كانت البارحة أمي هنا، كانت تجود لكل منا بما يشتهى، وكان ما تمنحه عسلا مصفى؛ لوجهها كانت تتفتح أزهار اللوز،والتفاح ، والورد والأقحوان . ولأجل عينيها كانت تتنافس جميعا فتبدع في تشكيل الهيئات والألوان.
وداهمتنا أحذية كثيرة غليظة، شديدة الوقع، قاسية؛ تتقاطع، تتوالى أصوات وقعها في الخارج، كانت تدوس الأزهار التي لم تكن تراها.
قفزت أمي من فراشها وأمسكت ساطورها الحاد، واندفعت نحو الباب الخارجي الذي راح يئز تحت ضغط العسكري الذي كان يريد اقتلاعه، سمعنا ضجة ارتطام جسم ضخم بالأرض، وبعد لحظات عادت أمي وقد صارت شعلة من نشاط وبيدها ساطورها يتقاطر دما ،تمترست خلف باب غرفتنا ، أمام أعيننا ، دوى انفجار تبعه انتشار نور لامع كاشف تسرب من خلال فتحات الباب حتى تصورنا أننا في منتصف نهار مشمس ؛ هدر الرشاش ، وكان الرمي مركزا على الباب الذي كانت تقف وراءه أمي متحفزة ، تمسك ساطورها الحاد القاطع بيدها وقد اتخذت وضع الانقضاض ،تنتظر ولوج الجندي الذي رماها من فوق القرميد فأخطأها وقفز إلى ساحة الحوش ، وكانت تتوقع أن يندفع خلفها فتعيد معه العملية التي قامت بها في الباب الخارجي مع زميله.
هدر الرشاش المصوب على بابنا للحظات ثم سكت ، بينما واصل رشاش آخر هديره في الخارج لكن في اتجاه ثان، وعلا الصراخ ، وتوالى انفجار القنابل الكاشفة فزحزح الليل عن مكانه ؛ ودارت حرب انتقم الظلام فيها متحديا الجميع فابتلع في جوفه كثيرا من أسرارها .
تهاوت أمي نحو الأرض كنجم لم يعد قادر على الثبات في مساره وهي تحاول معالجة ألمها في صبر وصمت وكبرياء، وساح دمها فتلقته التربة العطشى.
نظرت إلى محاجر عينيها، وما أجمل عينيها كانتا رائعتين ، صافيتين ، حادتين ، متحديتين ، يظللهما حاجبان منهما استعارت الشمس هيئة حاجبها ، و منهما اختلست بعض سحرها إشعاعها، كانت تركزهما على الوحش الذي كان يدوس رجليها ليفتت ما بقي متماسكا من شظايا عظامها فتحرقه ، فيزداد هياجه ويروح يدوس بوحشية أكبر، يقفز إلى أعلى وينزل على رجليها وهو يشتم والرذاذ يتطاير من شدقيه المملوءتين بالزبد ، والألم يعصر أوداجه فكأن عظامه هي التي كانت تكسر تحت ثقل حذائه وليس عظامها ، كنت مركزا انظر في وجهها متوقعا أن تبكي ، أن تتوجع، أو تتأوه ، ورغم مرور وقت طويل منذ سقوطها لم تبك بعد ، كان وجهها الناري يزداد جمودا مع ميل مستمر ومتدرج إلى الصفرة،كان تحول وجه أمي يشبه تماما تحول الشمس في مسارها ؛ أحسست أن الشمس ألآن تنحدر نحو المغيب، ثم الغروب وخفت من أن يدهمنا الظلام ، وأن لا تعود الشمس إذا غابت هذه المرة ، ماذا سنفعل إذا قررت الشمس ألا تعود غدا، ماذا سنفعل لكي نمنع الشمس من المغيب وماذا سنفعل لندفع جحافل الظلام الرهيب في غياب الشمس. .
نظرت نحوي وهزت رأسها ، فأحسست أنها تعدني بالعودة ، ستعود، لأن أمي كانت إذا وعدت وفت ، سمعت أبي يقول ذلك ، وذلك ما كانت ترويه عنها جاراتها ، وقد وعدتني ، فهمت ذلك من عينيها قبل أن يغطيهما سحاب الألم الكثيف قبيل غروبهما ،لابد أن تعود وعلي أن أصارع الظلام وغيلان الظلام في غيابها ، لابد أن أنفذ ما تسلل من روحها إلى روحي ففهمته إلى أن تعود ،لابد أن أكون مثلها في وفائي بوعدي لكي تعود.
بجانبي كانت أختي الصغيرة "جوهرة" تنقل عينين مشتقتين من عيني أمها بيننا ، ولأنها لم تر أحدا منا يبكي لم تفهم ما يجري فلم تبك، كانت تسمع طرطقة عظام أمها تتهشم تحت حذاء العسكري ، ولكنني أعتقد أنها لم تكن على وعي بالمأساة ، كان وجهها بريئا ،مرعوبا، خائفا وجسدها متصلبا تحاول أن تحتمي بجسمي الصغير النحيل ولكنها لم تبك.
دخل عسكري ثان، تخطى أمي ، واتجه نحونا ؛ أنا وأختي ،وقال- للذي كان منهمكا في طحن عظام أمي التي كسرت فلم تعد تصدر طرطقات، - ولما تركت هذين "الفلاقين" الصغيرين المؤذيين .
صوب رشاشه نحونا ووضع إصبعه على الزناد يريد رشنا . وجدت أن ذلك أحسن وأجمل من أن يطحن عظامنا وتحن أحياء، على الأقل لكي لا تتألم أختي الصغيرة " جوهرة" ولكي نغيب ككوكبين صغيرين يتبعان أمهما، ويتخذ الموت بذلك أجمل مظاهره وأروعها ، وتمنيت لو تستقر الرصاصة الأولى في رأس أختي والثانية في رأسي لكي نموت جمعيا وبسرعة دون أن يبكي فينا أحد كما أوصت أمي وكما ماتت الأتان بالقرب منها عندما أصيبت في رأسها فتكورت وهوت دون حركة أو ألم.
