لقد قتلتهُ وأمام أنظار ملايين المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلتُ الخط.
كل البدايات رائعة وجميلة وهادئة ورومانسية وحتى صادقة، لكن العبرة بالنتائج!
شعرت بلحظة أن المكان ارتفع بي سابحاً في الفضاء الواسع عبر الأثير نحو تلك الأيام.. نافذة من الذاكرة تُفتَح على زمنٍ قد مضى.. انهُ الماضي يطرق أبواب ذاكرتي.. وأفتح الباب.. لِيُبحر بي زورق الذكرى في بحرٍ لا آفاق له.
دخل حياتي بتخطيطٍ مسبقٍ منه.. كنتُ حُلماً غير قابل للتصديق في خياله، وعندما اقترب مني بموعدٍ هيأهُ له القدر ما صدق بأنهُ أمامي.. تلعثم بالكلمات.. احمر وجهه وتفصد جبينه وتعرق جسده إلى درجة أن تبلل قميصه الأخضر. ما علِمتُ نواياه.. أراد مني حواراً في حينها.. أجبته بكل برود:
_ هيئ أسئلتك.
تألقت عيناهُ بالسعادة وهو يسمع موافقتي على إجراء الحوار.
_ لم أكن أتوقع أن ألتقي بكِ يوماً رغم إننا نعيش في نفس المدينة.
ابتسمتُ له وحددتُ موعداً. التقينا في مكان عملي وأمام الناس.. جلسنا في الكافيتريا لمدة نصف ساعة.. وضع جهاز التسجيل على الطاولة.. وبدأ الحوار الذي نُشر وبالصور الملونة في إحدى المجلات العربية.
هكذا كانت البداية.. ولقاءاتنا دائماً متباعدة وبمحض الصدفة.. وذات يوم أفهمني بأنهُ لا يطيق البعاد عني ولا قيمة لدنياه إن لم أكن فيها.. وفاتحني برغبته بالارتباط بي.
فاجأني ما توصلَ إليه، وأسعدني أيضاً.. وماذا تريد المرأة أكثر من أن تجد رجلاً يحبها ويحتويها.. مواصفاتهُ مناسبة لي.. شاب يكبرني بأعوام قليلة، مثقف، مهذب، صاحب شهادة وطبع إنساني راقٍ.. فوافقت.
حينما وقفنا أمام القاضي ليعقد قراننا.. سألني:
_ ما مُقدم صداقكِ؟
فأجبت بهدوء:
_ هو.
رفع القاضي رأسه مبتسماً ومستغرباً جوابي، فسألني:
_ ومُؤخركِ؟
_ هو وضميره.
اتسعت ابتسامتهُ.. ووضع القلم جانباً وعاد بظهره إلى الوراء متأملاً جوابي الغريب، و وَجَه كلامهُ لأبي الموجود معي وخطيبي:
_ أنا قاضٍ منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة ولأول مرة أقف محتاراً أمام جوابٍ عجيبٍ كهذا.. و حَوَل نظره نحوي مُتسائلاً عن عملي، فأجابهُ والدي:
_ أديبة .. حضرة القاضي.
_ كنتُ متوقعاً ذلك.
هز رأسه و وَجه كلامه لخطيبي:
_ ضعها في عينيك وقلبك، فصعبٌ أن تجد امرأةً مثلها.
تزوجنا بعد أسبوع وقضينا شهر العسل في ربوع الشام.. وكأنها ضرباتُ ازميل تطرق في أُذني هذه الكلمات: أُحبكِ.. أُحبكِ.. أُحبكِ. وأصبحَ حضوره وحده كفيلٌ بغياب كل الأشياء من حولي. وقد ظلت ذكرى تلك الأيام عالقة _إلى الآن_ في خاطري وتفكيري.
عدنا إلى البلد.. وبعدَ أشهر انكشفَ لي عن طبعٍ ساديٍ لم أكن أتوقعهُ منه نهائياً..من الخارج شيء ومن الداخل شيء آخر.. تحولت حياتي معه إلى جحيمٍ لا يطاق.. كان يعاني من ازدواج الشخصية، تارةً أحزن عليه لحد البكاء وتارةً أُريد الخلاص بأي ثمن حتى ولو بالابتعاد عنه.. ويا ليت المرض وحده السبب الحقيقي لَكُنت رضيت وبررت استمراري معه محتملة بقناعة زوجةٍ ابتلاها القدر بمصابٍ ليسَ بيديها ولا بيديه.
