ما كاد يدخل الغرقة الوحيد المأجورة التي يقطنها في هذا الحوش المتفسخ حتى ضم إليه زوجته وإبنتيه يقبلهن وهو يلهث لشدة ما أسرع في الوصول إليهن ولشدة سعادته بهذا الخبر الذي طالما انتظره.وأدركت الزوجة حتى دون أن تسأل أن إسمهم لا شك قد ظهر على قائمة المستفيدين من السكنات التي بنتها الدولة للمواطنين المعوزين.
لم تتمالك نفسها بدورها فأطلقتها زغرودة حادة حارة حملتها كل ما اختزنه كيانها من لوعة الانتظار لهذا اليوم السعيد , فتهاطل الجيران مهنئين مهللين مزغردين إذ كان بينهم من ظهر إسمه على القائمة , فعم الفرح كأن اليم يوم عيد.لأول مرة شعر بوعلام البكوش 1 أن إنسانيته قد عادت إليه.
فرغم أنه مجرد زبال تابع للبلدية فلم يكن يشعر أبدا أنه إنسان محروم أو مغبون إلا حين ياوي إلى هذه الغرفة الرطبة حيث يقيم.. وكان أشد ما يغضبه هو المرحاض المشترك بين سكان الحوش2 وكأنهم في محتشد.
كان يرى كل مرة بحكم احتكاكه بموظفي البلدية ورئيسها آماله تتبخر المرة تلو الأخرى كلما وزعوا سكنات جديدة ولم يظهر إسمه على القائمة رغم توسلاته ودموعه ورغم كونه إبن شهيد لثورة التحرير الكبرى.
هذه المرة فعل كما يفعل أغلب الناس ..لم يكتف بالتوسلات والدموع بل صار يقدم الخدمات لكل من يعتقده قادرا على مساعدته في المجلس البلدي..بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأقنع زوجته ببيع ما لديها من الذهب لتقديمه رشوة لأحد المسؤولين عن طريق وسيط أقنعه أن ذلك هو السبيل الوحيد إن كان يريد سكنا حقا.
في ذلك المساء زارني بوعلام ليزف إلي الخبر فقلت له بلغة الاشارات أني أعرف وأفهمته قدر المستطاع أنها قائمة أولية والقائمة النهائية سوف تظهر بعد أيام بعد دراسة الطعون إن وجدت.
كنت يومها مراسلا لاحدى الصحف لكن الناس ألفوا أن ينادوني "الجورناليست"في هذه المدينة الصغيرة وكثيرا ما كانوا يلجؤون إلي لطرح قضاياهم ومشاكلهم حتى بدأت أتهرب وأدعي أنني طلقت هذه المهنة البائسة.
لكنني كنت أحب بوعلام وأشفق عليه..كان رغم بكمه وصممه إنسانا خفيف الظل منطلقا مرحا صافية سريرته حتى لكأنه طفل لم يتلوث بعد بأدران الكبار.
وعدته أني سوف أفعل ما أستطيع لمساعدته فاراد أن يقيم لي عشاء بما تبقى له من مال لكني شكرته بحرارة ..بل لقد ضممته إلى صدري وقبلته وقد بدت رائحة عرقه المختلطة برائحة الزبالة في ثيابه وكأنها رائحة رضيع طاهر.
في الصباح التالي وقفت مشدوها أمام القائمة..لقد تسربت إليها الأيدي بالليل فغيرت منها بعض الأسماء..كنت أعلم بحكم تجربتي أنهم سوف يفعلون ذلك بطريقة أو بأخرى ..لكن غياب إسم بوعلام بدا أمرا لا يطاق.
حاولت الاتصال برئيس البلدية دون جدوى..وكان الهرج والمرج في باحة البلدية قد بدأ يعم حين ظهر بوعلام بكامل زينته كزبال بامتياز..حتى القفازين الجلديين المتسخين كانا مايزالان في يديه.كانت ملامح وجهه عبارة عن علامة استفهام كبيرة.حاولت الإقتراب منه لكنه دفعني عنه واقتحم الجموع نحو مكتب نائب الرئيس الذي كان يحاول إقناع الناس بالهدوء.
أشار إليه نائب الرئيس باحتقار أن يبتعد ويفسح المجال لمن يستطيع أن يتكلم..أخرج بوعلام صورة والده الشهيد التي كان يحتفظ بها دائما ورفعها أمام الجموع..فضحك البعض ..بينما جاء رجال الشرطة ليفرقوا الجمع ويدفعوا بهم خارج دار البلدية. بحثت عن بوعلام فلم أجده.وقفت أتأمل المشهد أمامي.دار البلدية لا زالت على حالها كما تركها الاستعمار الفرنسي.شجيرات قصيرة مزهرة تتوسطها بركة واسعة مستطيلة بنافورتها الرخامية .كان التغيير الوحيد هو تلك الصخرة الكبيرة التي تشبه رأس إنسان وفوقها بندقية كبيرة نحتت من الصخرة نفسها.قالوا إنها تمثل الشعب الجزائري وهو يفكر في الثورة أثناء الاستعمار الفرنسي.
