وصل الدكتور النفسي إلى عيادته الخاصة التي على الدوام تعج بالمجانين وأنصاف المجانين، والمرضى الذين هم نفسيا مضطربون.. كانوا يجلسون ويبدون كالعقلاء بملامح وجوههم التي ملأها التوجس، وعيونهم التي غشيها وجل وقلق تلبد بالتأكيد كان عميقا.. ثم بسرعة مشى الدكتور نحو الباب، وقبل أن يدلف إلى غرفته توقفت قدماه إلى جواره.. وكان فمه قد بدأ يرسم على وجهه ابتسامة باردة، وأدار رأسه نصف دورة وهو لا يزال يكبّر ابتسامته ويوسعها، ونظر نحو سكرتيرة الاستقبال ذات الوجه الطويل الجميل الذي لونه مثل النحاس النظيف بعد دعكه بقطعة ليمون، ولسع وجهها بنظرة ساهمة قفزت من فوق إطار النظارة التي انزلقت بسبب العرق حتى استقرت عند أسفل انفه الرفيع الطويل.. ثم طلب من السكرتيرة إذا جاء الجنرال العجوز بعد نصف ساعة من الآن فادخليه على الفور، وإياك أن ينتظر ولو ثانية واحدة مع هؤلاء المنتظرين، المختلين والمجانين.. وأكد لها وقد راحت سبابته تلكز النظارة المنزلقة لتعيدها إلى مكانها، على ضرورة وأهمية ألا تأخذ من الجنرال أجرة العلاج كما هو معمول به مع العامة والفقراء.. والمجانين الذين هم سبب ثروة الدكتور، حتى بات الدكتور يتمنى من أعماق قلبه ويدعو الله أن يصيب الجنون والاضطراب النفسي كل الناس.. وعادة ما يعبس وجهه وربما يشعر بالقهر إذا جاء إلى عيادته شخص عاقل.. فلا نقود تعود عليه ولا فائدة ترجي من أي عاقل مهما أوتي من الحكمة ومهما بلغ حظه من العلم.
جلس الدكتور إلى طاولته كما اعتاد أن يجلس منذ سنين، وطلب من السكرتيرة إدخال أول مريض.. وصار الدكتور طول الوقت يحدق إلى عقارب ساعة الحائط المربعة، وأخذ يعقص جذعه إلى الوراء تارة ثم يرده إلى الأمام تارة ثانية، ويقلب ما أمامه من أوراق كثيرة تخص الجنرال المرتقب قدومه.. ومن الأرجح انه لم يكن يسمع كلام المريض المضطرب الذي هو أمامه، والذي يتحدث إليه بلا توقف.. كان الدكتور يشعر بنشوة عارمة لأنه لا يوجد في المدينة من ينكر فضله الكبير على كل مجانين البلد، ومخابيلها الذين يعرفهم الدكتور حق المعرفة بالجملة وبالمفرق.. ويعرف سيرة حياة كل مجنون منهم، منذ اللحظة التي سحبته فيها الداية من بطن أمه إلى لحظة جنونه، وأحيانا إلى لحظة وفاته.. رغم ذلك يشعر بينه وبين نفسه بأنه لا يزال مدينا إلى الجنرال العجوز.. لأن الجنرال قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما صنع له معروفا كبيرا حين امسك بيده المسدس وصوب منه رصاصة إلى رجل الدكتور، فأصاب قدمه واحدث بها عاهة أكيدة أعفته من التجنيد، فلا يذهب إلى الحرب.. وبالفعل حصل الدكتور بسرعة على الإعفاء.. وبشكل قانوني أقوى من القانون نفسه، وكان حينها الدكتور قد تخرج حديثا في الجامعة.. والجنرال أيضا يشعر في أعماقه بأنه ما انفك مدين إلى الدكتور، لأن زوجة الدكتور كانت تعطي زوجة الجنرال دروسا خصوصية مجانية لوجه الله في فنون الطبخ والحلويات.. وخاصة طبخة الملوخية بما في ذلك طريقة خرطها ناعمة في غاية النعومة، وأعطتها أيضا درسا خصوصيا في كيفية إدخال الخيط في ثقب الإبرة، ثم علمتها التطريز.. كل هذا كان بهدف التسلية وملء وقت الفراغ، لأن زوجة الجنرال كانت في الكثير من الأوقات تزهق من السهرات التي تقيمها من ليلة إلى ليلة، خاصة بعد إصابتها بالروماتيزم وضغط الدم.. وفي مرات كثيرة كانت تمل قراءة الروايات الرومانسية التي كانت تنفق عليها الكثير من الوقت.. حتى الأفلام التلفزيونية صارت تشمئز منها.
