وضاق الأمر بالقايد ، حاصره الإرهاق ، أرهقته طاعة عبيده وإخلاصهم ،تضخم إحساسه بذاته حتى فاض عن ذاته فكيف يفهم الناس أنه مثلهم لا يعلم الغيب ، ولا يستطيع المنح والمنع،وكيف يستطيع أن يفهمهم أنه نذل نجس،وانه خائن متواطئ بل هو النذالة والنجاسة والخيانة والشر ذاته مجسدا يسعى .
هل يعرف الناس "القايد باشاغا" أكثر مما يعرف هو نفسه؟ هل عندما يرى شرطته وزبانية التعذيب في حاشيته تجلد الرعية ، تجوعهم تعبث بكرامتهم ، بأعراضهم تكون رؤيته وهما ومحض خيال؟! فإذا صدق ذلك ترتب عليه أن إحساسه بأنه" باشاغا وهم أيضا و محض خيال و إذا كان الأمر كذلك فالأحسن إن يحمل إلى مستشفى المجانين. أرهقه الشك ولم يجد لدفعه سبيلا.
ولكن كيف يكون الأمر خيالا والعروش تهتز عندما يهتز وتسكن عندما يسكن ؟ و بوسعه أن يتأكد من ذلك في كل حين وقد تأكد منه آلاف المرات!؟
سأقف. وانتصب القايد باشغا واقفا ، فاضطرب كل ما حوله ، كل ما حوله تحفز وتهيأ واستعد ليكون السابق لأي إشارة ، أو رفة رمش؛ أو حركة من بنانه . واقفا رغم قصره مد في الأفاق بصره ، فتراءت له الجحافل الكادحة؛ كل يكدح فيما وضع له ؛ هؤلاء في خدمة الأرض قد صار نصفهم ترابا وطينا ونصفهم بشر ا،والقائمون على تأديبهم يلهبون ظهرهم بالسياط في تفان حتى التحم الجالد بالمجلود ؛ فلا يعرف من يد من ينطلق السوط وبظهر من يلتصق ، فهو موصول بينهما وكلاهما يصرخ هذا من الألم، وذاك ليبرهن على تفانيه في العمل ، وعلى هذا المنوال تجري سنة الله في مماليك القايد ، وبين هؤلاء تندفع المواكب مهللة مستبشرة تسوق قطعان الأغنام والبقر ، والبط و الإوز والدجاج.
ظهورهم محنية تحت سلال عامرات لا يعلم ما في بطونها إلا الله.
ويسأل القايد باشاغا نفسه هل بقي للشك في نفسي رمق ؟
ولكن ماذا حدث لهؤلاء؟ بقدر كلما أزداد اضطهادي لهم وتنكيلي بهم ازدادوا طاعة وخنوعا وخضوعا، لقد أصبحت أكرههم بل أحتقرهم ،أمقتهم فحجارة هذه الأرض وغثاءها، وفضلات البهائم فوقها أشرف منزلة من أكرمهم؟
أكرههم ، و أكره أصولهم و دينهم وعقائدهم ويؤلمني أن يسعد أحدهم ولو مرة في حياته ، ولو بلذة التنفس؟
وطاف ببصره فرأى الرواحل تأتي عامرات ، وتغادر خاويات يتبعها الفقراء الذين ازدادوا فقرا فرحين سعداء كل يبدي نوعا من الميل بمؤخرته نحو الجلادين طمعا في أن ينال ركلة أو رفسة من قدم أحدهم القذرة يتباهى بها أو بأثرها على خرقـته بين أهل عرشه عند عودته و يقفز بينهم فرحا ، لقد ضربني خادم القايد ولا شك أنه صار يعرفني ، نعم يعرفني ، ها هنا أثر رجله في مؤخرتي انظروا ، انظروا، ويرقص ؛ ويرقص ، ويشيع عنه أنه أحد الذين انتبه جلادو القايد إلى وجوده وأهدوه ركلات على مؤخرته ويزيدون ، داسوه في بطنه و... ويصير مشهورا.
كان يحز في نفس القايد أن هؤلاء الرهط يعتصرون السعادة من منابع الشقاء أكثر مما يستطيع هو، أنهم سعداء لأنهم أعطوه كل ما يملكون رغم أنه حرمهم الفوز بشرف النظر إلى وجهه –رغم بشاعه قبحه- وأباح ما ملكوا لعبيده وخدمه الخاص ورغم ذلك ينصرفون سعداء لأنهم أتموا مناسكهم.
