جلس مطأطأ الرأس ، ذراعاه ممتدتان ، وأصابعه متشابكة حول ركبيته ، وجبهته ملتصقة من حين إلى حين بفخذيه . جسمه يرتعش ، كان قد دبت فيه حرارة غريبة ، أذناه كانتا تلتقطان الكلمات بانتباه وتركيز .
كان الحاج عبد الرحمن متوسط الثقافة ، كثيرا ما كان يشكو سوء فهم بعض العبارات وهو ينصت إلى خطبة من خطب الجمعة ، لكنه الآن ولأول مرة في حياته بدأ يحس أن للكلمات معنى وأن فيها حرارة ، لم يكن فقط يفهم الكلمات بقدر ما كان يحس بها ، يعيشها بكل كيانه ، بكل نبضه ، كانت تشع نورا ، تساءل مع نفسه ، أي أب يمكن أن أكون ؟ بل أي بشر ؟ كانت كلمات الإمام وهو يخطب في الجمعة ، تصل إلى شغاف قلبه ، تغزوها بلا أدنى مقاومة ، فتحدث نزيفا مؤلما ، رباه ، ما الذي أصنع ؟ كيف حدث كل هذا ؟ وأنا المعروف بحلمه ، المشهود له بالرزانة وسعة الصدر ، كيف يصدر هذا التصرف الأخرق من هذا الرجل العاقل الذي كان الناس يضربون به المثل في الحلم ؟ هذا الرجل الذي هو أنا سابقا والذي لا أعرفه حاليا . هذه التساؤلات كانت تذهب بعقله بعيدا يتأمل فعلته ، لكنه أحيانا يضطر إلى العودة إلى الواقع . فهو لا يريد أن يفوته الاستماع ، كان موضوع الخطبة ، حقوق الأطفال في الشريعة الإسلامية ، كثيرة هي الأحاديث النبوية التي أوردها الإمام وكثيرة هي العبارات . ومع هذا السهو الذي يأخذه قسرا إلى تلك الغرفة المظلمة التي يقبع فيها ابنه الصغير . أيستحق كل هذا العذاب عقابا له على غلطة بسيطة تافهة ؟ فربما قد يكون مخطئا ، وربما قد يكون مظلوما ؟ وربما ... وربما...
" أفشل الآباء من يستعملون العنف في التربية "العنف محرم ... العنف إجرام ...
لكنه كان يبرر فعلته في قرارة نفسه ، يقول :<< وأنا صغير نلت من الضرب ما لو ناله جمل هائج لارتدع ، نيتي لم تكن سيئة ، عسى الله أن يغفر لي >> فجأة أيقظه صوت الإمام وهو يصرخ : العنف شيء والضرب شيء آخر ، كان الصوت ينفذ في أذنه كأن المتكلم يقصده بالتوبيخ . أعادته الكلمات من جديد إلى عالمه النفسي ، أكان ما فعلته ضربا ؟ أم هو عنف ؟ أم هو إجرام ؟ طفل أشبع ضربا بكل قسوة وسب وشتم أمام إخوانه وأخواته ، بل في حضور بعض الضيوف الذين لم تسعف توسلاتهم في إنقاذه من براثن قسوة جهنمية ، ثم ألقي به في الحمام ليلا ، ليقضي فيه الليل كله إلى الصباح ، بل أكثر من ذلك إنه أقسم على زوجته إن هي فتحت الباب أن يكون مصيرها الطرد من البيت ، وهو الآن في المسجد يستمع إلى كلام رب العزة . لا شك ، ليس هو نفس الشخص الذي فعل كل تلك الأفعال . تخيل نفسه شخصا آخر ، بحث له عن صورة فلم يجد شيئا . السباع لا تفعل هذا بصغارها ، فأشد الحيوانات افتراسا وبطشا لا تفعل بأطفالها هذا الفعل .
تسللت دمعة من بين محاجره لتستقر على ركبته ، هذه العين التي ما دمعت منذ أن فقد أباه ، وذلك منذ أزيد من ثلاثين سنة ، ها هي ترق ، وتعرف معنى الرحمة ، تتابعت الكلمات في غزوها الجنوني لجوانب نفسه وقلبه وعقله تلين ما قسا بفعل الزمن ، فجأة استسلم للبكاء ، المصلون إلى جانبه سمعوا نحيبا ، مد أحدهم يده بحركة خفيفة إلى جيبه ، أخرج منديلا ، أعطاه إياه ، وانتظر حتى رفع رأسه ليتسلم منه قطعة الثوب ويحرك رأسه حركة عمودية أن شكرا لك . النحيب أحدث حالة من الخشوع في المصلين الذين كانوا بجانبه ، كلهم أحسوا برهبة غريبة ، فالموقف موقف ذكر ووعظ ولا أحد يعرف سبب بكائه . مسح الحاج عبد الرحمن على كل وجهه ، كان قد تصبب عرقا ، ورغم أن الجو كان معتدلا فإن حرارة الخشوع كانت تمد جسمه بدفء شديد . فقرر أن يسلك طريقا أخرى في التعامل مع الآخرين .
د .إبراهيم ياسين .
لكنه كان يبرر فعلته في قرارة نفسه ، يقول :<< وأنا صغير نلت من الضرب ما لو ناله جمل هائج لارتدع ، نيتي لم تكن سيئة ، عسى الله أن يغفر لي >> فجأة أيقظه صوت الإمام وهو يصرخ : العنف شيء والضرب شيء آخر ، كان الصوت ينفذ في أذنه كأن المتكلم يقصده بالتوبيخ . أعادته الكلمات من جديد إلى عالمه النفسي ، أكان ما فعلته ضربا ؟ أم هو عنف ؟ أم هو إجرام ؟ طفل أشبع ضربا بكل قسوة وسب وشتم أمام إخوانه وأخواته ، بل في حضور بعض الضيوف الذين لم تسعف توسلاتهم في إنقاذه من براثن قسوة جهنمية ، ثم ألقي به في الحمام ليلا ، ليقضي فيه الليل كله إلى الصباح ، بل أكثر من ذلك إنه أقسم على زوجته إن هي فتحت الباب أن يكون مصيرها الطرد من البيت ، وهو الآن في المسجد يستمع إلى كلام رب العزة . لا شك ، ليس هو نفس الشخص الذي فعل كل تلك الأفعال . تخيل نفسه شخصا آخر ، بحث له عن صورة فلم يجد شيئا . السباع لا تفعل هذا بصغارها ، فأشد الحيوانات افتراسا وبطشا لا تفعل بأطفالها هذا الفعل .
تسللت دمعة من بين محاجره لتستقر على ركبته ، هذه العين التي ما دمعت منذ أن فقد أباه ، وذلك منذ أزيد من ثلاثين سنة ، ها هي ترق ، وتعرف معنى الرحمة ، تتابعت الكلمات في غزوها الجنوني لجوانب نفسه وقلبه وعقله تلين ما قسا بفعل الزمن ، فجأة استسلم للبكاء ، المصلون إلى جانبه سمعوا نحيبا ، مد أحدهم يده بحركة خفيفة إلى جيبه ، أخرج منديلا ، أعطاه إياه ، وانتظر حتى رفع رأسه ليتسلم منه قطعة الثوب ويحرك رأسه حركة عمودية أن شكرا لك . النحيب أحدث حالة من الخشوع في المصلين الذين كانوا بجانبه ، كلهم أحسوا برهبة غريبة ، فالموقف موقف ذكر ووعظ ولا أحد يعرف سبب بكائه . مسح الحاج عبد الرحمن على كل وجهه ، كان قد تصبب عرقا ، ورغم أن الجو كان معتدلا فإن حرارة الخشوع كانت تمد جسمه بدفء شديد . فقرر أن يسلك طريقا أخرى في التعامل مع الآخرين .
د .إبراهيم ياسين .