بالفعل وصل الجنرال العجوز في الموعد المحدد.. وراح يقرع البلاط النظيف بعكازه الذي له طرفان من المعدن.. وعرفته السكرتيرة فور وصوله ليس فقط من تكشيرته العسكرية الصارمة التي بالفعل كانت عريضة ومهيبة، كان نصف تكشيرته تبثه عيناه، ونصفها الآخر يشد بصعوبة تجاعيد وجهه المستطيل، وكانت شفته العليا تضغط على أختها السفلى بتوتر مكتوم، إنما عرفته أيضا من بذلته العسكرية المرصعة بالرتب والأوسمة والنياشين، التي كانت تلمع وتبرق تحت نور لمبة العيادة الوضاء، والجنرال بسبب هذه الأوسمة لا يخلع البذلة عن جسده بالمرة، إلى درجة انه ينام فيها على السرير في الليل، وفي النهار.. ولا يخلعها أيضا في الحر الشديد.
أومأت السكرتيرة برموشها الطويلة الملوية أطرافها بالمسكراة، وبأدب جم رمشت إلى الجنرال تأذن له بالدخول إلى غرفة الدكتور.. بعد تأكدها من إخراج الدكتور للمريض الذي كان عنده.
جلس الجنرال على كرسي الكنبة، وراح يرد على ترحيب الدكتور به وهو يخلع على مهله القبعة العسكرية ويلقيها على الطاولة بهدوء.. للحظة حدق الدكتور مبتسما مبهورا إلى القبعة، والى النسر المعدني اللامع الذي ينتصب منفوشا في مقدمة حافتها، وكأنه يتوقع أن تدب فيه الحياة في أي لحظة فيرفرف ويطير.
أعطى الدكتور إلى الجنرال كوبا من عصير البرتقال.. وناوله حبة دواء صغيرة بيضاء.. ثم بدأ الجنرال يحدث الطبيب باستكانة، بعد أن جرع من العصير جرعة أو جرعتين، وبعد صمت لم يكن طويلا.. لكنه بالتأكيد كان ثقيلا..
- أنا لست مجنونا يا دكتور.. ولكن يصيبني التوتر العصبي والاضطراب من حين إلى آخر.. وكلما رأيت صحنا من المهلبية أو حتى صحن فارغ فإن عقلي يطير، وأتوتر وروحي تشيط.. فاهجم عليه واكسره.. وكثيرا ما أطلق عليه الرصاص من مسدسي الذي لا يفارقني.
- أنت قلت لي هذا قبل ذلك.. ما هي حكاية صحون المهلبية يا سيادة الجنرال؟
- في مرة.. ذات يوم بعيد.. قبل ستين عاما.. على وجه التحديد قبل زواجي بيومين.. وسوّس لي الشيطان في رأسي ودفعني لأن اعزم زوجتي التي كانت وقتها لا تزال خطيبتي إلى مطعم فخم..
- ثم.. هل.. هل عزمتها يا سيادة الجنرال؟
- آه.. طبعا.. عزمتها.. أكلنا وشربنا حتى انتفخت بطوننا وكادت تنفجر.. ثم جاء النادل وسألنا إذا كنا نريد شيئا آخر.. يعني حلويات بعد الأكل يا دكتور.. فطلبت خطيبتي كريم كرميل بعد أن أطالت التحديق إلى قائمة الحلويات.. أما أنا فطلبت على الفور صحنا من المهلبية بالملح، دون النظر إلى قائمة الأطعمة.. فارتبك النادل وبرز على وجهه المربع ابتسامة صفراء، وعوج فمه مستغربا.. وصار وجهه اصفر مثل حبة الليمون المستوّية يا دكتور، وأنا ما زلت أؤكد له أنني أريدها بالملح.. وارتبكت خطيبتي أيضا وطوت رقبتها، لأنها على ما يبدو كانت خزيانة.. والناس الآخرون الذين حولنا غرقوا هم أيضا في الضحك الصاخب، حتى كادوا يقعوا عن الكراسي.. وبعضهم وضع يده على بطنه خشية أن تتمزق أحشاءه لكثرة الضحك.. يومها شعرت بالإحراج يا دكتور.. وكنت محرجا وخزيان .. لكنني تصنعت الثقة بالنفس.. آه.. أما كان يوما..