التمثال يبدو أجمل وأكثر إيحاءً وهو منعكس على سطح البركة الآسنة التي لا تُنظف سوى في المناسبات أو قدوم أحد المسؤولين الكبار.
استفقت من شرودي على اللغط الذي ارتفع فجأة.لقد ظهر بوعلام مرتديا قشابية3 المجاهدين أثناء الثورة..عرفت أنها لوالده..وقد بدا رائعا بحق ورأسه معصوبا بعلم البلاد.رغم ذلك تعالت بعض القهقهات الساخرة .
ملامح بوعلام كانت صارمة مثل محارب في الأدغال..آه يا وطني الذي صيرك الوحوش دغلا ..بكيت في أعماق نفسي.
تذكرت أن بوعلام ولد سليما ..وقيل أنه أصيب بصدمة أفقدته السمع والقدرة على الكلام وهو طفل على إثر صراع عائلي عنيف بين أفراد عائلته خلف قتلى وجرحى ومعوقين مباشرة بعد الإستقلال.
رأيته يصارع بكمه والشرطة تمنعه من دخول البلدية.احمر وجهه وانتفخت أوداجه.ألتفت إلى الجمع وأخرج لهم لسانه تعبيرا عن الإحتقار .وحين ابتسموا لحركته بصق في وجوههم ثم صعد فوق التمثال /الرأس الذي يبدو أنه ما ينفك يفكر في الثورة..مد يده من تحت قشابيته وأخرج قنينة مياه معدنية مملوءة بسائل أحمر.
هذا السائل الذي قيل ان فرنسا انتقدت جودته يوما بسبب حمرته فرد عليها رئيس البلاد يومها4:
"نعم بترولنا أحمر..أتعلمون لماذا؟لأنه يُستخرج من أرض روتها دماء مليون ونصف المليون من الشهداء"
فتح بوعلام القنينة..أفرغها فوق جسده ثم أشعل النار..
لم يكن بوعلام أول من يفعلها احتجاجا لكنه كان بحق أول من أبدع في تصويرها وتمثيلها بقشابية أبيه الشهيد والعلم الذي مات من أجله .
لله درك يا بوعلام.
إقشعرت الأبدان..وشاعت الفوضى والشعلة أمامهم تتخبط وبوعلام ما زال يحاول التغلب على بكمه عبر تمتمات مخنوقة.
عدوت بكل طاقتي وألقيت بنفسي عليه لنسقط معا في بركة الماء.
ونحن محلقين خيل إلي أني سمعت بوعلام يصرخ..
والذين كانوا هناك أكدوا أنهم سمعوا الصرخة أيضا واضحة مفهومة.
لقد قال :
الله أكبر..عاشت الجزائر.
1-البكوش هو الأصم الأبكم في اللهجة الجزائرية.
2- الحوش هو البيت الكبير المقسم إلى غرف أو أكثر معدة للكراء.
3- القشابية هي جلباب صوفي قصير ينزل تحت الركبتين ويحزم في الوسط كان المجاهدون الجزائريون يرتدونه أبان ثورة التحريرالوطني.
4 – الرئيس الجزائري هو هواري بومدين1965-1978
في ذلك المساء زارني بوعلام ليزف إلي الخبر فقلت له بلغة الاشارات أني أعرف وأفهمته قدر المستطاع أنها قائمة أولية والقائمة النهائية سوف تظهر بعد أيام بعد دراسة الطعون إن وجدت.
كنت يومها مراسلا لاحدى الصحف لكن الناس ألفوا أن ينادوني "الجورناليست"في هذه المدينة الصغيرة وكثيرا ما كانوا يلجؤون إلي لطرح قضاياهم ومشاكلهم حتى بدأت أتهرب وأدعي أنني طلقت هذه المهنة البائسة.
لكنني كنت أحب بوعلام وأشفق عليه..كان رغم بكمه وصممه إنسانا خفيف الظل منطلقا مرحا صافية سريرته حتى لكأنه طفل لم يتلوث بعد بأدران الكبار.
وعدته أني سوف أفعل ما أستطيع لمساعدته فاراد أن يقيم لي عشاء بما تبقى له من مال لكني شكرته بحرارة ..بل لقد ضممته إلى صدري وقبلته وقد بدت رائحة عرقه المختلطة برائحة الزبالة في ثيابه وكأنها رائحة رضيع طاهر.