يرفع بصره إلى السماء: يا الله لقد نفذ ما عندي من حقد على هذا العرش، ولم يعد خيالي قادرا على ابتداع طرق وأساليب أخرى في الإيذاء و التعذيب.
- أف أف ، يا الله لقد استنفذت طاقتي وجهدي وهذا حد الشر في نفسي ومنتهاه ، اللهم لا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك.
اللهم انك تعلم أنني لم أدعهم إلى ترك عبادتك والإخلاص في عبادتي ؛ ولا إلى الكف عن خشيتك إلى خشيتي،ولا إلى الإقلاع عن طاعتك و الانخراط في طاعتي.
اللهم إن كنت قد خلقتهم ليعبدوني فقد أرهقتني عبادتهم، وإن كنت قد خلقتهم لعبادتك فتولى أنت أمرهم.
ثم خطر له خاطر،فنهض غاضبا مشوه السحنة المسكونة بالبشاعة ، واضطرب محيطه كموج فاجأته عاصفة فبعثرت مساراته ،ثم ما لبث أن سكن وأعلن:-
- أيها ال.. أشيعوا في سكان العروش أنني لن استقبل أحدا ابتداء من اليوم، ومن كانت له شكوى فليتوجه بها إلى الله، أو إلى حاكم السلطان الفرنساوي وأنني إذا استفتيت من قبل هذا الأخير في شأن الشاكي منكم شهدت بما ينفعه دون مهاداة ولا جلد ، ويكفيني سعادة ألا أراكم ، وأشيعوا فيهم أن من خالف هذا الأمر سيلقى منا ما لقيه مخالفونا من قبل.
ومباشرة راحت ظاهرة الجزر تتجسد على اليابسة، وأخذت الأمواج البشرية تنحصر عن القصر، فصار محيطه أهدأ وأنظف، وألطف من ذي قبل ، وتلاشى الصياح والخوار والصهيل والصراخ ، وساق النسيم الروائح الكريهة بعيدا.
وأصبح للقايد الباشاغا أوقات فراغ يتأمل فيها شروق الشمس؛ وأحيانا غروبها ،فيجلس أحيانا إلى أبنائه يحدثهم عن فنون الحكم وتسيير شؤون العروش وطقوس عبادة المستعمر لنيل رضاه ورضوانه،وماذا يحب رجاله وماذا يكرهون ،و يعلمهم كيف يتمسحون في الوقت الذي يتهودون ، ومتى وأين وكيف ولما يسلمون . طقوس لا يعلمها إلا هو.
يعلمهم كيف عليهم أن يبيعوا التاريخ والوطن والمواطنين، للجيوش العبرة، ولجحافل المستعمرين ولكن في الوقت نفسه يوصيهم أن يشتروا أو يصادروا أراضي العروش وأن يسرحوا في أعراض من رضي منهم و أن يقطعوا دابر المعاندين فقط ، فقط لأنهم صوت نشاز في محيطهم يجرحون إيقاع النغم فيه.
ودار الحول ، وصار القصر بهدوئه يغوص في بحر الرتابة ،ولم تعد هناك صرخة مشنوق تنغص تشعر البشاغا بحقيقة منزلته ، ولا صوت سوط يحدث لثمه لجلد برئ طرطقة توحي بسلطان مهيمن في نواحيه ، ولم يعد هناك خوار ولا صهيل ولا صياح ، ولا طاسات للسمن البلدي والعسل والرحيق الملكي، لم يعد هناك لوز وجوز وجاريات.
لم تعد هناك عربات المعمرين مقبلة مدبرة ، تحمل العلوج المرط ، بقبعاتهم المائلة ، ورؤوسهم الخاوية . لم تعد الحركة كما كانت تؤكد للعامة أن لهذا القصر كلمة وأي كلمة في شؤون الحكم.
وفجأة صاح القايد ،ويلاه مضى عام مذ ضيعت مملكتي ، أي لحظة طيش تلك التي أصدرت فيها ذاك الأمر المشئوم؛ أي جرم ارتكبت في حق نفسي وحق أبنائي وأتباعي ، قصري يرمقني صار يمقتني ، قصري سيهجرني؟.