- لكن.. هل احضر لك النادل المهلبية بالملح؟
- بالطبع.. احضرها يا دكتور.. بعد دقائق معدودة.. واكلتها على مضض.. كان طعمها مثل الزفت.. وتصنعت أنني مستلذا بها، وأنني في غاية الاستمتاع بطعمها و في أوج السعادة لنكهتها.. ولمّا سألتني زوجتي عن سبب ذلك كذبت عليها.. وقلت لها بأنني أحبها هكذا بالملح لأنني رجل عسكري ويجب عليّ أن أتحمل الخشونة وعليّ أن أكون غير الآخرين.. وقتها كنت لا أزال ضابطا صغيرا في الجيش.. وكان مرتبي بالكاد يكفي لبدء حياة زوجية.
- ثم.. ثم ماذا حصل بعد ذلك؟
- عشت مع زوجتي مدة ستين عاما.. صارت في كل يوم تصنع لي المهلبية بالملح، لأنها تحبني.. وتصنعها لنفسها بالسكّر.. وكنت آكلها بالملح وأتصنع أنها تعجبني، وأنها تطلع لذيذة من تحت يديها.. وتحملت العذاب والشقاء.. خفت أن تعلم زوجتي بأنني كذبت عليها.. ستون عاما يا دكتور وأنا في كل يوم آكل المهلبية بالملح، حتى نشف بطني وصار مثل الفسيخ.. وكانت زوجتي في بعض الأيام تتعمد الإكثار منها لأنها كانت تحبني، وتود أن تلبي رغباتي.. وتريد أن ترضيني بأي شكل.. وكانت في مرات كثيرة تزيد من كمية الملح كي تسعدني .. آه يا دكتور.. كنت مضطرا لأن الهطها.. وأتصنع البهجة حين اهف وأسف هذه المهلبية المالحة.. واشكر زوجتي على مضض وأقول لها تسلمي لي يا عمري، دون أن أشعرها بأن بطني يتمزق ولساني يتشقق.. وروحي كانت تختنق.
- وماذا حصل بعد ذلك؟
- منذ أربعة شهور ماتت زوجتي.. قبل أن اخبرها بأنني كذبت عليها.. من وقتها وأنا تعبان يا دكتور، لأن ضميري صار يعذبني لشعوري بأنني كذبت عليها وخدعتها.. نفسي تهفو باستمرار إلى أن أطلق الرصاص على كل صحون المهلبية في هذا العالم.. وعلى أي صحن خلقه الله، حتى لو كان فارغا، وحتى لو كان صحن فنجان قهوة صغير.. منذ وفاة زوجتي يداهمني الاضطراب.. تعبت.. جدا يا دكتور.. إلى درجة أنني أطلق الرصاص على الناس الذين لهم وجوه مدّورة، لأنني أخالها صحونا.. لا أتحمل رؤية الوجوه المدّورة.
حدق الدكتور إلى الجنرال.. مستغربا.. لا يصدق أنه أمام أنسانا ضعيفا.. جنرال وضعيف، كأن المياه قد اجتمعت مع النار.. فتح الدكتور فمه ومط شفته السفلى، ورفع طرف لسانه ليعبث قليلا بباطن شفته العليا.. وامسك ببعض الأوراق الملقاة أمامه على سطح المكتب.. ثم نزّل الدكتور لسانه ومدده من جديد في قاع فمه، وابتسم وكان لا يود أن يبتسم .. ثم استطرد..
- ولكن لماذا أنت يومها طلبت المهلبية بالملح؟
- لأنني ارتبكت، فأخطأت.. فبدل أن أقول للنادل مهلبية بالسكّر.. لا اعرف كيف قال لساني مهلبية بالملح.. ولم ارغب بالتراجع وقتها عن خطئي.. خشية أن اظهر ضعيف أمام زوجتي.. ومتردد.. كانت غلطة عمري يا دكتور.