صبرتُ على أخطائه، لكن.. إلى متى؟! وتساقطت كل أوراق الحب ذابلة صفراء أمام هبوب رياح خيانته.. عاتبته.. وتدحرجت دمعات على خدي.. مسحها بأطراف أنامله:
_ ثقي أنتِ وحدكِ دخلتِ القلب.
_ وهل هذا يكفي.. القسوة التي رأيتها في عينيك علمتني معنى العدل بحق نفسي.
ابتسمتُ له بإشفاق، فرد:
_ الرحمةُ فوق العدل.
و أضاءَ وجهه الشاحب ابتسامة أخيرة.
ما عدتُ أحتمل.. وكما دخلت حياته خرجت منها بسلام.. اعترض في البداية، لكنهُ رضخ لرغبتي حباً فيّ كما ادعى. لا أنكر بأني تعلقت به كثيراً.. والفراق الذي اخترته أنا حفر ندبة عميقة في قلبي.. ندبة ما زالت تنز بالدم كلما تذكرت أيامي معه، فحبي له لم يولد في داخلي سوى اللوعة والعذاب.. حاول أن يردني، لكن الكبرياء في أعماقي تصرخ وتأبى العودة.. مضيت عنه بإرادتي.. ولن أرجم صدر مَن رجمني.
عجلة الزمان دارت من جديد لتكمل مسارها الطبيعي.. عدتُ لعملي وكتاباتي بنضجٍ أكبر وأعمق، فالتجربة أساس الإبداع الحقيقي. ولم يبقَ منه سوى الذكرى وبكل ما فيها من فرح وألم وحزن ودموع.
ولكونه صحفي كان من السهل أن يعمل في إحدى الفضائيات مقدماً لبرنامج تلفزيوني اسمه (الجسر) كل حلقة منه تتحدث عن موضوع مستقل من مواضيع الحياة العديدة. وبالصدفة حولت على هذه القناة.. ورأيته أمامي مُرحباً ببداية حلقة جديدة من برنامجه.. ويدور محور الحلقة عن الذكريات.. كان يتحدث وكأنه فيلسوف زمانه.. لا أستغرب، فهو شاعر.. وشعره مثل الغيوم لم تكن تمطر منها سوى الكلمات! وجاءته اتصالات كثيرة، كلٌ يُبدي رأيهُ بالذكريات الحلوة والمرة.. ذكريات الوفاء والخيانة.. ذكريات نريد أن ننساها، وذكريات مثل الورود يبقى عبق شذاها وإن ذبُلت، فللذكرياتِ رائحة عذبة كرائحة مطر تمر فوق التراب.
وسألت نفسي: يا ترى ماذا بقي من ذكرياتي في قلبه؟ بشكلٍ لا إرادي أخذتُ الهاتف واتصلت بالرقم الظاهر أسفل الشاشة. وجاءني صوته:
_ ألو.
_ ألو.
_ نعم.. مَن معي؟
_ ورد.
مجرد أن ذكرتُ الاسم تغيرت ملامحه.. ياه.. كم الذكريات قاسية.. إنها تذبح في الحال.
_ نعم .. ورد تفضلي.
إذاً.. عرفَ صوتي.. قالها بصوت مرتجف.. ربما سأل نفسه: أهي ورد فعلاً؟ كيف لا.. وهل نسي صوتي! أستعيد في ذهني رأيه بي وتعليقه على صوتي: انهُ أعذب صوت في الدنيا.. وإنهُ يميزه من مليون صوت.
رأيتُ الذهول في عينيه.. صرفَ نظرهُ عن الكاميرا _عني_ خشية شيءٍ في نفسه.. يصمت حزيناً وبدا ساهماً للحظة.. هل يا ترى تسترجع ذاكرته صور ما كُنا عليه قبل سنوات؟ وتراه يسترجع الذكريات ذاتها! هل وصلهُ صوتي ضربة مفاجأة ومحطمة؟! خوفٌ طفيف اعترضَ وجهه المبتسم للشاشة وطافت عيناه عاجزتان وهو يحاول الإمساك بشيء تمناه.. هل نسيَ بأنه على الهواء؟! لنُشعل فتيل الذكريات بين أيدينا.. ونرى مَن ستحرق أولاً!
كل الألوان تعاقبت على ملامحه.. وفجأةً انقطع البرنامج الذي كان بثهُ مباشراً!
* * *
بعدَ أيام قرأتُ في إحدى الصحف المحلية خبراً مفاده: "توفي المذيع (فلان الفلاني) أثر نوبة قلبية أثناء تقديم برنامجه الأسبوعي (الجسر)".
الآن فقط .. ارتحت، فقد استطعتُ أن أنتزع جذوره من أرض نفسي!
ابتسمتُ له وحددتُ موعداً. التقينا في مكان عملي وأمام الناس.. جلسنا في الكافيتريا لمدة نصف ساعة.. وضع جهاز التسجيل على الطاولة.. وبدأ الحوار الذي نُشر وبالصور الملونة في إحدى المجلات العربية.
هكذا كانت البداية.. ولقاءاتنا دائماً متباعدة وبمحض الصدفة.. وذات يوم أفهمني بأنهُ لا يطيق البعاد عني ولا قيمة لدنياه إن لم أكن فيها.. وفاتحني برغبته بالارتباط بي.
فاجأني ما توصلَ إليه، وأسعدني أيضاً.. وماذا تريد المرأة أكثر من أن تجد رجلاً يحبها ويحتويها.. مواصفاتهُ مناسبة لي.. شاب يكبرني بأعوام قليلة، مثقف، مهذب، صاحب شهادة وطبع إنساني راقٍ.. فوافقت.
حينما وقفنا أمام القاضي ليعقد قراننا.. سألني:
_ ما مُقدم صداقكِ؟
فأجبت بهدوء:
_ هو.
رفع القاضي رأسه مبتسماً ومستغرباً جوابي، فسألني:
_ ومُؤخركِ؟
_ هو وضميره.
اتسعت ابتسامتهُ.. ووضع القلم جانباً وعاد بظهره إلى الوراء متأملاً جوابي الغريب، و وَجَه كلامهُ لأبي الموجود معي وخطيبي:
_ أنا قاضٍ منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة ولأول مرة أقف محتاراً أمام جوابٍ عجيبٍ كهذا.. و حَوَل نظره نحوي مُتسائلاً عن عملي، فأجابهُ والدي:
_ أديبة .. حضرة القاضي.
_ كنتُ متوقعاً ذلك.
هز رأسه و وَجه كلامه لخطيبي:
_ ضعها في عينيك وقلبك، فصعبٌ أن تجد امرأةً مثلها.
تزوجنا بعد أسبوع وقضينا شهر العسل في ربوع الشام.. وكأنها ضرباتُ ازميل تطرق في أُذني هذه الكلمات: أُحبكِ.. أُحبكِ.. أُحبكِ. وأصبحَ حضوره وحده كفيلٌ بغياب كل الأشياء من حولي. وقد ظلت ذكرى تلك الأيام عالقة _إلى الآن_ في خاطري وتفكيري.
عدنا إلى البلد.. وبعدَ أشهر انكشفَ لي عن طبعٍ ساديٍ لم أكن أتوقعهُ منه نهائياً..من الخارج شيء ومن الداخل شيء آخر.. تحولت حياتي معه إلى جحيمٍ لا يطاق.. كان يعاني من ازدواج الشخصية، تارةً أحزن عليه لحد البكاء وتارةً أُريد الخلاص بأي ثمن حتى ولو بالابتعاد عنه.. ويا ليت المرض وحده السبب الحقيقي لَكُنت رضيت وبررت استمراري معه محتملة بقناعة زوجةٍ ابتلاها القدر بمصابٍ ليسَ بيديها ولا بيديه.
صبرتُ على أخطائه، لكن.. إلى متى؟! وتساقطت كل أوراق الحب ذابلة صفراء أمام هبوب رياح خيانته.. عاتبته.. وتدحرجت دمعات على خدي.. مسحها بأطراف أنامله:
_ ثقي أنتِ وحدكِ دخلتِ القلب.
_ وهل هذا يكفي.. القسوة التي رأيتها في عينيك علمتني معنى العدل بحق نفسي.
ابتسمتُ له بإشفاق، فرد:
_ الرحمةُ فوق العدل.
و أضاءَ وجهه الشاحب ابتسامة أخيرة.
ما عدتُ أحتمل.. وكما دخلت حياته خرجت منها بسلام.. اعترض في البداية، لكنهُ رضخ لرغبتي حباً فيّ كما ادعى. لا أنكر بأني تعلقت به كثيراً.. والفراق الذي اخترته أنا حفر ندبة عميقة في قلبي.. ندبة ما زالت تنز بالدم كلما تذكرت أيامي معه، فحبي له لم يولد في داخلي سوى اللوعة والعذاب.. حاول أن يردني، لكن الكبرياء في أعماقي تصرخ وتأبى العودة.. مضيت عنه بإرادتي.. ولن أرجم صدر مَن رجمني.
عجلة الزمان دارت من جديد لتكمل مسارها الطبيعي.. عدتُ لعملي وكتاباتي بنضجٍ أكبر وأعمق، فالتجربة أساس الإبداع الحقيقي. ولم يبقَ منه سوى الذكرى وبكل ما فيها من فرح وألم وحزن ودموع.
ولكونه صحفي كان من السهل أن يعمل في إحدى الفضائيات مقدماً لبرنامج تلفزيوني اسمه (الجسر) كل حلقة منه تتحدث عن موضوع مستقل من مواضيع الحياة العديدة. وبالصدفة حولت على هذه القناة.. ورأيته أمامي مُرحباً ببداية حلقة جديدة من برنامجه.. ويدور محور الحلقة عن الذكريات.. كان يتحدث وكأنه فيلسوف زمانه.. لا أستغرب، فهو شاعر.. وشعره مثل الغيوم لم تكن تمطر منها سوى الكلمات! وجاءته اتصالات كثيرة، كلٌ يُبدي رأيهُ بالذكريات الحلوة والمرة.. ذكريات الوفاء والخيانة.. ذكريات نريد أن ننساها، وذكريات مثل الورود يبقى عبق شذاها وإن ذبُلت، فللذكرياتِ رائحة عذبة كرائحة مطر تمر فوق التراب.
وسألت نفسي: يا ترى ماذا بقي من ذكرياتي في قلبه؟ بشكلٍ لا إرادي أخذتُ الهاتف واتصلت بالرقم الظاهر أسفل الشاشة. وجاءني صوته:
_ ألو.
_ ألو.
_ نعم.. مَن معي؟
_ ورد.
مجرد أن ذكرتُ الاسم تغيرت ملامحه.. ياه.. كم الذكريات قاسية.. إنها تذبح في الحال.
_ نعم .. ورد تفضلي.
إذاً.. عرفَ صوتي.. قالها بصوت مرتجف.. ربما سأل نفسه: أهي ورد فعلاً؟ كيف لا.. وهل نسي صوتي! أستعيد في ذهني رأيه بي وتعليقه على صوتي: انهُ أعذب صوت في الدنيا.. وإنهُ يميزه من مليون صوت.
رأيتُ الذهول في عينيه.. صرفَ نظرهُ عن الكاميرا _عني_ خشية شيءٍ في نفسه.. يصمت حزيناً وبدا ساهماً للحظة.. هل يا ترى تسترجع ذاكرته صور ما كُنا عليه قبل سنوات؟ وتراه يسترجع الذكريات ذاتها! هل وصلهُ صوتي ضربة مفاجأة ومحطمة؟! خوفٌ طفيف اعترضَ وجهه المبتسم للشاشة وطافت عيناه عاجزتان وهو يحاول الإمساك بشيء تمناه.. هل نسيَ بأنه على الهواء؟! لنُشعل فتيل الذكريات بين أيدينا.. ونرى مَن ستحرق أولاً!
كل الألوان تعاقبت على ملامحه.. وفجأةً انقطع البرنامج الذي كان بثهُ مباشراً!
* * *
بعدَ أيام قرأتُ في إحدى الصحف المحلية خبراً مفاده: "توفي المذيع (فلان الفلاني) أثر نوبة قلبية أثناء تقديم برنامجه الأسبوعي (الجسر)".
الآن فقط .. ارتحت، فقد استطعتُ أن أنتزع جذوره من أرض نفسي!