و قبيل أن يضغط العسكري زناد رشاشه أندفع عسكري ثالث إلى داخل البيت وضرب الذي كان يدوس أمي بعقب رشاشه على صدره فألقاه أرضا وتجمد الذي كان ينوي رشنا وهو يتابع المشهد ثم التفت إليه وصرخ في وجهه هؤلاء هم المجاهدون الذين طلبتم المدد لمواجهتهم ، ورفع رجله حتى صارت ركبته في مستوى صدره وأرسله في شكل أفقي في صدر زميله فأسقطه وسط بركة الدم التي شكلها دم أمي الممزوج بدم الأتان . ثم صرخ فيهما هيا انهضا وانصرفا ، أخرجا باصقا عليهما، وانصرف في إثرهما دون أن يلتفت إلينا.
رفعت أختي بصرها نحوي، وأرادت أن تنهض ساعية نحو جثة أمها، لم أدر لم أفعل أنا مثلها بل منعتها بلطف واحتضنتها فاستكانت، ثم غطيتها وغطيت نفسي وبقينا صامتين. وكان صوت أحذية العسكر في الخارج يتكاثر حينا ويقل حينا، وكنت بين الحين والحين أتلمس رأس أختي الصغير وامرر يدي فوق وجهها ،لأتأكد أنها مازالت موجودة بجانبي .
غفت أختي ؛ فانسللت إلى حيث تمدد جسد أمي، وأمسكت بيديها . كانتا باردتين ، تمنيت لو أستطيع أن أشعل النار وأدفئهما، نسفت على أنامل يدها بفمي الصغير دون فائدة ، خفت أن تستيقظ أختي فتفتقدني إلى جانبها وتبكي فعدت مسرعا وانزلقت تحت الغطاء بلطف ،ووجدت أن أختي قد استيقظت وسألتني: أين ذهبت؟
قلت لها: طلبت مني أمي أن أغطيها فغطيتها ونامت.
قالت: لما لا تأتي لتنام بجانبنا.
قلت لها نامي وغدا صباحا اسأليها ، نامي واسكتي لكي لا يأتي إلينا العسكر.
فانكمشت أكثر، واندست في حضني وراح نفسها يتردد كنفس العصفور الصغير المرعوب، ولا أدري لما وجدت في ذلك عزاء لا يقدر.
أصبح الصبح، وكانت أمطار خفيفة قد بدأت تتساقط، و أحذية العسكر ما تنفك تدك الأرض في الخارج ولكن بكثافة أقل و كان حديثهم ما يزال يتردد ويتزايد، وأخيرا دفع الباب ،ودخل رجلان وامرأة وجوههم بيضاء ، وعيونهم لا تشبه عيون أمي ، فهي زرقاء بحواجب شقراء باهته ، يرتدون مآزر بيضاء، ولم أكن من قبل رأيت بشرا مثلهم ،في ملابس مثل ملابسهم.
لم يلتفتوا إلينا ؛ بل كان كل اهتمامهم منصبا على أمي أ أخرجوا مقصا ؛ وحبلا في طرفيه حديدتان ؛ وفي الوقت الذي كان أحدهما يقص بمقصه ثوب أمي على مستوى فخذها ، كان الآخر يضع الحديدة في طرف الحبل على صدرها الأيسر ويمسكها من زندها ويضع حديدة الطرف الآخر للحبل في أذنه تساعده المرأة.
نهضت وأختي لنتابع ما يجري لأمنا، فدفعتنا المرأة التي كانت تقص ثوب أمي بلطف بعيدا، ثم أخرجتنا خارج البيت
وفي الخارج تركتنا لمصيرنا وعادت مسرعة.
فاحتضنت أختي واحتمينا من المطر بمزاريب قرميد الحوش التي راحت تبكي أمي بغزارة ، كانت الأمطار تريد أن تغسل آثار الجريمة قبل عودة الشمس، و لكن هل تعود الشمس؟.وغزا داخلي خواء ، عدم يبعث على الغثيان ، تجمعت كل بقايا الظلام بقلبي الصغير، وكانت أشجار التين الشوكي والصبار ، تحدق فينا منتصبة واجمة وقد اقشعر شوكها فبدت أظلافها مشرئبة كآذان الشياطين تتخللها أشجار الزيتون التي تهدلت أشداقها فمالت إلى الأرض منتكسة، مطأطئة مكسورة الخاطر.
ومن المزاريب انتقلت ألي عدوى النحيب ، وراحت عيناي الصغيرتان تمدان الأمطار بالعون ، وانخرطت أنشج ، نظرت أختي نحوي ، و كنت أحاول أن أخفي عنها ما لم أعد قادرا على إخفائه ، وبدأت تبكي هي أيضا، وكان لابد لنا أن نبكي ، حتى وان كان ذلك مخالفا لوعدي لأمي ، فأنا أصغر من أن أكون في مستواها، اصغر وبكثير ؛ وسأبقى أصغر من ذلك إلى الأبد، إلى الأبد.
أُخرجت أمي من البيت في نعش،ووُضعت أمام باب الحوش، وقد وضُع أنبوب في فمها ، ولُف جثمانها بحبل فثبته في موضعه بإحكام.