- لماذا لم تتراجع عن الخطأ بعد الزواج.. ولو بعد سنين؟
- خشية أن تقل هيبتي في نظرها.. وخفت أن اصغر في عينيها.. ما أجمل الإنسان عندما يعترف بالخطأ يا دكتور.. ستون عاما وأنا الهطها بالملح.. أرجوك، ألحقني يا دكتور.
- ولكن.. لماذا كنت مرتبكا وأنت تطلب المهلبية بالملح؟
- لان جهاز الراديو كان يذيع أخبار الحرب والمعارك في فلسطين.. وكان لا ينقل الحقيقة، بل كان يقلبها ويعكسها.. وأنا كنت اعرف الواقع المر في الميدان.. الواقع الذي لم تكن تعرفه الناس يا دكتور.. حينها جاء النادل.. وارتبكت.. تصوّر يا دكتور أنني في الأعوام الأخيرة، بعد طلوعي على المعاش تعودت عليها بالملح.. وإذا أكلتها بالسكّر فأنني أدوخ .. وتؤلمني معدتي وأتقيأ ويصيبني الغثيان والدوار.. ورغم ذلك فأنا أطلق النار على أي صحن أراه أمامي بلا وعي مني.. آه يا دكتور.. ستون عاما.. آكلها بالملح.. مرات أحس بأنني صرت اكره كل أنواع المهلبية ولا أتحمل لحسه واحدة منها، ومرات أحس أنني أحبها.. والله أنا محتار يا دكتور.. ستون عاما.. ستون.. تصوّر..
طلب الدكتور من الجنرال أن يرخي نفسه ويتمدد على السرير.. وناوله حبة دواء أخرى لونها ابيض، وكوبا من الماء.. وحقنه بمشقة في باطن ذراعه اليابس.. وتركه يستريح.
مد الدكتور يده إلى الموبايل وتحدث مع ابنه- ابن الدكتور- وطلب منه أن يحضر إلى العيادة في الحال.
أخذ الدكتور يحدق ويقلب الأوراق التي في الملف الطبي للجنرال.. فبرق في ذهنه سؤال قد لا يكون له علاقة بمرض الجنرال.. ربما هو بدافع الفضول..
- ولكن.. ولكن كيف استطعت الزواج والحرب كانت لا تزال لم تتوقف في فلسطين يا سيادة الجنرال؟ لماذا لم تتوجه وقتها إلى الحرب في فلسطين؟
- آه.. حكاية طويلة يا دكتور.. الذي حصل أن زوجتي كانت تستعجل الزواج.. لذلك هجمت على ذراعي وعضتني ثلاث عضات.. واحدة من تلك العضات نهشت ذراعي وطلعت منها اللحمة.. ويومها خيطوها ثماني غرز يا دكتور.. انظر إلى آثارها فهي لا تزال باقية إلى الآن.. انظر!.. انظر هنا يا دكتور!.. كنت في كل يوم آخذ حقنة لمدة واحد وعشرين يوما.. آه.. عضة الإنسان لا تقل خطورة عن عضة الكلب المسعور.. والله.. ثم أعطوني إثر ذلك إجازة مرضية.. فكانت فرصة رائعة لي كي أتزوج.. يعني الفضل يعود لزوجتي وعضاتها.. الله يرحمها.. ماتت بعد أن التهمت كيلو من الفسيخ وهي مصابة بالضغط، ثم اتبعته بثلاثة عشر كوبا كبيرا من الماء، ماتت حين مدت يدها لتناول الكوب الرابع عشر .. لكنه قضاء الله وقدره.. الله يرحمها.
طلب الدكتور من الجنرال أن يهدئ أعصابه.. وأشار إليه أن يجلس على الكرسي .. في هذه اللحظة وصل ابن الدكتور، فقدم الدكتور ابنه إلى الجنرال وعرفهما إلى بعض.
وتمنى الدكتور على الجنرال أن يصنع مع ابنه نفس المعروف الذي صنعه له قبل خمسة وعشرين عاما.. ورجاه أن يصوب رصاصة من مسدسه إلى قدم ابنه ليحدث بها عاهة أبدية، لأن الدنيا مقلوبة، والزمن ليس له أمان.. ورجاه أيضا ابن الدكتور الذي انحنى على الفور وقبل يد الجنرال ورصعها بالقبلات حتى بللها بالبصاق.
امسك الجنرال مسدسه بيد مرتجفة.. وقعت عيناه على دائرة مرسومة على صدر ابن الدكتور، على البلوزة.. جهة القلب.