في الصباح التالي وقفت مشدوها أمام القائمة..لقد تسربت إليها الأيدي بالليل فغيرت منها بعض الأسماء..كنت أعلم بحكم تجربتي أنهم سوف يفعلون ذلك بطريقة أو بأخرى ..لكن غياب إسم بوعلام بدا أمرا لا يطاق.
حاولت الاتصال برئيس البلدية دون جدوى..وكان الهرج والمرج في باحة البلدية قد بدأ يعم حين ظهر بوعلام بكامل زينته كزبال بامتياز..حتى القفازين الجلديين المتسخين كانا مايزالان في يديه.كانت ملامح وجهه عبارة عن علامة استفهام كبيرة.حاولت الإقتراب منه لكنه دفعني عنه واقتحم الجموع نحو مكتب نائب الرئيس الذي كان يحاول إقناع الناس بالهدوء.
أشار إليه نائب الرئيس باحتقار أن يبتعد ويفسح المجال لمن يستطيع أن يتكلم..أخرج بوعلام صورة والده الشهيد التي كان يحتفظ بها دائما ورفعها أمام الجموع..فضحك البعض ..بينما جاء رجال الشرطة ليفرقوا الجمع ويدفعوا بهم خارج دار البلدية. بحثت عن بوعلام فلم أجده.وقفت أتأمل المشهد أمامي.دار البلدية لا زالت على حالها كما تركها الاستعمار الفرنسي.شجيرات قصيرة مزهرة تتوسطها بركة واسعة مستطيلة بنافورتها الرخامية .كان التغيير الوحيد هو تلك الصخرة الكبيرة التي تشبه رأس إنسان وفوقها بندقية كبيرة نحتت من الصخرة نفسها.قالوا إنها تمثل الشعب الجزائري وهو يفكر في الثورة أثناء الاستعمار الفرنسي.
التمثال يبدو أجمل وأكثر إيحاءً وهو منعكس على سطح البركة الآسنة التي لا تُنظف سوى في المناسبات أو قدوم أحد المسؤولين الكبار.
استفقت من شرودي على اللغط الذي ارتفع فجأة.لقد ظهر بوعلام مرتديا قشابية3 المجاهدين أثناء الثورة..عرفت أنها لوالده..وقد بدا رائعا بحق ورأسه معصوبا بعلم البلاد.رغم ذلك تعالت بعض القهقهات الساخرة .
ملامح بوعلام كانت صارمة مثل محارب في الأدغال..آه يا وطني الذي صيرك الوحوش دغلا ..بكيت في أعماق نفسي.
تذكرت أن بوعلام ولد سليما ..وقيل أنه أصيب بصدمة أفقدته السمع والقدرة على الكلام وهو طفل على إثر صراع عائلي عنيف بين أفراد عائلته خلف قتلى وجرحى ومعوقين مباشرة بعد الإستقلال.
رأيته يصارع بكمه والشرطة تمنعه من دخول البلدية.احمر وجهه وانتفخت أوداجه.ألتفت إلى الجمع وأخرج لهم لسانه تعبيرا عن الإحتقار .وحين ابتسموا لحركته بصق في وجوههم ثم صعد فوق التمثال /الرأس الذي يبدو أنه ما ينفك يفكر في الثورة..مد يده من تحت قشابيته وأخرج قنينة مياه معدنية مملوءة بسائل أحمر.
هذا السائل الذي قيل ان فرنسا انتقدت جودته يوما بسبب حمرته فرد عليها رئيس البلاد يومها4:
"نعم بترولنا أحمر..أتعلمون لماذا؟لأنه يُستخرج من أرض روتها دماء مليون ونصف المليون من الشهداء"
فتح بوعلام القنينة..أفرغها فوق جسده ثم أشعل النار..
لم يكن بوعلام أول من يفعلها احتجاجا لكنه كان بحق أول من أبدع في تصويرها وتمثيلها بقشابية أبيه الشهيد والعلم الذي مات من أجله .
لله درك يا بوعلام.
إقشعرت الأبدان..وشاعت الفوضى والشعلة أمامهم تتخبط وبوعلام ما زال يحاول التغلب على بكمه عبر تمتمات مخنوقة.
عدوت بكل طاقتي وألقيت بنفسي عليه لنسقط معا في بركة الماء.
ونحن محلقين خيل إلي أني سمعت بوعلام يصرخ..
والذين كانوا هناك أكدوا أنهم سمعوا الصرخة أيضا واضحة مفهومة.
لقد قال :
الله أكبر..عاشت الجزائر.
1-البكوش هو الأصم الأبكم في اللهجة الجزائرية.
2- الحوش هو البيت الكبير المقسم إلى غرف أو أكثر معدة للكراء.
3- القشابية هي جلباب صوفي قصير ينزل تحت الركبتين ويحزم في الوسط كان المجاهدون الجزائريون يرتدونه أبان ثورة التحريرالوطني.
4 – الرئيس الجزائري هو هواري بومدين1965-1978