كانت الأرض موحلة وبقع الدم ما تنفك تنتشر يحملها السيل من مكان إلى آخر ونحن مسمرين تحت الحائط الترابي وقد تحجرت حواسنا، فصرنا أبلهين يكتفيان بالنظر في ذهول وصمت، وجاءت نحونا المرأة ذات المئزر الأبيض ،أخذتنا إلى حيث مُددَ النعش ، وأشارت بإصبعها إلى وجه أمي ففهمت أنها تطلب منا النظر إليها ، ثم حمل النعش على بغل ، وتبعه الجميع ، وبقيت أنا و أختي "جوهرة " في مكاننا نبحلق في الفراغ ، فراغ رهيب، رهيب ، فراغ لن يملآ أبدا إلى أن تعود الشمس، وهل تعود؟ .
عبر الموكب شعبة الروم وشعاب أخري وغاب في ثنيات التوميات ،غاب الموكب تماما حيث كانت تشرق الشمس ، عادت الشمس اليوم إلى مخبئها فمن يردها عن قرارها ويبرزها للعالمين مرة أخرى؟ سنقضي بقية أيامنا بدون شمس آه ما أبخل ذلك العسكري الذي منع صاحبه من إفراغ رشاشه في جسدينا الطريين النحيلين ، ما أبخله وما أقساه.
كان الدم في كل مكان، وجثث المواشي مبعثرة في جميع الزوايا، ولم تستطع الأمطار التي ما انفكت تنهمر أن تمحو أثر الجريمة.
حاولت العودة بأختي إلى البيت ، ولكن وجود جثة الأتان التي اختط دمها بدم أمي مازالت ممدة في مكانها ، وأنا لا استطيع إخراجها ،فخطر ببالي أن أغطيها بغطاء ، وأتصورها نامت بعد أن شبعت لا أدري لماذا خطر لي ذلك ربما لأن بطنها بدأ ينتفخ وهو ما فعلته ، ثم ذهبت إلى أختي ، كانت تجلس فوق حجر صغير خارج البيت تمسك عودا ، وتحاول أن تعترض به ماء المزراب ، مسكتها من يدها الصغيرة وقدتها إلى داخل البيت .
دفعني الضيق وعدم قدرتي على استيعاب ما حدث إلى الخروج ، خرجت أتفقد المكان؛ لأنني لا أعرف إلى حد الساعة ما الذي جرى؟ ، ولماذا جرى؟ وأنا أطوف ببصري لاحت لي في زاوية عند الباب الخارجي حقيبة تجهيزات مرمية تحت السقيفة ، تطل منها خبزة سرت بخطى متثاقلة نحوها فأخرجتها ، وعدت إلى أختي ، وممدتها نحوها فاقتطعت منها قطعة وأخذت تأكل بنهم ، كانت جائعة ، جلست إلى جانبها وفعلت فعلها، طردنا ألم الجوع ، ثم لففت ما بقي منها في قطعة قماش ووضعتها في الطاق، وخرجنا نستطلع ما حول البيت وكان الجو يزداد ثقلا وقتامه كل لحطة.
رنوت ببصري نحو الجنوب وحولته مع الأفق نحو الشرق حيث غيبت أمي محمولة على نعشها، صار الشرق مغربا ، وعوت قطعان الذئاب وتنادت ، تنعى الشمس التي غابت في غير حينها وفي غير موضعها ، تراها ظلت الطريق؟؟، أم عادت إلى مخبئها تبحث عن خل أو صديق ؟؟، وتنسج من شعرها الذهبي شلالات تمدها حبلا للغريق.؟؟ تراها تفتح عينيها، تراها تفيق...؟؟؟؟.
وكان تراسل الذئاب مشحونا بالحزن والأسى، فزاد قتامه الجو قتامة و كآبة ، وامتد نشيجها في منعرجات الأودية والشعاب التي ارتفع هديرها لكثرة ما سح من مآقيها و شق طريقه إلى البحر يطلب الإياب،
استأنست بعواء الذئاب بل أحسست أنها أقرب المخلوقات إلي قلبي، وأكثرها رقة، فقد كانت المعزي الوحيد الذي تحدى الخوف والرعب وجاء يشاركنا المصاب ؛ كانت الوحيدة التي أدركت عمق المأساة وبازدياد عوائها وانتشار رقعته زال عني الخوف لأنها ومهما قيل عنها فهي ألطف من البرابرة الوحوش ؛ وأحسست انه حتى بعد غياب الشمس سيبقى إلى جانبنا أنا وأختي "جوهرة" بعض أصدقائنا ، بعض أهلنا .
عدت إلى البيت حيث كانت تجلس" جوهرة" مدثرة بغطائها ، أشعلت النار، وأضأت الفانوس ، فانكشفت أرجاء الغرفة ، كانت شظايا أواني مختلفة، ورصاص بأحجام متفاوتة مبعثرة متناثرة في كل كان ، وكانت الثقوب في الحائط الترابي كثيرة إلى حد جعلني أتصور أنه كان منذ زمن طويل ملعبا للفئران واليرابيع تتمرن فيه لتبرع في حفر جحورها.
ولعلي صرفت نظري وخيالي إلى ذلك ، وحثثت أختي على أن تفعل مثلي فقط كي لا ننظر حيث تجمعت الدماء وبدأت تتخثر فكونت جزرا متفاوتة الأحجام والأشكال.
كان عواء الذئاب ما ينفك يتكاثر ويدنو، وكنت أعرف أنها ستأتي وأنها ستحاول الدخول إلى ساحة البيت، لكثرة الفرائس المرمية في الساحة ولكنني كنت متيقنا أنها لن تستطيع الدخول.
وتفقدت أختي فوجدتها قد غاصت في نوم عميق ، وسرعان ما لحقت بها.
