، هل كان لا بد و أن يبادلها الثعبان الحب بالحب .. السم الجليدي بالسم الصحراوي .. لعل كيوبيد كان حاضرا وقتها بقوسه و سهامه ... على كل حال يمكنك الآن أن تدعو عاهرة .. أربعة ... أو كل عاهرات الحانة و رواديها للرقص .. أو لا تبعث النغمات القاهرية على ذلك ؟ العرش الذي أدخلته مصر إلى متحف المصريين القدامى يخلف الحفيد المخلص غير الشرعي من جديد .. فلتدق الطبول بشدة !“.
وراء البار مدام الخطيب تقف بصدرها الممتلئ .. النصف عاري و عينيها اليقيطتين ، عن يمينها على الجدار و في نهاية لائحة الأسعار مكتوب ما يلي : ” مطلوب فتاة .. سمراء ، تتقن فن الهوى و الحساب .. ” . عن يسارها إلى الخلف لائحة أخرى تحمل مواعيد فتح و إغلاق الحانة يتقدمها بخطوط واضحة : مدام الخطيب ، نزيهة .. ! إنها توزع بسماتها توزيعا عادلا .. هذا ما أجمع عليه الرواد .. ” حتى أنت قلت ذات مرة في نفسك على الأقل .. رائعة حقا ! و نزيهة حقا ! .. كان أحب مكان إليك أن تجلس إلى هذا الركن .. عيناك إلى الفرجة الدقيقة بين أفخاذ مدام الخطيب الزغباء .. أنت طبعا كنت تكره ذلك ، لكنها الرغبة اللعينة المحبوسة تأبى إلا أن تنطلق .. مرة ، مرة ، كانت مدام الخطيب تضبطك متلبسا ، لكنها بدل أن تحتج ، أن تقتص .. كانت تضحك .. لك ؟ أنت لا تدري و فوق ذلك لم تكن تهتم ، ثم تحول فرجة أفخاذها نحو عيون أخرى .. جوعى .. عطشى ، و ما أكثرها حواليك !” .
المسافة بين الأرض و السماء تكاد تضيع و النادل لما يزال يركض .. خفيف كصبي أبي نواس .. الأرض تشده بكل قوتها في الجذب و هو صامت إلا من حركات جسمه العصبية .. ” منذ تزوجت المدام بالخطيب و فتحت الحانة و هو يركض .. الجميع يتقاذفونه .. الميكانيكي الذي يبحث نفسه و الفلاح اليائس و الشرطي المدجج بالعصا .. و العاهرة التي لا تلتذ العهر ، و المثقف الأنيق الذي يبحث عن فينومينات .. و لا أحد يعرف اسمه .. هو نفسه لم يعد يعرف لنفسه اسما .. إيه ، جرسون ! و يأتيك مذعنا .. لا تدري من أين لعينيه بذلك البريق المرعب “ .
ــ من السكر .. أو التخدير .. طبعا ..
ــ أكيد لا ، أنا لم أره قط يفعل ذلك .. ألا يكون من الغضب ؟
ــ ” و أنت لكي تتأكد .. اسأل الشرطي الذي يحمي خمر المدام من أن يسيله الزبناء بالمجان .. أن يكون المرء عبدا لا بد و أن يكون غاضبا حتى و إن لم تبرق عيناه بالرعب .. 1 + 1 ، لا ينتج عنها أبدا إلا 2 .. إذن كلكم غاضب ، لأنكم كلكم عبيد .. و أنت غاضب أليس كذلك ؟“ .
ــ ” أعترف لك .. أنا غاضب و حاقد أيضا ... و لكن .. ؟“.
ــ ” و لكن .. ما مصدر غضبك .. غضب النادل الذي أضاع اسمه .. غضب الميكانيكي الذي لم يعد ميكانيكيا .. غضب البرابرة زمن الإمبراطورية الرومانية !“ .
القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة لم تلبث أن تبخرت في مواء قطة سمينة .. ملت هياكل السمك العظمية و لمسات السكارى .. المواء يستمر دقيقا و حادا كرمح .. و هي تدور بين أقدام الموائد و أقدام البشر .. ذيلها يتمايل في عنف تحت أنظار تحاول عبثا أن تنام .
ــ يا شرطي ، أبعد هذه القطة اللعينة !
ــ أألقي بها خارجا يا مدام !
ــ اذبحها إن شئت ...