أنا لا شرف، ولا عرض و لا سمعة ، وقيمتي كل قيمتي في خيانتي وتواطئي وسوطي.
نهض القايد ونادى على خدمه فأقبلوا نحوه متراخين، رؤوسهم مطأطأة، قد تربع الملل على سحنات وجوههم وقد ضرب أوتاده لا يغادر، واجتمعت عليه عيون كسيرة ، كانت قبل تقدح شررا في بحثها عن فريسة ،وكانت تفوز بها مهما كان .
وقالوا بصوت واحد :لبيك سيدنا ، لبيك يا من أذلنا وأعزنا لبيك،لبيك نطمع أن يجد وضعنا حلا لديك،لبيك ترهلت عضلاتنا، وسكتت سياطنا ، وكدنا أن نموت غما بين يديك .
- قال : استحى أن أعلن رجوعي عن قراري، ولكن عليكم بمداخل المدينة ومنافذها وبأطراف العروش وجنباتها، اجلدوا كل من أراد الخروج أو الدخول منها أو إليها، أو الانتقال من دشرة لدشرة ، أجلدوا وقيدوا و لا تأخذكم بأي منهم رحمة أو شفقة ، وليكن هدفكم دفع الناس إلى العودة إلى عادتهم السابقة التي كنت قد منعتهم منها، وخاصة الشكوى والمهاداة، وانتم تعلمون أن المهاداة تحي للرحم عروقا و صلات. فلا تتوانوا ولا تقصروا في تمتين صلات أرحامنا مع محكومينا ورعيتنا ، ولينصرف كل لتنفيذ ما أمر به.
وتوزعت الذئاب مهرولة مكشرة جائعة، تجري نحو المداخل والمنافذ، والدروب والمعابر تتشمم روائح الفرائس وتتسمع حركات المارين والمارات لا يصدهم شيء.
وعاد الجلد يحرث الظهور، والرفس يدك البطون ويسوي المؤخرات،وصار الناس يتذكرون "القايد باشاغا" ، جدهم العطوف الحنون ، الذي يحفظ ماضيهم ، ويسهر على حاضرهم، ويؤسس لبناء مستقبلهم وبذلك فكل ما يأخذه منهم فهو لهم ، وأصبحت الوجوه مستبشرة قد داعبها الأمل وكأن شرايين الدم في أجساد أصحابها وعضلاتهم أحست بقرب موعد حصص التدليك والتمطيط والتنشيط فنشطت قبل الموعد ولابد إن هذا تمهيد لرفع المنع عن زيارة القصر والتبرك بالطواف به والتمسح بجدرانه.
وراحت الرعية تتفقد ما تجمع لديها من مال ، وما يصلح منه هدية للقايد عندما يعلن في الناس موعد الحج إلى قصره .
وبدأت حصص الجلد، تنطلق مع الفجر في المعابر، ولا تتوقف إلا إذا قرر النهار ذلك أو تعب الجلادون وانهارت قواهم، وصارت الطوابير تطول أكثر فأكثر يوما بعد يوم ؛ ونتج عن ذلك انعدام العدل في توزيع الضرب والتعذيب والتنكيل ،و نيل بركة السياط المطهرة ، فمن العبيد من كان يدخل إلى المدينة فيجلد مرتان: عند دخوله وأوان خروجه ، ومنهم من حرم لأيام حتى من رؤية وجه الجلاد وعضلاته المفتولة لأنه لم يتمكن من الوصول لينال نصيبه ؛ حقه المشروع ؛ المكفول له؛ كل ذلك بسبب طول الطابور وامتداده .
و بدأت مظاهر الاحتجاج والثورة على هذا الوضع تلوح هنا وهناك، متباعدة أحيانا في المكان والزمان كتفتح زهرات اللوز في سنة القحط ولكنها تتفتح في غفلة فتظهر وتلوح للرائي المتمعن من بعيد.
وكانت ما تنفك تزداد يوما بعد يوم،حتى قويت واشتدت وأعلنت عن نفسها جهارا دون خوف من القايد أو زبانيته وصرخ الناس منادين في مسيرات انطلقت من الدواوير والمداشر منادية بأصوات عالية وصلت إلى آذان القصر "نريد العدل والمساواة ونحن منذ القدم إخوة مسالمون" وانتشر الشعار بسرعة كانتشار النار في محطة بنزين،وجرى جنود القايد من السود والبيض إليه متضرعين.