استفقنا في صبيحة اليوم الموالى على دق خفيف على الباب يصاحبه نداء فيه لطف: يا أهل الدار، يا أهل الدار هل في الدار أحد؟؟
تطلعت من شق الباب فرأيت زوج أختي، فتحت الباب، فاحتضنني وسألني أين أختك؟ و قبل أن أجيبه عرفته فاندفعت نحوه
و أحاطت رجليه بيديها الصغيرتين، فحملها ودفعني إلى الخارج أمامه ثم استدار نحو الباب فأغلقه وربطه بسلك ثم امسك بيدي وراح ينزل بنا المنحدر صوب بيته ، وعند وصولنا تلقتنا أختي بين حضنها وراحت تبكي فغرسنا رأسينا الصغيرين في صدرها ورحنا ننشج نشيجا مرا مؤلما.
مر عامان، والأخبار تقول أن أمي مازالت على قيد الحياة، وأنها تعالج في مستشفى بعيد يعز الوصول إليه على من كان في مثل حالنا، لم أكن اصدق ما يقال، والظلام الذي سكن أعماقي مازال مقيما لم يتزحزح.
مر عامان: وكل ليلة أتمنى لو أرى أمي ، حتى ولو كانت جثة مغمضة العينين ، استطيع أن أرى عينيها تشعان
ولو كانتا مغمضتين، كل ليلة كنت أتضرع إلى الله وإلى الأولياء والصالحين والأرواح الخيرة الطاهرة لتجلب لي صورة آمي في المنام، وعلى هذا الأمل أنام، وكانت كل ليلة تعير مهمة تحقيق الحلم إلى الليلة التي تليها.
مر عامان، وسمعنا منبه سيارة في الجهة الأخرى من الوادي المحاذي لسكن أختي، خرجنا نجري وشاهدت المرأة ذات المئزر الأبيض.
كانت بصحبة رجلين أشار أحدهما إلينا بمجرد خروجنا أن اقبلوا ، فسار نحوه زوج أختي وبقينا نحن مجتمعين ننظر ما سيحدث ، عند وصوله تقدم الثلاثة نحوه وصافحوه واحدا واحدا ، وبعد برهة أشار نحونا أن تعالوا لقد عادت أمنا جاءت أمنا ، لم ندر ما نفعل ،وأنزلت أمي من السيارة ، عرفت فيما بعد أنها تدعى سيارة الإسعاف لم أنتظر هذه المرة لأسحب أختي من يديها ، جريت نحو أمي و.لكنني في منتصف المسافة خفت أن تغضب فتضيع شيئا من جمال عينييها فعدت جريا إلى أختي وأمسكتها من يدها وجررتها بقوة ألمتها ولكنها كانت تضحك وصلنا إلى أمي ، وكان الناس قد سبقونا إليها وهم يسبحون ويهللون الله، الله يا أمنا ،حمدا على عودتك ، واندفعت النسوة يلثمن يديها ، ويقبلن خديها ، وبقيت أنا أطوف وأختي ملتصقة بيدي ورائي ، كنت المح من بين أرجل المحيطين بها جزءا من ثوبها ، جزءا من حذائها وأبحث عن منفذ إلى حضنها؛ لكن التصاق يدي بمعصم أختي أعاقني .
كانت جالسة في كرسي متحرك وعيناها تبحثان عنا وسط الجموع الذين انتبهوا أخيرا ، ففسحوا لنا الطريق و اندفعنا إليها بقوة ، حضنتنا، واجتمعت رؤوسنا الثلاثة طويلا حتى صرنا جسدا واحد، فأحسست أن حضن أمي قد محا كل ألام المأساة ، و انه أصبح عندي بعد عودتها عدد لا يحصى من الإخوة و الأخوات ، وأخرجت ذات المئزر الأبيض التي كانت تراقب المشهد في صمت ، وقد ترقرقت عيناها بالدموع ، أخرجت أكياسا فيها هدايا وحلوى ومأكولات ، وضعتها في حجر أمي وقبل أن تنصرف قالت : ما كنا نستطيع أن تأتي بها إلى هنا لولا الإعلان عن وقف إطلاق النار ، ومع ذلك لو كان هنا جسر يربط ضفتي الوادي لأمكننا أن نوصلها إلى البيت ، وسلمت على أمي وهي تقول لها سنعود إليك بعد أسبوع ، فتمتعي بعطلتك وإلى اللقاء.
عادت السيارة من حيث أتت، و حملت أمي في كرسييها على الأكتاف، وتوالى مجيء الجارات والجيران، لمشاركتنا فرحتنا وبتنا ليلتنا ونحن في قمة السعادة.
في صبيحة اليوم الموالي أشرقت الشمس، وكانت صافية الوجه، دافئة، هادئة قد عادت تماما إلى مسارها. فخرجنا
من بيت أختي لاستقبال يومنا وإذا الرجال يتقاطرون ويجتمعون حول الوادي في المكان الذي توقفت عنده سيارة الإسعاف يوم أمس وكل يحمل آلة بيده : فؤوس، ومجارف وحمالات لجلب الحجارة كانوا قد اجمعوا أمرهم وعزموا على إقامة الجسر قبل انتهاء الأسبوع ، ورفع شيخ كبير صوته :يا أبنائي عليكم إذا وفقتم في بناء هذا الجسر ألا تتوقفوا ، بل واصلوا مد الجسور بينكم ،واصلوا فأنتم أحوج ما تكونون إلي إعادة ربط الجسور المهدمة .
طلبت أمي زوج أختي فصعد من الوادي جاريا بعد أن أكمل الشيخ كلامه وسكت.
سألته أمي : هل تستطيع أن تحتال وتتدبر أي وسيلة توصلني بها إلى "قمة" التوميات ؟.