” و ذكرياتك أنت مع الذبح كثيرة .. قاسية .. مجنونة .. يصعب تخيلها ... الغضب يولد حتما الرغبة في الاغتسال بالدم .. حملت البندقية و انتظرت رفاقك في التحرير بصبر لا يطاق لحظة الوصول و الصفر و الصدام .. فجأة أسرع البارود ينازل البارود .. و اندفع صلاح الدين الأيوبي يجني رؤوسا أينعت منذ زمان .. ألف عن اليمين و مثلها عن اليسار .. يوم ، اثنان ، أسبوع .. و الجثث تتهاطل على التلال .. و خرير الجراح و الأجساد المبتورة يتصاعد .. و ترنح العدو المتراجع يحفزكم على التقدم أكثر .. و كل ذلك يلف غضبك بنشوة لم يستطع كحول مدام الخطيب زرعها فيك ... و النشوة بدورها تبعث على التمرد .. بالعكس ، يجب أن نتقدم يا كابتان ! و تتخلون عن أثقالكم ... السكاكين تشع في أيديكم و أنتم تزحفون .. ثانية ، ثانية ، كنت تخلف وراءك ذبيحة و حفرة من دم و تراب و الذبائح لم تعد تحصى .. و امتزجت ولولة القتلى بحركات التمزق و الطعنات الخارقة ... ساعتها طوقكم صراخ العالم ” المحايد “ : أوقفوا الذبح خذوا أسرى ! لكن اللعبة لم تنطل عليكم .. لكن الديار المسروقة لم يعد بينكم و بينها سوى أعناق معدودات .. لكن غضبك أخذ يتمطط جدا و يكبر جدا .. لكن إعلان الفصل بين المتحاربين لم يمهلكم أبدا .. “
ــ ” و ها أنا أعود إلى الركن .. إلى الأقداح .. مع نبيح التجربة .. غاضبا .. و أي غضب .. أي غضب !! “.
الشرطي ينفذ حكم المدام في القطة و لا أحد يدري كيف .. فضاء الحانة المغلق أخذ يخنق النفوس و يخنق نفسه و النشوة تتحول تدريجيا إلى ألم في البطن و في الرأس .. ” و قوة دفاعك أنت تتجمع حول نقطة واحدة .. ظاهريا يبدو غضبك مجرد نرفزة ، و انفعال حاد .. باطنيا ، غضبك أمل عاصف .. يمتد من قلب مسقط الرأس .. نحو شعب فلسطيني الهوية“.
* نشرت بجريدة ” المحرر “ المغربية. صفحة 6 ليوم 22 أبريل 1975
( 1 ) كاتب و باحث من المملكة المغربية . صدرت له أخيرا ، خلال النصف الثاني من شهر أكتوبر 2008 ، مجموعة قصصية تحت عنوان ” ثورة الربض“ و ذلك عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب .
ــ ” و ماذا يمكنك أن تفعل غير ذلك ؟ اشرب رغم أنفك نخب الأفعى الرقطاء التي تمخض عنها الجليد و حملتها ريح العشق و الهوى نحو ثعبان الشمس و الذهب الأسود .. فزحفت بصخب .. ترى ، هل كان لا بد و أن يبادلها الثعبان الحب بالحب .. السم الجليدي بالسم الصحراوي .. لعل كيوبيد كان حاضرا وقتها بقوسه و سهامه ... على كل حال يمكنك الآن أن تدعو عاهرة .. أربعة ... أو كل عاهرات الحانة و رواديها للرقص .. أو لا تبعث النغمات القاهرية على ذلك ؟ العرش الذي أدخلته مصر إلى متحف المصريين القدامى يخلف الحفيد المخلص غير الشرعي من جديد .. فلتدق الطبول بشدة !“.
وراء البار مدام الخطيب تقف بصدرها الممتلئ .. النصف عاري و عينيها اليقيطتين ، عن يمينها على الجدار و في نهاية لائحة الأسعار مكتوب ما يلي : ” مطلوب فتاة .. سمراء ، تتقن فن الهوى و الحساب .. ” . عن يسارها إلى الخلف لائحة أخرى تحمل مواعيد فتح و إغلاق الحانة يتقدمها بخطوط واضحة : مدام الخطيب ، نزيهة .. ! إنها توزع بسماتها توزيعا عادلا .. هذا ما أجمع عليه الرواد .. ” حتى أنت قلت ذات مرة في نفسك على الأقل .. رائعة حقا ! و نزيهة حقا ! .. كان أحب مكان إليك أن تجلس إلى هذا الركن .. عيناك إلى الفرجة الدقيقة بين أفخاذ مدام الخطيب الزغباء .. أنت طبعا كنت تكره ذلك ، لكنها الرغبة اللعينة المحبوسة تأبى إلا أن تنطلق .. مرة ، مرة ، كانت مدام الخطيب تضبطك متلبسا ، لكنها بدل أن تحتج ، أن تقتص .. كانت تضحك .. لك ؟ أنت لا تدري و فوق ذلك لم تكن تهتم ، ثم تحول فرجة أفخاذها نحو عيون أخرى .. جوعى .. عطشى ، و ما أكثرها حواليك !” .