- يا أبانا ، قد ألفناك منبع الحكمة والرأي السديد، والحزم الشديد، والباع المديد ولا تتردد وإذا قضيت في أمر لا تعيد فافتنا في أمر هؤلاء العبيد.
وقف القايد يجلله القبح الذي ألف العبيد الاستمتاع بالنظر إليه واستجلاب السعادة منه وقد زاده الخوف من تردد الشعار المشؤوم قبحا إلى قبحه ، فصار هو البشاعة عينها واقفة أمام عبيدها سادة العبيد.
وقد هداه دهاؤه وغلبة عنصر الشر على طبعه، إلى الاحتماء بالصمت رغم أنه كان مرعوبا من تواصل هتاف الهاتفين: نريد العدل والمساواة...
التفت القايد إلى سادة عبيده فجثوا خانعين ينتظرون الأمر الخطير وقال: اذهبوا إليهم وسالوهم عن أي عدل يتحدثون ؟ لأن العدل غير المساواة ، وتحقق المطلب الأول قد يكفي ، وتجاوزه إلى الثاني ممكن ، وقد لا نكون قادرين على إجابة طلبهم لا في هذا ولا في ذاك إلا بعد الإذن من السلطان الفرنساوي المعظم، نفعنا الله ببركة حلمه وفضل علمه.
وذهب كبار العبيد إلى صغارهم وأشاروا ملوحين بسياطهم أن اصمتوا و اسكنوا فهلل الجمع تهليلة رددتها الأودية والشعاب والوهاد المجاورة: عدلك أيها الجليل المبجل ، عدلك أيها الجليل المبجل؛وألقى صمت المقابر رداءه على الأماكن ، وانبرى كبير العبيد مرسلا الخبر :
- لقد تكرم سيدي وتفضل زاد فضله بمنحكم فرصة تقديم شكواكم،فأجمعوا أمركم بيد بليغكم ، وليحدد ويوجز ثم يعلن.
تراجع المد إلى الخلف قليلا ، وتواصلت عرى الحوار والتشاور ،فاتضح الحال لأهل الحكم والروية والمعرفة بتدبير الأمور العويصة ، ودفع المظالم المهلكة، والأخذ بمبدإ الأخذ بأخف الضررين ووضع الاتفاق بين يدي لسان المداشر والعروش .
تقدم لسان المحتجين الثائرين المتمردين ، بعد أن استجمع قواه وتسلح بدعوات الحاضرين والحاضرات وبركات الأحياء منهم والأموات ليعلن للقايد الغاية التي تحلم الرعية بها.
- يا سيدنا عفوكم إن حرمني من مدحكم مقام الإيجاز ، وعجزي في مجال الإعجاز ؛ فاكتفيت بالإنجاز في حدود ما حملت قوله:
يا سيدنا :عبيدكم يلتمسون من سامي شخصكم زيادة عدد الجلادين لكي تأخذ كل رعية نصيبها من الجلد أو التعذيب أو التنكيل حسب ما تستحق حين الاستحقاق ، ونقضي بذلك على تفشي ظاهرة الطوابير التى طالت جميع النواحي فأفسدت الحقول بما فيها، فاجتمع علينا بسببها الحرمان من مهاداتك لأنك حرمتها ،وتعب الطوابير ومشقة الانتظار فيها ، وفساد المحاصيل المداسة ، ودمتم سيدنا لرعيتكم.
الضيف حمراوي
ويسأل القايد باشاغا نفسه هل بقي للشك في نفسي رمق ؟
ولكن ماذا حدث لهؤلاء؟ بقدر كلما أزداد اضطهادي لهم وتنكيلي بهم ازدادوا طاعة وخنوعا وخضوعا، لقد أصبحت أكرههم بل أحتقرهم ،أمقتهم فحجارة هذه الأرض وغثاءها، وفضلات البهائم فوقها أشرف منزلة من أكرمهم؟
أكرههم ، و أكره أصولهم و دينهم وعقائدهم ويؤلمني أن يسعد أحدهم ولو مرة في حياته ، ولو بلذة التنفس؟
وطاف ببصره فرأى الرواحل تأتي عامرات ، وتغادر خاويات يتبعها الفقراء الذين ازدادوا فقرا فرحين سعداء كل يبدي نوعا من الميل بمؤخرته نحو الجلادين طمعا في أن ينال ركلة أو رفسة من قدم أحدهم القذرة يتباهى بها أو بأثرها على خرقـته بين أهل عرشه عند عودته و يقفز بينهم فرحا ، لقد ضربني خادم القايد ولا شك أنه صار يعرفني ، نعم يعرفني ، ها هنا أثر رجله في مؤخرتي انظروا ، انظروا، ويرقص ؛ ويرقص ، ويشيع عنه أنه أحد الذين انتبه جلادو القايد إلى وجوده وأهدوه ركلات على مؤخرته ويزيدون ، داسوه في بطنه و... ويصير مشهورا.
كان يحز في نفس القايد أن هؤلاء الرهط يعتصرون السعادة من منابع الشقاء أكثر مما يستطيع هو، أنهم سعداء لأنهم أعطوه كل ما يملكون رغم أنه حرمهم الفوز بشرف النظر إلى وجهه –رغم بشاعه قبحه- وأباح ما ملكوا لعبيده وخدمه الخاص ورغم ذلك ينصرفون سعداء لأنهم أتموا مناسكهم.
يرفع بصره إلى السماء: يا الله لقد نفذ ما عندي من حقد على هذا العرش، ولم يعد خيالي قادرا على ابتداع طرق وأساليب أخرى في الإيذاء و التعذيب.
- أف أف ، يا الله لقد استنفذت طاقتي وجهدي وهذا حد الشر في نفسي ومنتهاه ، اللهم لا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك.
اللهم انك تعلم أنني لم أدعهم إلى ترك عبادتك والإخلاص في عبادتي ؛ ولا إلى الكف عن خشيتك إلى خشيتي،ولا إلى الإقلاع عن طاعتك و الانخراط في طاعتي.
اللهم إن كنت قد خلقتهم ليعبدوني فقد أرهقتني عبادتهم، وإن كنت قد خلقتهم لعبادتك فتولى أنت أمرهم.
ثم خطر له خاطر،فنهض غاضبا مشوه السحنة المسكونة بالبشاعة ، واضطرب محيطه كموج فاجأته عاصفة فبعثرت مساراته ،ثم ما لبث أن سكن وأعلن:-
- أيها ال.. أشيعوا في سكان العروش أنني لن استقبل أحدا ابتداء من اليوم، ومن كانت له شكوى فليتوجه بها إلى الله، أو إلى حاكم السلطان الفرنساوي وأنني إذا استفتيت من قبل هذا الأخير في شأن الشاكي منكم شهدت بما ينفعه دون مهاداة ولا جلد ، ويكفيني سعادة ألا أراكم ، وأشيعوا فيهم أن من خالف هذا الأمر سيلقى منا ما لقيه مخالفونا من قبل.
ومباشرة راحت ظاهرة الجزر تتجسد على اليابسة، وأخذت الأمواج البشرية تنحصر عن القصر، فصار محيطه أهدأ وأنظف، وألطف من ذي قبل ، وتلاشى الصياح والخوار والصهيل والصراخ ، وساق النسيم الروائح الكريهة بعيدا.
وأصبح للقايد الباشاغا أوقات فراغ يتأمل فيها شروق الشمس؛ وأحيانا غروبها ،فيجلس أحيانا إلى أبنائه يحدثهم عن فنون الحكم وتسيير شؤون العروش وطقوس عبادة المستعمر لنيل رضاه ورضوانه،وماذا يحب رجاله وماذا يكرهون ،و يعلمهم كيف يتمسحون في الوقت الذي يتهودون ، ومتى وأين وكيف ولما يسلمون . طقوس لا يعلمها إلا هو.
يعلمهم كيف عليهم أن يبيعوا التاريخ والوطن والمواطنين، للجيوش العبرة، ولجحافل المستعمرين ولكن في الوقت نفسه يوصيهم أن يشتروا أو يصادروا أراضي العروش وأن يسرحوا في أعراض من رضي منهم و أن يقطعوا دابر المعاندين فقط ، فقط لأنهم صوت نشاز في محيطهم يجرحون إيقاع النغم فيه.
ودار الحول ، وصار القصر بهدوئه يغوص في بحر الرتابة ،ولم تعد هناك صرخة مشنوق تنغص تشعر البشاغا بحقيقة منزلته ، ولا صوت سوط يحدث لثمه لجلد برئ طرطقة توحي بسلطان مهيمن في نواحيه ، ولم يعد هناك خوار ولا صهيل ولا صياح ، ولا طاسات للسمن البلدي والعسل والرحيق الملكي، لم يعد هناك لوز وجوز وجاريات.
لم تعد هناك عربات المعمرين مقبلة مدبرة ، تحمل العلوج المرط ، بقبعاتهم المائلة ، ورؤوسهم الخاوية . لم تعد الحركة كما كانت تؤكد للعامة أن لهذا القصر كلمة وأي كلمة في شؤون الحكم.
وفجأة صاح القايد ،ويلاه مضى عام مذ ضيعت مملكتي ، أي لحظة طيش تلك التي أصدرت فيها ذاك الأمر المشئوم؛ أي جرم ارتكبت في حق نفسي وحق أبنائي وأتباعي ، قصري يرمقني صار يمقتني ، قصري سيهجرني؟.
أنا لا شرف، ولا عرض و لا سمعة ، وقيمتي كل قيمتي في خيانتي وتواطئي وسوطي.
نهض القايد ونادى على خدمه فأقبلوا نحوه متراخين، رؤوسهم مطأطأة، قد تربع الملل على سحنات وجوههم وقد ضرب أوتاده لا يغادر، واجتمعت عليه عيون كسيرة ، كانت قبل تقدح شررا في بحثها عن فريسة ،وكانت تفوز بها مهما كان .
وقالوا بصوت واحد :لبيك سيدنا ، لبيك يا من أذلنا وأعزنا لبيك،لبيك نطمع أن يجد وضعنا حلا لديك،لبيك ترهلت عضلاتنا، وسكتت سياطنا ، وكدنا أن نموت غما بين يديك .
- قال : استحى أن أعلن رجوعي عن قراري، ولكن عليكم بمداخل المدينة ومنافذها وبأطراف العروش وجنباتها، اجلدوا كل من أراد الخروج أو الدخول منها أو إليها، أو الانتقال من دشرة لدشرة ، أجلدوا وقيدوا و لا تأخذكم بأي منهم رحمة أو شفقة ، وليكن هدفكم دفع الناس إلى العودة إلى عادتهم السابقة التي كنت قد منعتهم منها، وخاصة الشكوى والمهاداة، وانتم تعلمون أن المهاداة تحي للرحم عروقا و صلات. فلا تتوانوا ولا تقصروا في تمتين صلات أرحامنا مع محكومينا ورعيتنا ، ولينصرف كل لتنفيذ ما أمر به.
وتوزعت الذئاب مهرولة مكشرة جائعة، تجري نحو المداخل والمنافذ، والدروب والمعابر تتشمم روائح الفرائس وتتسمع حركات المارين والمارات لا يصدهم شيء.
وعاد الجلد يحرث الظهور، والرفس يدك البطون ويسوي المؤخرات،وصار الناس يتذكرون "القايد باشاغا" ، جدهم العطوف الحنون ، الذي يحفظ ماضيهم ، ويسهر على حاضرهم، ويؤسس لبناء مستقبلهم وبذلك فكل ما يأخذه منهم فهو لهم ، وأصبحت الوجوه مستبشرة قد داعبها الأمل وكأن شرايين الدم في أجساد أصحابها وعضلاتهم أحست بقرب موعد حصص التدليك والتمطيط والتنشيط فنشطت قبل الموعد ولابد إن هذا تمهيد لرفع المنع عن زيارة القصر والتبرك بالطواف به والتمسح بجدرانه.
وراحت الرعية تتفقد ما تجمع لديها من مال ، وما يصلح منه هدية للقايد عندما يعلن في الناس موعد الحج إلى قصره .
وبدأت حصص الجلد، تنطلق مع الفجر في المعابر، ولا تتوقف إلا إذا قرر النهار ذلك أو تعب الجلادون وانهارت قواهم، وصارت الطوابير تطول أكثر فأكثر يوما بعد يوم ؛ ونتج عن ذلك انعدام العدل في توزيع الضرب والتعذيب والتنكيل ،و نيل بركة السياط المطهرة ، فمن العبيد من كان يدخل إلى المدينة فيجلد مرتان: عند دخوله وأوان خروجه ، ومنهم من حرم لأيام حتى من رؤية وجه الجلاد وعضلاته المفتولة لأنه لم يتمكن من الوصول لينال نصيبه ؛ حقه المشروع ؛ المكفول له؛ كل ذلك بسبب طول الطابور وامتداده .