فهز رأسه وانطلق: سأعود إليك بعد لحظة وعاد وبيده حمالة ، وبمساعدة الجيران حقق لها طلبها ، وحمل كرسيها على الأكتاف تماما كما حملت هي ، وفي قمة الجبل المستوية وضع كرسي أمي المتحرك ، و بعد أن استوت في جلستها وعدلت هندامها طافت ببصرها كل الأفاق المحيطة ، ثم التفت حولها وطلبت من الجميع الابتعاد عنها واستبقتني أنا وأختي إلي جانبها ، جذبتنا نحوها وضمتنا إلى صدرها واجتمعت رؤوسنا الثلاثة وطوقتنا بذراعيها وانهمرت دموع أمي، مالحة، حارة غزيرة ، بكت أمي بحرقة، نشجت حتى كاد نشيجها أن يتحول إلى نواح ،ولم نصبر فرحنا نبكي لبكائها ، وأخيرا كفت عن البكاء ، وراحت تمسح أدمعنا بكفيها ، وتبسمت، ثم ضحكت، وشع جمال عينيها فأشرقت الشمس كما كانت تشرق قبل عامين،وراحت قطعان البقر والغنم تخور وتثغو بينما اكتفت الذئاب الممددة تحت ظلال السدر بالمتعة والاستماع لأن الذئاب لا تعوي بحضور الشمس وفي نورها.
وطرت مع أختي من حضن أمي ورحنا نضحك ، نقهقه ونطارد الفراشات على القمة.
نظرت إلى محاجر عينيها، وما أجمل عينيها كانتا رائعتين ، صافيتين ، حادتين ، متحديتين ، يظللهما حاجبان منهما استعارت الشمس هيئة حاجبها ، و منهما اختلست بعض سحرها إشعاعها، كانت تركزهما على الوحش الذي كان يدوس رجليها ليفتت ما بقي متماسكا من شظايا عظامها فتحرقه ، فيزداد هياجه ويروح يدوس بوحشية أكبر، يقفز إلى أعلى وينزل على رجليها وهو يشتم والرذاذ يتطاير من شدقيه المملوءتين بالزبد ، والألم يعصر أوداجه فكأن عظامه هي التي كانت تكسر تحت ثقل حذائه وليس عظامها ، كنت مركزا انظر في وجهها متوقعا أن تبكي ، أن تتوجع، أو تتأوه ، ورغم مرور وقت طويل منذ سقوطها لم تبك بعد ، كان وجهها الناري يزداد جمودا مع ميل مستمر ومتدرج إلى الصفرة،كان تحول وجه أمي يشبه تماما تحول الشمس في مسارها ؛ أحسست أن الشمس ألآن تنحدر نحو المغيب، ثم الغروب وخفت من أن يدهمنا الظلام ، وأن لا تعود الشمس إذا غابت هذه المرة ، ماذا سنفعل إذا قررت الشمس ألا تعود غدا، ماذا سنفعل لكي نمنع الشمس من المغيب وماذا سنفعل لندفع جحافل الظلام الرهيب في غياب الشمس. .
نظرت نحوي وهزت رأسها ، فأحسست أنها تعدني بالعودة ، ستعود، لأن أمي كانت إذا وعدت وفت ، سمعت أبي يقول ذلك ، وذلك ما كانت ترويه عنها جاراتها ، وقد وعدتني ، فهمت ذلك من عينيها قبل أن يغطيهما سحاب الألم الكثيف قبيل غروبهما ،لابد أن تعود وعلي أن أصارع الظلام وغيلان الظلام في غيابها ، لابد أن أنفذ ما تسلل من روحها إلى روحي ففهمته إلى أن تعود ،لابد أن أكون مثلها في وفائي بوعدي لكي تعود.
بجانبي كانت أختي الصغيرة "جوهرة" تنقل عينين مشتقتين من عيني أمها بيننا ، ولأنها لم تر أحدا منا يبكي لم تفهم ما يجري فلم تبك، كانت تسمع طرطقة عظام أمها تتهشم تحت حذاء العسكري ، ولكنني أعتقد أنها لم تكن على وعي بالمأساة ، كان وجهها بريئا ،مرعوبا، خائفا وجسدها متصلبا تحاول أن تحتمي بجسمي الصغير النحيل ولكنها لم تبك.
دخل عسكري ثان، تخطى أمي ، واتجه نحونا ؛ أنا وأختي ،وقال- للذي كان منهمكا في طحن عظام أمي التي كسرت فلم تعد تصدر طرطقات، - ولما تركت هذين "الفلاقين" الصغيرين المؤذيين .
صوب رشاشه نحونا ووضع إصبعه على الزناد يريد رشنا . وجدت أن ذلك أحسن وأجمل من أن يطحن عظامنا وتحن أحياء، على الأقل لكي لا تتألم أختي الصغيرة " جوهرة" ولكي نغيب ككوكبين صغيرين يتبعان أمهما، ويتخذ الموت بذلك أجمل مظاهره وأروعها ، وتمنيت لو تستقر الرصاصة الأولى في رأس أختي والثانية في رأسي لكي نموت جمعيا وبسرعة دون أن يبكي فينا أحد كما أوصت أمي وكما ماتت الأتان بالقرب منها عندما أصيبت في رأسها فتكورت وهوت دون حركة أو ألم.
و قبيل أن يضغط العسكري زناد رشاشه أندفع عسكري ثالث إلى داخل البيت وضرب الذي كان يدوس أمي بعقب رشاشه على صدره فألقاه أرضا وتجمد الذي كان ينوي رشنا وهو يتابع المشهد ثم التفت إليه وصرخ في وجهه هؤلاء هم المجاهدون الذين طلبتم المدد لمواجهتهم ، ورفع رجله حتى صارت ركبته في مستوى صدره وأرسله في شكل أفقي في صدر زميله فأسقطه وسط بركة الدم التي شكلها دم أمي الممزوج بدم الأتان . ثم صرخ فيهما هيا انهضا وانصرفا ، أخرجا باصقا عليهما، وانصرف في إثرهما دون أن يلتفت إلينا.