تهيأ للجنرال أن الدائرة صحن.. فاحمرت عيناه.. ورجف.. ثم أطلق على الدائرة الرصاص.
بالفعل وصل الجنرال العجوز في الموعد المحدد.. وراح يقرع البلاط النظيف بعكازه الذي له طرفان من المعدن.. وعرفته السكرتيرة فور وصوله ليس فقط من تكشيرته العسكرية الصارمة التي بالفعل كانت عريضة ومهيبة، كان نصف تكشيرته تبثه عيناه، ونصفها الآخر يشد بصعوبة تجاعيد وجهه المستطيل، وكانت شفته العليا تضغط على أختها السفلى بتوتر مكتوم، إنما عرفته أيضا من بذلته العسكرية المرصعة بالرتب والأوسمة والنياشين، التي كانت تلمع وتبرق تحت نور لمبة العيادة الوضاء، والجنرال بسبب هذه الأوسمة لا يخلع البذلة عن جسده بالمرة، إلى درجة انه ينام فيها على السرير في الليل، وفي النهار.. ولا يخلعها أيضا في الحر الشديد.
أومأت السكرتيرة برموشها الطويلة الملوية أطرافها بالمسكراة، وبأدب جم رمشت إلى الجنرال تأذن له بالدخول إلى غرفة الدكتور.. بعد تأكدها من إخراج الدكتور للمريض الذي كان عنده.
جلس الجنرال على كرسي الكنبة، وراح يرد على ترحيب الدكتور به وهو يخلع على مهله القبعة العسكرية ويلقيها على الطاولة بهدوء.. للحظة حدق الدكتور مبتسما مبهورا إلى القبعة، والى النسر المعدني اللامع الذي ينتصب منفوشا في مقدمة حافتها، وكأنه يتوقع أن تدب فيه الحياة في أي لحظة فيرفرف ويطير.
أعطى الدكتور إلى الجنرال كوبا من عصير البرتقال.. وناوله حبة دواء صغيرة بيضاء.. ثم بدأ الجنرال يحدث الطبيب باستكانة، بعد أن جرع من العصير جرعة أو جرعتين، وبعد صمت لم يكن طويلا.. لكنه بالتأكيد كان ثقيلا..
- أنا لست مجنونا يا دكتور.. ولكن يصيبني التوتر العصبي والاضطراب من حين إلى آخر.. وكلما رأيت صحنا من المهلبية أو حتى صحن فارغ فإن عقلي يطير، وأتوتر وروحي تشيط.. فاهجم عليه واكسره.. وكثيرا ما أطلق عليه الرصاص من مسدسي الذي لا يفارقني.
- أنت قلت لي هذا قبل ذلك.. ما هي حكاية صحون المهلبية يا سيادة الجنرال؟
- في مرة.. ذات يوم بعيد.. قبل ستين عاما.. على وجه التحديد قبل زواجي بيومين.. وسوّس لي الشيطان في رأسي ودفعني لأن اعزم زوجتي التي كانت وقتها لا تزال خطيبتي إلى مطعم فخم..
- ثم.. هل.. هل عزمتها يا سيادة الجنرال؟
- آه.. طبعا.. عزمتها.. أكلنا وشربنا حتى انتفخت بطوننا وكادت تنفجر.. ثم جاء النادل وسألنا إذا كنا نريد شيئا آخر.. يعني حلويات بعد الأكل يا دكتور.. فطلبت خطيبتي كريم كرميل بعد أن أطالت التحديق إلى قائمة الحلويات.. أما أنا فطلبت على الفور صحنا من المهلبية بالملح، دون النظر إلى قائمة الأطعمة.. فارتبك النادل وبرز على وجهه المربع ابتسامة صفراء، وعوج فمه مستغربا.. وصار وجهه اصفر مثل حبة الليمون المستوّية يا دكتور، وأنا ما زلت أؤكد له أنني أريدها بالملح.. وارتبكت خطيبتي أيضا وطوت رقبتها، لأنها على ما يبدو كانت خزيانة.. والناس الآخرون الذين حولنا غرقوا هم أيضا في الضحك الصاخب، حتى كادوا يقعوا عن الكراسي.. وبعضهم وضع يده على بطنه خشية أن تتمزق أحشاءه لكثرة الضحك.. يومها شعرت بالإحراج يا دكتور.. وكنت محرجا وخزيان .. لكنني تصنعت الثقة بالنفس.. آه.. أما كان يوما..
- لكن.. هل احضر لك النادل المهلبية بالملح؟
- بالطبع.. احضرها يا دكتور.. بعد دقائق معدودة.. واكلتها على مضض.. كان طعمها مثل الزفت.. وتصنعت أنني مستلذا بها، وأنني في غاية الاستمتاع بطعمها و في أوج السعادة لنكهتها.. ولمّا سألتني زوجتي عن سبب ذلك كذبت عليها.. وقلت لها بأنني أحبها هكذا بالملح لأنني رجل عسكري ويجب عليّ أن أتحمل الخشونة وعليّ أن أكون غير الآخرين.. وقتها كنت لا أزال ضابطا صغيرا في الجيش.. وكان مرتبي بالكاد يكفي لبدء حياة زوجية.
- ثم.. ثم ماذا حصل بعد ذلك؟
- عشت مع زوجتي مدة ستين عاما.. صارت في كل يوم تصنع لي المهلبية بالملح، لأنها تحبني.. وتصنعها لنفسها بالسكّر.. وكنت آكلها بالملح وأتصنع أنها تعجبني، وأنها تطلع لذيذة من تحت يديها.. وتحملت العذاب والشقاء.. خفت أن تعلم زوجتي بأنني كذبت عليها.. ستون عاما يا دكتور وأنا في كل يوم آكل المهلبية بالملح، حتى نشف بطني وصار مثل الفسيخ.. وكانت زوجتي في بعض الأيام تتعمد الإكثار منها لأنها كانت تحبني، وتود أن تلبي رغباتي.. وتريد أن ترضيني بأي شكل.. وكانت في مرات كثيرة تزيد من كمية الملح كي تسعدني .. آه يا دكتور.. كنت مضطرا لأن الهطها.. وأتصنع البهجة حين اهف وأسف هذه المهلبية المالحة.. واشكر زوجتي على مضض وأقول لها تسلمي لي يا عمري، دون أن أشعرها بأن بطني يتمزق ولساني يتشقق.. وروحي كانت تختنق.
- وماذا حصل بعد ذلك؟
- منذ أربعة شهور ماتت زوجتي.. قبل أن اخبرها بأنني كذبت عليها.. من وقتها وأنا تعبان يا دكتور، لأن ضميري صار يعذبني لشعوري بأنني كذبت عليها وخدعتها.. نفسي تهفو باستمرار إلى أن أطلق الرصاص على كل صحون المهلبية في هذا العالم.. وعلى أي صحن خلقه الله، حتى لو كان فارغا، وحتى لو كان صحن فنجان قهوة صغير.. منذ وفاة زوجتي يداهمني الاضطراب.. تعبت.. جدا يا دكتور.. إلى درجة أنني أطلق الرصاص على الناس الذين لهم وجوه مدّورة، لأنني أخالها صحونا.. لا أتحمل رؤية الوجوه المدّورة.
حدق الدكتور إلى الجنرال.. مستغربا.. لا يصدق أنه أمام أنسانا ضعيفا.. جنرال وضعيف، كأن المياه قد اجتمعت مع النار.. فتح الدكتور فمه ومط شفته السفلى، ورفع طرف لسانه ليعبث قليلا بباطن شفته العليا.. وامسك ببعض الأوراق الملقاة أمامه على سطح المكتب.. ثم نزّل الدكتور لسانه ومدده من جديد في قاع فمه، وابتسم وكان لا يود أن يبتسم .. ثم استطرد..
- ولكن لماذا أنت يومها طلبت المهلبية بالملح؟
- لأنني ارتبكت، فأخطأت.. فبدل أن أقول للنادل مهلبية بالسكّر.. لا اعرف كيف قال لساني مهلبية بالملح.. ولم ارغب بالتراجع وقتها عن خطئي.. خشية أن اظهر ضعيف أمام زوجتي.. ومتردد.. كانت غلطة عمري يا دكتور.
- لماذا لم تتراجع عن الخطأ بعد الزواج.. ولو بعد سنين؟
- خشية أن تقل هيبتي في نظرها.. وخفت أن اصغر في عينيها.. ما أجمل الإنسان عندما يعترف بالخطأ يا دكتور.. ستون عاما وأنا الهطها بالملح.. أرجوك، ألحقني يا دكتور.
- ولكن.. لماذا كنت مرتبكا وأنت تطلب المهلبية بالملح؟
- لان جهاز الراديو كان يذيع أخبار الحرب والمعارك في فلسطين.. وكان لا ينقل الحقيقة، بل كان يقلبها ويعكسها.. وأنا كنت اعرف الواقع المر في الميدان.. الواقع الذي لم تكن تعرفه الناس يا دكتور.. حينها جاء النادل.. وارتبكت.. تصوّر يا دكتور أنني في الأعوام الأخيرة، بعد طلوعي على المعاش تعودت عليها بالملح.. وإذا أكلتها بالسكّر فأنني أدوخ .. وتؤلمني معدتي وأتقيأ ويصيبني الغثيان والدوار.. ورغم ذلك فأنا أطلق النار على أي صحن أراه أمامي بلا وعي مني.. آه يا دكتور.. ستون عاما.. آكلها بالملح.. مرات أحس بأنني صرت اكره كل أنواع المهلبية ولا أتحمل لحسه واحدة منها، ومرات أحس أنني أحبها.. والله أنا محتار يا دكتور.. ستون عاما.. ستون.. تصوّر..
طلب الدكتور من الجنرال أن يرخي نفسه ويتمدد على السرير.. وناوله حبة دواء أخرى لونها ابيض، وكوبا من الماء.. وحقنه بمشقة في باطن ذراعه اليابس.. وتركه يستريح.
مد الدكتور يده إلى الموبايل وتحدث مع ابنه- ابن الدكتور- وطلب منه أن يحضر إلى العيادة في الحال.
أخذ الدكتور يحدق ويقلب الأوراق التي في الملف الطبي للجنرال.. فبرق في ذهنه سؤال قد لا يكون له علاقة بمرض الجنرال.. ربما هو بدافع الفضول..
- ولكن.. ولكن كيف استطعت الزواج والحرب كانت لا تزال لم تتوقف في فلسطين يا سيادة الجنرال؟ لماذا لم تتوجه وقتها إلى الحرب في فلسطين؟
- آه.. حكاية طويلة يا دكتور.. الذي حصل أن زوجتي كانت تستعجل الزواج.. لذلك هجمت على ذراعي وعضتني ثلاث عضات.. واحدة من تلك العضات نهشت ذراعي وطلعت منها اللحمة.. ويومها خيطوها ثماني غرز يا دكتور.. انظر إلى آثارها فهي لا تزال باقية إلى الآن.. انظر!.. انظر هنا يا دكتور!.. كنت في كل يوم آخذ حقنة لمدة واحد وعشرين يوما.. آه.. عضة الإنسان لا تقل خطورة عن عضة الكلب المسعور.. والله.. ثم أعطوني إثر ذلك إجازة مرضية.. فكانت فرصة رائعة لي كي أتزوج.. يعني الفضل يعود لزوجتي وعضاتها.. الله يرحمها.. ماتت بعد أن التهمت كيلو من الفسيخ وهي مصابة بالضغط، ثم اتبعته بثلاثة عشر كوبا كبيرا من الماء، ماتت حين مدت يدها لتناول الكوب الرابع عشر .. لكنه قضاء الله وقدره.. الله يرحمها.
طلب الدكتور من الجنرال أن يهدئ أعصابه.. وأشار إليه أن يجلس على الكرسي .. في هذه اللحظة وصل ابن الدكتور، فقدم الدكتور ابنه إلى الجنرال وعرفهما إلى بعض.
وتمنى الدكتور على الجنرال أن يصنع مع ابنه نفس المعروف الذي صنعه له قبل خمسة وعشرين عاما.. ورجاه أن يصوب رصاصة من مسدسه إلى قدم ابنه ليحدث بها عاهة أبدية، لأن الدنيا مقلوبة، والزمن ليس له أمان.. ورجاه أيضا ابن الدكتور الذي انحنى على الفور وقبل يد الجنرال ورصعها بالقبلات حتى بللها بالبصاق.
امسك الجنرال مسدسه بيد مرتجفة.. وقعت عيناه على دائرة مرسومة على صدر ابن الدكتور، على البلوزة.. جهة القلب.
تهيأ للجنرال أن الدائرة صحن.. فاحمرت عيناه.. ورجف.. ثم أطلق على الدائرة الرصاص.