و بدأت مظاهر الاحتجاج والثورة على هذا الوضع تلوح هنا وهناك، متباعدة أحيانا في المكان والزمان كتفتح زهرات اللوز في سنة القحط ولكنها تتفتح في غفلة فتظهر وتلوح للرائي المتمعن من بعيد.
وكانت ما تنفك تزداد يوما بعد يوم،حتى قويت واشتدت وأعلنت عن نفسها جهارا دون خوف من القايد أو زبانيته وصرخ الناس منادين في مسيرات انطلقت من الدواوير والمداشر منادية بأصوات عالية وصلت إلى آذان القصر "نريد العدل والمساواة ونحن منذ القدم إخوة مسالمون" وانتشر الشعار بسرعة كانتشار النار في محطة بنزين،وجرى جنود القايد من السود والبيض إليه متضرعين.
- يا أبانا ، قد ألفناك منبع الحكمة والرأي السديد، والحزم الشديد، والباع المديد ولا تتردد وإذا قضيت في أمر لا تعيد فافتنا في أمر هؤلاء العبيد.
وقف القايد يجلله القبح الذي ألف العبيد الاستمتاع بالنظر إليه واستجلاب السعادة منه وقد زاده الخوف من تردد الشعار المشؤوم قبحا إلى قبحه ، فصار هو البشاعة عينها واقفة أمام عبيدها سادة العبيد.
وقد هداه دهاؤه وغلبة عنصر الشر على طبعه، إلى الاحتماء بالصمت رغم أنه كان مرعوبا من تواصل هتاف الهاتفين: نريد العدل والمساواة...
التفت القايد إلى سادة عبيده فجثوا خانعين ينتظرون الأمر الخطير وقال: اذهبوا إليهم وسالوهم عن أي عدل يتحدثون ؟ لأن العدل غير المساواة ، وتحقق المطلب الأول قد يكفي ، وتجاوزه إلى الثاني ممكن ، وقد لا نكون قادرين على إجابة طلبهم لا في هذا ولا في ذاك إلا بعد الإذن من السلطان الفرنساوي المعظم، نفعنا الله ببركة حلمه وفضل علمه.
وذهب كبار العبيد إلى صغارهم وأشاروا ملوحين بسياطهم أن اصمتوا و اسكنوا فهلل الجمع تهليلة رددتها الأودية والشعاب والوهاد المجاورة: عدلك أيها الجليل المبجل ، عدلك أيها الجليل المبجل؛وألقى صمت المقابر رداءه على الأماكن ، وانبرى كبير العبيد مرسلا الخبر :
- لقد تكرم سيدي وتفضل زاد فضله بمنحكم فرصة تقديم شكواكم،فأجمعوا أمركم بيد بليغكم ، وليحدد ويوجز ثم يعلن.
تراجع المد إلى الخلف قليلا ، وتواصلت عرى الحوار والتشاور ،فاتضح الحال لأهل الحكم والروية والمعرفة بتدبير الأمور العويصة ، ودفع المظالم المهلكة، والأخذ بمبدإ الأخذ بأخف الضررين ووضع الاتفاق بين يدي لسان المداشر والعروش .
تقدم لسان المحتجين الثائرين المتمردين ، بعد أن استجمع قواه وتسلح بدعوات الحاضرين والحاضرات وبركات الأحياء منهم والأموات ليعلن للقايد الغاية التي تحلم الرعية بها.
- يا سيدنا عفوكم إن حرمني من مدحكم مقام الإيجاز ، وعجزي في مجال الإعجاز ؛ فاكتفيت بالإنجاز في حدود ما حملت قوله:
يا سيدنا :عبيدكم يلتمسون من سامي شخصكم زيادة عدد الجلادين لكي تأخذ كل رعية نصيبها من الجلد أو التعذيب أو التنكيل حسب ما تستحق حين الاستحقاق ، ونقضي بذلك على تفشي ظاهرة الطوابير التى طالت جميع النواحي فأفسدت الحقول بما فيها، فاجتمع علينا بسببها الحرمان من مهاداتك لأنك حرمتها ،وتعب الطوابير ومشقة الانتظار فيها ، وفساد المحاصيل المداسة ، ودمتم سيدنا لرعيتكم.
الضيف حمراوي