رفعت أختي بصرها نحوي، وأرادت أن تنهض ساعية نحو جثة أمها، لم أدر لم أفعل أنا مثلها بل منعتها بلطف واحتضنتها فاستكانت، ثم غطيتها وغطيت نفسي وبقينا صامتين. وكان صوت أحذية العسكر في الخارج يتكاثر حينا ويقل حينا، وكنت بين الحين والحين أتلمس رأس أختي الصغير وامرر يدي فوق وجهها ،لأتأكد أنها مازالت موجودة بجانبي .
غفت أختي ؛ فانسللت إلى حيث تمدد جسد أمي، وأمسكت بيديها . كانتا باردتين ، تمنيت لو أستطيع أن أشعل النار وأدفئهما، نسفت على أنامل يدها بفمي الصغير دون فائدة ، خفت أن تستيقظ أختي فتفتقدني إلى جانبها وتبكي فعدت مسرعا وانزلقت تحت الغطاء بلطف ،ووجدت أن أختي قد استيقظت وسألتني: أين ذهبت؟
قلت لها: طلبت مني أمي أن أغطيها فغطيتها ونامت.
قالت: لما لا تأتي لتنام بجانبنا.
قلت لها نامي وغدا صباحا اسأليها ، نامي واسكتي لكي لا يأتي إلينا العسكر.
فانكمشت أكثر، واندست في حضني وراح نفسها يتردد كنفس العصفور الصغير المرعوب، ولا أدري لما وجدت في ذلك عزاء لا يقدر.
أصبح الصبح، وكانت أمطار خفيفة قد بدأت تتساقط، و أحذية العسكر ما تنفك تدك الأرض في الخارج ولكن بكثافة أقل و كان حديثهم ما يزال يتردد ويتزايد، وأخيرا دفع الباب ،ودخل رجلان وامرأة وجوههم بيضاء ، وعيونهم لا تشبه عيون أمي ، فهي زرقاء بحواجب شقراء باهته ، يرتدون مآزر بيضاء، ولم أكن من قبل رأيت بشرا مثلهم ،في ملابس مثل ملابسهم.
لم يلتفتوا إلينا ؛ بل كان كل اهتمامهم منصبا على أمي أ أخرجوا مقصا ؛ وحبلا في طرفيه حديدتان ؛ وفي الوقت الذي كان أحدهما يقص بمقصه ثوب أمي على مستوى فخذها ، كان الآخر يضع الحديدة في طرف الحبل على صدرها الأيسر ويمسكها من زندها ويضع حديدة الطرف الآخر للحبل في أذنه تساعده المرأة.
نهضت وأختي لنتابع ما يجري لأمنا، فدفعتنا المرأة التي كانت تقص ثوب أمي بلطف بعيدا، ثم أخرجتنا خارج البيت
وفي الخارج تركتنا لمصيرنا وعادت مسرعة.
فاحتضنت أختي واحتمينا من المطر بمزاريب قرميد الحوش التي راحت تبكي أمي بغزارة ، كانت الأمطار تريد أن تغسل آثار الجريمة قبل عودة الشمس، و لكن هل تعود الشمس؟.وغزا داخلي خواء ، عدم يبعث على الغثيان ، تجمعت كل بقايا الظلام بقلبي الصغير، وكانت أشجار التين الشوكي والصبار ، تحدق فينا منتصبة واجمة وقد اقشعر شوكها فبدت أظلافها مشرئبة كآذان الشياطين تتخللها أشجار الزيتون التي تهدلت أشداقها فمالت إلى الأرض منتكسة، مطأطئة مكسورة الخاطر.
ومن المزاريب انتقلت ألي عدوى النحيب ، وراحت عيناي الصغيرتان تمدان الأمطار بالعون ، وانخرطت أنشج ، نظرت أختي نحوي ، و كنت أحاول أن أخفي عنها ما لم أعد قادرا على إخفائه ، وبدأت تبكي هي أيضا، وكان لابد لنا أن نبكي ، حتى وان كان ذلك مخالفا لوعدي لأمي ، فأنا أصغر من أن أكون في مستواها، اصغر وبكثير ؛ وسأبقى أصغر من ذلك إلى الأبد، إلى الأبد.
أُخرجت أمي من البيت في نعش،ووُضعت أمام باب الحوش، وقد وضُع أنبوب في فمها ، ولُف جثمانها بحبل فثبته في موضعه بإحكام.
كانت الأرض موحلة وبقع الدم ما تنفك تنتشر يحملها السيل من مكان إلى آخر ونحن مسمرين تحت الحائط الترابي وقد تحجرت حواسنا، فصرنا أبلهين يكتفيان بالنظر في ذهول وصمت، وجاءت نحونا المرأة ذات المئزر الأبيض ،أخذتنا إلى حيث مُددَ النعش ، وأشارت بإصبعها إلى وجه أمي ففهمت أنها تطلب منا النظر إليها ، ثم حمل النعش على بغل ، وتبعه الجميع ، وبقيت أنا و أختي "جوهرة " في مكاننا نبحلق في الفراغ ، فراغ رهيب، رهيب ، فراغ لن يملآ أبدا إلى أن تعود الشمس، وهل تعود؟ .
عبر الموكب شعبة الروم وشعاب أخري وغاب في ثنيات التوميات ،غاب الموكب تماما حيث كانت تشرق الشمس ، عادت الشمس اليوم إلى مخبئها فمن يردها عن قرارها ويبرزها للعالمين مرة أخرى؟ سنقضي بقية أيامنا بدون شمس آه ما أبخل ذلك العسكري الذي منع صاحبه من إفراغ رشاشه في جسدينا الطريين النحيلين ، ما أبخله وما أقساه.
كان الدم في كل مكان، وجثث المواشي مبعثرة في جميع الزوايا، ولم تستطع الأمطار التي ما انفكت تنهمر أن تمحو أثر الجريمة.
حاولت العودة بأختي إلى البيت ، ولكن وجود جثة الأتان التي اختط دمها بدم أمي مازالت ممدة في مكانها ، وأنا لا استطيع إخراجها ،فخطر ببالي أن أغطيها بغطاء ، وأتصورها نامت بعد أن شبعت لا أدري لماذا خطر لي ذلك ربما لأن بطنها بدأ ينتفخ وهو ما فعلته ، ثم ذهبت إلى أختي ، كانت تجلس فوق حجر صغير خارج البيت تمسك عودا ، وتحاول أن تعترض به ماء المزراب ، مسكتها من يدها الصغيرة وقدتها إلى داخل البيت .
دفعني الضيق وعدم قدرتي على استيعاب ما حدث إلى الخروج ، خرجت أتفقد المكان؛ لأنني لا أعرف إلى حد الساعة ما الذي جرى؟ ، ولماذا جرى؟ وأنا أطوف ببصري لاحت لي في زاوية عند الباب الخارجي حقيبة تجهيزات مرمية تحت السقيفة ، تطل منها خبزة سرت بخطى متثاقلة نحوها فأخرجتها ، وعدت إلى أختي ، وممدتها نحوها فاقتطعت منها قطعة وأخذت تأكل بنهم ، كانت جائعة ، جلست إلى جانبها وفعلت فعلها، طردنا ألم الجوع ، ثم لففت ما بقي منها في قطعة قماش ووضعتها في الطاق، وخرجنا نستطلع ما حول البيت وكان الجو يزداد ثقلا وقتامه كل لحطة.
رنوت ببصري نحو الجنوب وحولته مع الأفق نحو الشرق حيث غيبت أمي محمولة على نعشها، صار الشرق مغربا ، وعوت قطعان الذئاب وتنادت ، تنعى الشمس التي غابت في غير حينها وفي غير موضعها ، تراها ظلت الطريق؟؟، أم عادت إلى مخبئها تبحث عن خل أو صديق ؟؟، وتنسج من شعرها الذهبي شلالات تمدها حبلا للغريق.؟؟ تراها تفتح عينيها، تراها تفيق...؟؟؟؟.
وكان تراسل الذئاب مشحونا بالحزن والأسى، فزاد قتامه الجو قتامة و كآبة ، وامتد نشيجها في منعرجات الأودية والشعاب التي ارتفع هديرها لكثرة ما سح من مآقيها و شق طريقه إلى البحر يطلب الإياب،
استأنست بعواء الذئاب بل أحسست أنها أقرب المخلوقات إلي قلبي، وأكثرها رقة، فقد كانت المعزي الوحيد الذي تحدى الخوف والرعب وجاء يشاركنا المصاب ؛ كانت الوحيدة التي أدركت عمق المأساة وبازدياد عوائها وانتشار رقعته زال عني الخوف لأنها ومهما قيل عنها فهي ألطف من البرابرة الوحوش ؛ وأحسست انه حتى بعد غياب الشمس سيبقى إلى جانبنا أنا وأختي "جوهرة" بعض أصدقائنا ، بعض أهلنا .
عدت إلى البيت حيث كانت تجلس" جوهرة" مدثرة بغطائها ، أشعلت النار، وأضأت الفانوس ، فانكشفت أرجاء الغرفة ، كانت شظايا أواني مختلفة، ورصاص بأحجام متفاوتة مبعثرة متناثرة في كل كان ، وكانت الثقوب في الحائط الترابي كثيرة إلى حد جعلني أتصور أنه كان منذ زمن طويل ملعبا للفئران واليرابيع تتمرن فيه لتبرع في حفر جحورها.
ولعلي صرفت نظري وخيالي إلى ذلك ، وحثثت أختي على أن تفعل مثلي فقط كي لا ننظر حيث تجمعت الدماء وبدأت تتخثر فكونت جزرا متفاوتة الأحجام والأشكال.
كان عواء الذئاب ما ينفك يتكاثر ويدنو، وكنت أعرف أنها ستأتي وأنها ستحاول الدخول إلى ساحة البيت، لكثرة الفرائس المرمية في الساحة ولكنني كنت متيقنا أنها لن تستطيع الدخول.
وتفقدت أختي فوجدتها قد غاصت في نوم عميق ، وسرعان ما لحقت بها.
استفقنا في صبيحة اليوم الموالى على دق خفيف على الباب يصاحبه نداء فيه لطف: يا أهل الدار، يا أهل الدار هل في الدار أحد؟؟
تطلعت من شق الباب فرأيت زوج أختي، فتحت الباب، فاحتضنني وسألني أين أختك؟ و قبل أن أجيبه عرفته فاندفعت نحوه
و أحاطت رجليه بيديها الصغيرتين، فحملها ودفعني إلى الخارج أمامه ثم استدار نحو الباب فأغلقه وربطه بسلك ثم امسك بيدي وراح ينزل بنا المنحدر صوب بيته ، وعند وصولنا تلقتنا أختي بين حضنها وراحت تبكي فغرسنا رأسينا الصغيرين في صدرها ورحنا ننشج نشيجا مرا مؤلما.
مر عامان، والأخبار تقول أن أمي مازالت على قيد الحياة، وأنها تعالج في مستشفى بعيد يعز الوصول إليه على من كان في مثل حالنا، لم أكن اصدق ما يقال، والظلام الذي سكن أعماقي مازال مقيما لم يتزحزح.
مر عامان: وكل ليلة أتمنى لو أرى أمي ، حتى ولو كانت جثة مغمضة العينين ، استطيع أن أرى عينيها تشعان
ولو كانتا مغمضتين، كل ليلة كنت أتضرع إلى الله وإلى الأولياء والصالحين والأرواح الخيرة الطاهرة لتجلب لي صورة آمي في المنام، وعلى هذا الأمل أنام، وكانت كل ليلة تعير مهمة تحقيق الحلم إلى الليلة التي تليها.
مر عامان، وسمعنا منبه سيارة في الجهة الأخرى من الوادي المحاذي لسكن أختي، خرجنا نجري وشاهدت المرأة ذات المئزر الأبيض.
كانت بصحبة رجلين أشار أحدهما إلينا بمجرد خروجنا أن اقبلوا ، فسار نحوه زوج أختي وبقينا نحن مجتمعين ننظر ما سيحدث ، عند وصوله تقدم الثلاثة نحوه وصافحوه واحدا واحدا ، وبعد برهة أشار نحونا أن تعالوا لقد عادت أمنا جاءت أمنا ، لم ندر ما نفعل ،وأنزلت أمي من السيارة ، عرفت فيما بعد أنها تدعى سيارة الإسعاف لم أنتظر هذه المرة لأسحب أختي من يديها ، جريت نحو أمي و.لكنني في منتصف المسافة خفت أن تغضب فتضيع شيئا من جمال عينييها فعدت جريا إلى أختي وأمسكتها من يدها وجررتها بقوة ألمتها ولكنها كانت تضحك وصلنا إلى أمي ، وكان الناس قد سبقونا إليها وهم يسبحون ويهللون الله، الله يا أمنا ،حمدا على عودتك ، واندفعت النسوة يلثمن يديها ، ويقبلن خديها ، وبقيت أنا أطوف وأختي ملتصقة بيدي ورائي ، كنت المح من بين أرجل المحيطين بها جزءا من ثوبها ، جزءا من حذائها وأبحث عن منفذ إلى حضنها؛ لكن التصاق يدي بمعصم أختي أعاقني .
كانت جالسة في كرسي متحرك وعيناها تبحثان عنا وسط الجموع الذين انتبهوا أخيرا ، ففسحوا لنا الطريق و اندفعنا إليها بقوة ، حضنتنا، واجتمعت رؤوسنا الثلاثة طويلا حتى صرنا جسدا واحد، فأحسست أن حضن أمي قد محا كل ألام المأساة ، و انه أصبح عندي بعد عودتها عدد لا يحصى من الإخوة و الأخوات ، وأخرجت ذات المئزر الأبيض التي كانت تراقب المشهد في صمت ، وقد ترقرقت عيناها بالدموع ، أخرجت أكياسا فيها هدايا وحلوى ومأكولات ، وضعتها في حجر أمي وقبل أن تنصرف قالت : ما كنا نستطيع أن تأتي بها إلى هنا لولا الإعلان عن وقف إطلاق النار ، ومع ذلك لو كان هنا جسر يربط ضفتي الوادي لأمكننا أن نوصلها إلى البيت ، وسلمت على أمي وهي تقول لها سنعود إليك بعد أسبوع ، فتمتعي بعطلتك وإلى اللقاء.
عادت السيارة من حيث أتت، و حملت أمي في كرسييها على الأكتاف، وتوالى مجيء الجارات والجيران، لمشاركتنا فرحتنا وبتنا ليلتنا ونحن في قمة السعادة.
في صبيحة اليوم الموالي أشرقت الشمس، وكانت صافية الوجه، دافئة، هادئة قد عادت تماما إلى مسارها. فخرجنا
من بيت أختي لاستقبال يومنا وإذا الرجال يتقاطرون ويجتمعون حول الوادي في المكان الذي توقفت عنده سيارة الإسعاف يوم أمس وكل يحمل آلة بيده : فؤوس، ومجارف وحمالات لجلب الحجارة كانوا قد اجمعوا أمرهم وعزموا على إقامة الجسر قبل انتهاء الأسبوع ، ورفع شيخ كبير صوته :يا أبنائي عليكم إذا وفقتم في بناء هذا الجسر ألا تتوقفوا ، بل واصلوا مد الجسور بينكم ،واصلوا فأنتم أحوج ما تكونون إلي إعادة ربط الجسور المهدمة .
طلبت أمي زوج أختي فصعد من الوادي جاريا بعد أن أكمل الشيخ كلامه وسكت.
سألته أمي : هل تستطيع أن تحتال وتتدبر أي وسيلة توصلني بها إلى "قمة" التوميات ؟.
فهز رأسه وانطلق: سأعود إليك بعد لحظة وعاد وبيده حمالة ، وبمساعدة الجيران حقق لها طلبها ، وحمل كرسيها على الأكتاف تماما كما حملت هي ، وفي قمة الجبل المستوية وضع كرسي أمي المتحرك ، و بعد أن استوت في جلستها وعدلت هندامها طافت ببصرها كل الأفاق المحيطة ، ثم التفت حولها وطلبت من الجميع الابتعاد عنها واستبقتني أنا وأختي إلي جانبها ، جذبتنا نحوها وضمتنا إلى صدرها واجتمعت رؤوسنا الثلاثة وطوقتنا بذراعيها وانهمرت دموع أمي، مالحة، حارة غزيرة ، بكت أمي بحرقة، نشجت حتى كاد نشيجها أن يتحول إلى نواح ،ولم نصبر فرحنا نبكي لبكائها ، وأخيرا كفت عن البكاء ، وراحت تمسح أدمعنا بكفيها ، وتبسمت، ثم ضحكت، وشع جمال عينيها فأشرقت الشمس كما كانت تشرق قبل عامين،وراحت قطعان البقر والغنم تخور وتثغو بينما اكتفت الذئاب الممددة تحت ظلال السدر بالمتعة والاستماع لأن الذئاب لا تعوي بحضور الشمس وفي نورها.
وطرت مع أختي من حضن أمي ورحنا نضحك ، نقهقه ونطارد الفراشات على القمة.