جلس المعلم عبد الرحمن على الكرسي المقابل لمكتبه ... وضع يده عليه ، بدأ ينقر بأصابعه حركات تتناوب فيها السبابة مع أخواتها بشكل أحدث إيقاعا نغميا ... أثارت حركاته انتباه التلاميذ الصغار ... لم يكن يهتم لرد فعل أحد خاصة هؤلاء الصغار ... بعد أربعين سنة من العمل المضني ... بعد الجهاد والكفاح ... خلال أربعة عقود بالتمام والكمال كان فيها معلما ومربيا وأبا و ... و ... سندا لهؤلاء الصبية الأبرياء ، كم علـٌم ودرٌس وربـٌى ... من أبناء هذا الوطن الحبيب . كان يحفظ أسماءهم واحدا بعد الواحد ... ويحفظ عن ظهر قلب هذه المؤسسة العتيدة ، بقاعاتها وساحتها ... بجدرانها وأبوابها ... أما قاعته هو فكان يختزن في ذاكرته خريطتها ، كل صغيرة وكبيرة ، كل أداة ؛ واحدة واحدة ، يستطيع وهو مغمض العينين ، أن يسرد ما على كل طاولة من أشكال وحروف وألوان ورسوم ... مما دبجه التلاميذ على مر السنين ... في الصباح الباكر ، وقبل الموعد المحدد ، يدخل القاعة ، يبلل الممسحة الإسفنجية بماء معدني ، يمسح السبورة بشكل متقن ، يمرر ممسحته الأليفة على المكتب ، يلامس سطحه بأصابعه متأكدا من نظافته ... يقف أمام النافذة ، يتأمل الفضاء المحيط بالمدرسة من الطابق العلوي ، يسقي الأزهار الصغيرة التي دأب على رعايتها منذ سنوات ، عادة استحالت إلى سنة ... اعتبرها أمرا لا يقبل الجدال ...
بعد أربعين سنة ... أمضاها بأعوامها وشهورها وأيامها ، بدقائقها وثوانيها ... رغم كل ما فيها من كفاح وصبر ونضال وجهاد ... بعد كل ما يذكر وما لا يذكر ... بعد كل ما تذكره وكل ما نسيه وتذكرته السبورة والطاولات ودفاتر التلاميذ ... مئات ...آلاف الصفحات ، مئات الأرقام الحمراء التي خط بها خطوطا ... نقطا وملاحظات ...آلاف التلاميذ ... السبورة هذه الرفيقة حديثة العهد ... لقد تم استبدال واحدة جديدة بتلك القديمة ، الطاولات... كل شيء في هذه القاعة ، في " القسم الأنيق " كما سماه رفاقه من المدرسين وحتى من المفتشين الذين زاروه ... ومنهم من كان تلميذا له في يوم من الأيام ، كل ما حوله تغير . وهو يخطو بفكره وخياله خطوات في ذاكرته ... يسرد الأحداث ... لقطة لقطة ، كل شيء تغير ... تبدل ، لاشيء في هذا القسم تربطه به علاقة تتجاوز خمس سنين ... فجأة أحس بأصابعه تلامس سطحا ، تدغدغه برفق ، أحس بعطف ...عاد من شروده ... نظر ... حدق ... أحاط أصابعه بطرف المسطرة ... أحس إحساسا غريبا ما أحس به أو بمثله من قبل ... عاد إلى الحفر من جديد ، لكن هذه المرة في أعمق أعماق ذاكرته ... حاول أن يحرك الصور أمام بصيرته بأكبر قدر ممكن من الطاقة وأوضح صورة ممكنة ... فجأة توقفت الصور عن الحركة ... صورة صغيرة باهتة ... حاول قدر المستطاع أن يجعلها واضحة لكن دون جدوى ... بذل أقصى جهده ، وحينما أعياه الأمر قرر أن يعود إلى الحاضر ، إلى اللحظة الآنية ... وهو يلامس من جديد هذه المسطرة انتفضت أمامه صورة من الصور ، ودون أن يجهد نفسه ، بدأت تتشكل ، تتسع ... تتضح ... إنه مشهد كامل : شخصية واحدة ... زمن واحد ... مكان واضح ... حدث مركزي : الشخصية الرئيسية عبارة عن فتى في العشرين من عمره يتجه صوب مكتبة من المكتبات التي لم يعد لها وجود ... يقتني مسطرة جديدة بمناسبة تعيينه معلما مكلفا بالتدريس في بادية من بوادي هذا البلد الأمين ... أدرك أنه هو الفتى الذي في الصورة ، وأن المسطرة ... هي نفسها التي على مكتبه الآن ... أيقن أن الرفيق الذي رافقه أربعين سنة وهو الذي عليه مصاحبته وهو يغادر هذه القاعة متجها صوب التقاعد ...هو هذه المسطرة ، رفيقة الدرب الطويل ... وضع مفاتيح القاعة على المكتب ، اتجه صوب الباب وهو يتأبط مسطرته بكل رفق وحنان ... فالطريق أمامهما ... مازال طويلا....