المسافة بين الأرض و السماء تكاد تضيع و النادل لما يزال يركض .. خفيف كصبي أبي نواس .. الأرض تشده بكل قوتها في الجذب و هو صامت إلا من حركات جسمه العصبية .. ” منذ تزوجت المدام بالخطيب و فتحت الحانة و هو يركض .. الجميع يتقاذفونه .. الميكانيكي الذي يبحث نفسه و الفلاح اليائس و الشرطي المدجج بالعصا .. و العاهرة التي لا تلتذ العهر ، و المثقف الأنيق الذي يبحث عن فينومينات .. و لا أحد يعرف اسمه .. هو نفسه لم يعد يعرف لنفسه اسما .. إيه ، جرسون ! و يأتيك مذعنا .. لا تدري من أين لعينيه بذلك البريق المرعب “ .
ــ من السكر .. أو التخدير .. طبعا ..
ــ أكيد لا ، أنا لم أره قط يفعل ذلك .. ألا يكون من الغضب ؟
ــ ” و أنت لكي تتأكد .. اسأل الشرطي الذي يحمي خمر المدام من أن يسيله الزبناء بالمجان .. أن يكون المرء عبدا لا بد و أن يكون غاضبا حتى و إن لم تبرق عيناه بالرعب .. 1 + 1 ، لا ينتج عنها أبدا إلا 2 .. إذن كلكم غاضب ، لأنكم كلكم عبيد .. و أنت غاضب أليس كذلك ؟“ .
ــ ” أعترف لك .. أنا غاضب و حاقد أيضا ... و لكن .. ؟“.
ــ ” و لكن .. ما مصدر غضبك .. غضب النادل الذي أضاع اسمه .. غضب الميكانيكي الذي لم يعد ميكانيكيا .. غضب البرابرة زمن الإمبراطورية الرومانية !“ .
القهقهات الفظيعة و الثرثرة المحمومة لم تلبث أن تبخرت في مواء قطة سمينة .. ملت هياكل السمك العظمية و لمسات السكارى .. المواء يستمر دقيقا و حادا كرمح .. و هي تدور بين أقدام الموائد و أقدام البشر .. ذيلها يتمايل في عنف تحت أنظار تحاول عبثا أن تنام .
ــ يا شرطي ، أبعد هذه القطة اللعينة !
ــ أألقي بها خارجا يا مدام !
ــ اذبحها إن شئت ...
” و ذكرياتك أنت مع الذبح كثيرة .. قاسية .. مجنونة .. يصعب تخيلها ... الغضب يولد حتما الرغبة في الاغتسال بالدم .. حملت البندقية و انتظرت رفاقك في التحرير بصبر لا يطاق لحظة الوصول و الصفر و الصدام .. فجأة أسرع البارود ينازل البارود .. و اندفع صلاح الدين الأيوبي يجني رؤوسا أينعت منذ زمان .. ألف عن اليمين و مثلها عن اليسار .. يوم ، اثنان ، أسبوع .. و الجثث تتهاطل على التلال .. و خرير الجراح و الأجساد المبتورة يتصاعد .. و ترنح العدو المتراجع يحفزكم على التقدم أكثر .. و كل ذلك يلف غضبك بنشوة لم يستطع كحول مدام الخطيب زرعها فيك ... و النشوة بدورها تبعث على التمرد .. بالعكس ، يجب أن نتقدم يا كابتان ! و تتخلون عن أثقالكم ... السكاكين تشع في أيديكم و أنتم تزحفون .. ثانية ، ثانية ، كنت تخلف وراءك ذبيحة و حفرة من دم و تراب و الذبائح لم تعد تحصى .. و امتزجت ولولة القتلى بحركات التمزق و الطعنات الخارقة ... ساعتها طوقكم صراخ العالم ” المحايد “ : أوقفوا الذبح خذوا أسرى ! لكن اللعبة لم تنطل عليكم .. لكن الديار المسروقة لم يعد بينكم و بينها سوى أعناق معدودات .. لكن غضبك أخذ يتمطط جدا و يكبر جدا .. لكن إعلان الفصل بين المتحاربين لم يمهلكم أبدا .. “
ــ ” و ها أنا أعود إلى الركن .. إلى الأقداح .. مع نبيح التجربة .. غاضبا .. و أي غضب .. أي غضب !! “.
الشرطي ينفذ حكم المدام في القطة و لا أحد يدري كيف .. فضاء الحانة المغلق أخذ يخنق النفوس و يخنق نفسه و النشوة تتحول تدريجيا إلى ألم في البطن و في الرأس .. ” و قوة دفاعك أنت تتجمع حول نقطة واحدة .. ظاهريا يبدو غضبك مجرد نرفزة ، و انفعال حاد .. باطنيا ، غضبك أمل عاصف .. يمتد من قلب مسقط الرأس .. نحو شعب فلسطيني الهوية“.
* نشرت بجريدة ” المحرر “ المغربية. صفحة 6 ليوم 22 أبريل 1975
( 1 ) كاتب و باحث من المملكة المغربية . صدرت له أخيرا ، خلال النصف الثاني من شهر أكتوبر 2008 ، مجموعة قصصية تحت عنوان ” ثورة الربض“ و ذلك عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب .