بعد شتاء قارس البرد سقطت فيه ثلوج كثيفة غطت الجبال والوديان والسهول والهضاب بلباس أبيض ناصع البياض قدم صباح نهار يوم ربيعي جميل . أشرفت الشمس في هذا اليوم على غابة سبل من فوق الجبال الشامخة العالية ، وأرسلت أشعتها الذهبية البراقة لتزيل البرد وبقايا الثلوج ، وتنشر الدفء في أحشاء كل حي يعيش في هذه الغابة الجميلة من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى . ونهضت هذه المخلوقات لتقابل هذا النهار الجميل ، وتستمتع بكل بهجة وسرور بنعم الله الكثيرة ما شاء الله لها أن تستمتع بذلك .
خرجت الصديقات الأربع من بيوتهن منذ الصباح الباكر كعادتهن التي مارسنها منذ عهد بعيد . وما خرجن إذ خرجن إلا ليجمعن ثمارا وفيرة في هذه الغابة التي سكنّاها منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويلتهين ما يلتهين بالتجوال واللعب ، ويمرحن ما يمرحن بالرقص والغناء ، ويثرثرن ما يثرثرن وهن يعملن معا ما شاء الله لهن بذلك . وما أن مشين مسافة قصيرة إلا ولفت أنظارهن شيء جديد حصل على مقربة من بيوتهن . لقد استجدّ مرتفع غريب غير متناسق الأطراف ، طال بما يسد أنظارهن من رؤية أطراف الغابة المتناثرة . فوقفن مندهشات مستغربات من أول وهلة ثم خائفات وجلات بعد ذلك ، فمدققات متسائلات بعضهن البعض بنظراتهن الغريبة المومئة : ما هذا الشيء الغريب الذي نراه الساعة والذي لا عهد لنا به ؟ وفي تلك اللحظة كان كل شيء ساكنا خامدا هامدا إلا من نسيم عليل يداعب أوراق الأشجار الغضة الخضرة ولا يكاد يحركها قيد أنملة .
همست الأولى في أذن صاحبتها : يبدو أن حدثا كبيرا حصل ونحن نائمات حالمات في مضاجعنا الليلة الماضية ، يا له من غفلة كبيرة ! كيف يحصل أمر كهذا ونحن لا نسمع له صوتا ، ولا ندري عنه شيئا قط ؟
قالت الثانية : ألا يمكن أن يكون زلزالا مرعبا ضرب الأرض ، ودمر الحرث ، ورفع النجد ونحن غافيات نائمات ؟ أما أنا فقد كتبت فعلا تعبة جدا الليلة الماضية ، ونمت نوما غير متقطع طيلة الليل وحتى الصباح .
أجابت الثالثة : كلا ، وألف كلا ، أي زلزال تتحدثن عنه ؟ رغم أني لا أجد ما يعينني على إثبات ذلك فهذا على ما يبدو لي كائن ضخم جدا أتى إلى ديارنا ، ورقد هنا تحت هذه الشجرة . كما أني أشك أن كائنا ما كان وبهذه الضخامة يستطيع أن يتحرك بسهولة تامة كما نفعله نحن ، وهذا الكائن كما يظهر الآن لا حراك فيه البتة كما نتحرك نحن بكل حرية وسهولة . ولكني لا أستطيع أن أجزم رأيي لأنه لم يسبق لنا أن صادفنا كائنا ما كان بمثل هذه الضخامة .
وقالت الرابعة : هلا صعدنا عليه نكتشف عن كنه هذا الشيء الغريب ، عسانا نجد في الأعالي هناك ما ينفعنا من ثمار طازجة ، وفواكه طرية ناعمة ؟
فقالت الأولى : أوليس الأفضل أن نعود إلى القرية ، ونخبر الجمع ، ونستشير في الأمر ، ونأخذ الرأي علّهم يعرفون الحقيقة ؟ فهناك الكبار في السن والخبراء بأمر الغابة فقد يدلّونا على ما يجنبنا شرّ أمر مستطير ، فالحذر يا صاحباتي يغلب القدر كما يقال .
قالت الثالثة : إن الصعود على هذا المرتفع من دون جمع لبيانات كافية واتخاذ الاحتياطات اللازمة مغامرة قد لا يحمد عقباها . وقد تكلفنا المغامرة هذه حياتنا ، وليست حياتنا رخيصة في صرفها في أمر كهذا .
أجابت الأولى : وكيف لنا أن نكتشف ما على الأعالي بدون أية مغامرة ؟ ألم تسمعا المثل القائل : "ما فاز باللذات إلا من كان جسورا . "
قالت الثانية : هيا نصعد على الشجرة ، ونلقي النظر من الأعالي علّنا نرى أمرا ينفعنا .
فلم يصغين بما قالت لأن في ذلك مشقة أخرى من ناحية وخوف وجبن وهروب من أمر واقع من ناحية ثانية . وناقشت الصديقات الأربع ما ناقشن هذا الأمر كثيرا ، وطال النقاش ، وأجمعت الثلاث أمرهن أخيرا على أن يتسلقن هذا الذي يشبه الجبال والهضاب والوديان في نظرهن في الظاهر . وهكذا يكون الشبان والشابات ذوي طاقة زائدة جريئين مندفعين مغامرين لا يبالون بالخطر أو حتى الموت أحيانا .
اعترضت الثالثة : فأنا لست معكم في هذه المرة ، فإني لا أريد أن أجازف بحياتي . سأنتظر هنا عودتكن مهما طال الوقت ، وأنصحكن ألا تطلن هذه الزيارة .
شرعت الصديقات الثلاث بالتسلق مرة وبالتزحلق مرة أخرى . ووجدن في ذلك مجالا للتسلية والمتعة . فصاحت الأولى فيهن مذكرة بكلام صديقاتهن طالبة اجراء سباق للصعود إلى الأعالي . فتسابقن في مسعاهن سباقا لم ينته كالعادة بالتصايح والتنافس ، بل بتشجيع كل واحدة منهن صديقاتها ، وحثها على تحقيق الهدف المطلوب مع خوف كامن في داخلهن لارتياد مكان غريب لا عهد لهن به . ومضت فترة ساعة أو أقل صرفت فيها الصديقات الثلاث جهدا جهيدا حتى وصلن إلى مبغاهن ولكن كل واحدة منهن من زاوية خاصة متباينة .
وما أن وصلن إلى الأعالي حتى تنفست الصديقات الثلاث الصعداء ، وقررن على غير العادة أنه لا غالب ولا مغلوب في سباق اليوم . ألقين من الأعالي نظرة إلى الغابة وما جاورها نظرة شبيهة بنظرة الطيور متفحصات جمال الطبيعة الخلابة ، وهكذا فعل الانسان دائما وابدا ، فدقق في الكواكب والنجوم قبل أن يدقق في الأرض ، ودقق في الكائنات الأخرى قبل أن يدقق في نفسه . لقد كان كل شيء في منتهى الروعة والجمال : الأشجار ، والجبال ، والوديان ، والطيور ، والماء الجاري ، والقرية البعيدة . وهكذا يفعل متسلقو الجبال ، يصرفون ساعات طويلة من أجل التسلق ، فيغامرون بحياتهم ، ويتعرضون للخطر من أجل الاستمتاع بلحظات عديدة من الفوز والانتصار . يا لها من لحظات بديعة لا تقدر بثمن.
وارتحن هنيهات ، فاستلقين على ظهورهن يستمتعن بأشعة الشمس ، ويراقبن السماء الزرقاء الصافية في غابة خضرة على مختلف درجات الخضرة ، إلا من بقايا غيوم مندوفة قليلة في أرجاء فسيحة . ويتنفسن الهواء المنعش اللطيف تنفسا عميقا . وساد سكون لم يستغرق طويلا حتى دبّ النشاط والحيوية فيهن مرة أخرى ، فتحركت كل واحدة في مكانها .
نهضت الأولى وقالت وهي تبدي دهشتها : إني أرى في شمالي فتحتين ليست بالكبيرتين جدا تشبهان كهفين مجاورين ، ولربما متصلين ببعضهما البعض من الداخل . والداخل كما يبدو لي مظلم ظلاما دامسا لا أكاد أرى منه إلا النزر اليسير . وقد نبتت الأشجار هنا وهناك من غير تناسق ، هذا والغريب في الأمر أن رياحا تهب اليهما بين حين وآخر ولكن بشكل منتظم ، وترفق كل هبوب رياح صوت شبيه بشخير المياه ، وكأني أتخيل آلة شبه معطبة في داخلهما تتولى سحب الهواء بصعوبة بالغة . هل يمكنني أن أدخل وأصلح ما عطب من شأنها ، فأنا ، كما تعلمون ، أفهم من تقنية الآلات فهما جيدا ، وأكون بذلك قد فعلت فعلا لوجه الله
ثم استدركت قائلة : وفي الجنوب يا صاحبتيّ فتحة كبيرة تنفتح وتنسد بشكل يكاد يكون منتظما ، وفي كل انفتاح نفخ هواء دافيء . وفي الانفتاح يحصل ضجيج بالغ ، وفي الانسداد يسود سكون رهيب . مثلها كمثل فتحة بركان ، ينفخ متوعدا ومنذرا بشرّ مستطير . وكلما انفتحت الفوهة رأيت بناء أبيضا متراصا بدقة متناهية وعلى شكل نصفي دائرة يقابل أحدهما الآخر ، وكأنما رصت هذه البناية من أجل هدف خاص لا أعرف كنهه . وأخشى أن يلتهمني هذا البركان فيما لو تقربت كثيرا من فوهته . وفي جوانب هذه الفوهة أشجار بيضاء وأخرى سوداء ، ولكن هذه الأشجار لا ثمار فيها ، ناهيك بأنها لا أغصان لها ولا أوراق ، وكأنها غابة دبّ فيها حريق ، فأكل الأخضر ، وترك اليابس ، ولم ينج من هذه الأشجار إلا الجذوع التي لا أغصان فيها ، فلا تؤمها الطيور ، ولا تجد فيها الحشرات مبغاها . وهذه الجذوع ليست قوية قائمة ، بل ضعيفة هزيلة ، تتمايل يمينا ويسارا أو شمالا وجنوبا . وأني أفكر في أمر هذه الكهوف الثلاثة ، ألا يمكن أن يكون الهواء المدفوع من الكهف الكبير ذلك المسحوب من الكهفين الصغيرين ؟ ومهما كان الأمر يا صاحبتيّ أشهدا بأني كاشفة هذه الكهوف الثلاثة .
قالت الثانية : وكأني أمشي على هضبة جرداء تنبع من كل أقطارها مياه دافئة ، والمياه معدنية لا تفيد الشرب ، وهي مالحة كماء البحر أو أقل من ذلك بقليل ، ورائحتها كريهة جدا ، فلا نستطيع أن نستخدمها في شؤوننا العامة أو الخاصة . وكأني أرى أن هناك ممرات شبيهة بالجداول والقنوات والأنهار تتجمع فيها المياه شيئا فشيئا لتنسكب على الجوانب ، فتشكل شلالات عديدة أسمع لها صوتا تطربني كثيرا . وفي الجنوب أرض دائرية شبيهة بالكرة الأرضية ، قاحلة لا عشب فيها ولا شجر ، كما لو أن مرضا أصاب الحرث والنسل فأتى على آخرها منذ زمن بعيد
قالت الرابعة : وأني على مرتفع أرى على يميني وشمالي أشجارا متقابلة رصت رصا حسنا ، ولكن هذه الأشجار تبتعد عن بعضها البعض مرة ، ثم تعود فتقترب مرة أخرى . وفي كل ابتعاد يتلألأ ما بينهما شيء لا أكاد أراه حتى يزول ، ويزول مع هذا الانسداد ذلك اللمعان . أليس من الأجدر أن نكتشف أمر هذه اللمعة عسى أن تكون لؤلؤة ثمينة مختبأة تفيدنا في قضاء بعض حاجياتنا . فإن كانت كذلك فلؤلؤة في يميني ، ولؤلؤة أخرى في يساري . ومن غير ذلك فالأشجار التي أراها كالأشجار التي ترونها لا ثمار فيها قط ، ويبدو أننا قدمنا أرضا مجدبة لا خير فيها ولا نعيم .
قالت الأولى : إني أريد أن أكتشف ما في هذين الكهفين من أسرار ، علّي أصل إلى كشف لسرّ الآلة الموجودة في الأعماق . سوف أدخل مع هبوب الرياح ، فأترك نفسي مع تيار الهواء لكي تأخذني معه إلى الداخل ، فيقلّ تعبي ، ويسهل أمري ، هلا شاركتنني في مسعاي هذا ، فنفعل ما ينفع ، ونتلهى بما يقنع ؟
قالت الثانية محذرة : إياك أن تفعلي ذلك ، ولربما تخسرين حياتك في هذه المغامرة التي قد لا تحمد عقباها . ثم أضافت : مهلا يا عزيزتي ، ونحن لم نكتشف بعد أسرار هذا المكان جيدا ، وليس من الحكمة أن تقدمي على شيء قبل أن تتوفر لديك المعلومات الكافية وتتخذي الاجراءات اللازمة .
قالت الرابعة : صبرا ، يا بلقيس لكي نأتي إليك ، وندرس الأمر ، ونقرر قرارا مشتركا ما ينبغي علينا فعله وما ينبغي لنا تجنبه .
على أن بلقيس لم تسمع كلام صديقتيها وتحذيرهن لها ، فهمّت بدخول أحد الكهفين . وما فعلت ما فعلت إلا وقد كانت هناك حركة شبيهة بزلزال مرعب يضرب ما تحت أقدامهن . فلم تدر الصديقات الثلاث حقيقة ما حصل ، وارتبكن كثيرا لأول وهلة ، ثم رمين أنفسهن جميعا من الأعالي لكي ينجين بأنفسهن رغم خطورة مثل هذه الحركة على حياتهن .
ومرت فترة قصيرة حتى أدركت الصديقات الثلاث هول ما هن عليه . وقبل أن يقمن من مقامهن تلمسن أجسادهن ، ووجدن أنهن غير متضررات ، فسألت الواحدة منهن عن شأن الأخرى ، وتيقن أن كل شيء على ما يرام ، وليس من ضرر أصابهن ، وشكرن الله على ما هن عليه .
قالت الثالثة مقهقهة لحال صديقاتها وما تعرضن له من خوف مرعب : ألم أقل لكم أن هذا مخلوق حي ؟ ويبدو أنه كان يغط في نوم عميق ، ولم يشعر بكن وانتن تتسلقن عليه . هيا تسارعن في الابتعاد منه قبل أن يقوم من مقامه ، ويدهسكم تحت قدميه الضخمتين . وما أن فعلن ذلك إلا وقام هذا المخلوق فعلا ، ووقف على قائمتيه متململا ومتأوها ومنزعجا ومتشكيا أن نومه الهانيء الحالم قد انقطع لسبب غير معلوم .
عند ذاك صاحت الصديقات الأربع معا محذرات صاحباتهن الأخريات في القرية : يا أيتها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم هذا المخلوق العجيب.
قالت الثانية : ألا يمكن أن يكون زلزالا مرعبا ضرب الأرض ، ودمر الحرث ، ورفع النجد ونحن غافيات نائمات ؟ أما أنا فقد كتبت فعلا تعبة جدا الليلة الماضية ، ونمت نوما غير متقطع طيلة الليل وحتى الصباح .
أجابت الثالثة : كلا ، وألف كلا ، أي زلزال تتحدثن عنه ؟ رغم أني لا أجد ما يعينني على إثبات ذلك فهذا على ما يبدو لي كائن ضخم جدا أتى إلى ديارنا ، ورقد هنا تحت هذه الشجرة . كما أني أشك أن كائنا ما كان وبهذه الضخامة يستطيع أن يتحرك بسهولة تامة كما نفعله نحن ، وهذا الكائن كما يظهر الآن لا حراك فيه البتة كما نتحرك نحن بكل حرية وسهولة . ولكني لا أستطيع أن أجزم رأيي لأنه لم يسبق لنا أن صادفنا كائنا ما كان بمثل هذه الضخامة .
وقالت الرابعة : هلا صعدنا عليه نكتشف عن كنه هذا الشيء الغريب ، عسانا نجد في الأعالي هناك ما ينفعنا من ثمار طازجة ، وفواكه طرية ناعمة ؟
فقالت الأولى : أوليس الأفضل أن نعود إلى القرية ، ونخبر الجمع ، ونستشير في الأمر ، ونأخذ الرأي علّهم يعرفون الحقيقة ؟ فهناك الكبار في السن والخبراء بأمر الغابة فقد يدلّونا على ما يجنبنا شرّ أمر مستطير ، فالحذر يا صاحباتي يغلب القدر كما يقال .
قالت الثالثة : إن الصعود على هذا المرتفع من دون جمع لبيانات كافية واتخاذ الاحتياطات اللازمة مغامرة قد لا يحمد عقباها . وقد تكلفنا المغامرة هذه حياتنا ، وليست حياتنا رخيصة في صرفها في أمر كهذا .
أجابت الأولى : وكيف لنا أن نكتشف ما على الأعالي بدون أية مغامرة ؟ ألم تسمعا المثل القائل : "ما فاز باللذات إلا من كان جسورا . "
قالت الثانية : هيا نصعد على الشجرة ، ونلقي النظر من الأعالي علّنا نرى أمرا ينفعنا .
فلم يصغين بما قالت لأن في ذلك مشقة أخرى من ناحية وخوف وجبن وهروب من أمر واقع من ناحية ثانية . وناقشت الصديقات الأربع ما ناقشن هذا الأمر كثيرا ، وطال النقاش ، وأجمعت الثلاث أمرهن أخيرا على أن يتسلقن هذا الذي يشبه الجبال والهضاب والوديان في نظرهن في الظاهر . وهكذا يكون الشبان والشابات ذوي طاقة زائدة جريئين مندفعين مغامرين لا يبالون بالخطر أو حتى الموت أحيانا .
اعترضت الثالثة : فأنا لست معكم في هذه المرة ، فإني لا أريد أن أجازف بحياتي . سأنتظر هنا عودتكن مهما طال الوقت ، وأنصحكن ألا تطلن هذه الزيارة .
شرعت الصديقات الثلاث بالتسلق مرة وبالتزحلق مرة أخرى . ووجدن في ذلك مجالا للتسلية والمتعة . فصاحت الأولى فيهن مذكرة بكلام صديقاتهن طالبة اجراء سباق للصعود إلى الأعالي . فتسابقن في مسعاهن سباقا لم ينته كالعادة بالتصايح والتنافس ، بل بتشجيع كل واحدة منهن صديقاتها ، وحثها على تحقيق الهدف المطلوب مع خوف كامن في داخلهن لارتياد مكان غريب لا عهد لهن به . ومضت فترة ساعة أو أقل صرفت فيها الصديقات الثلاث جهدا جهيدا حتى وصلن إلى مبغاهن ولكن كل واحدة منهن من زاوية خاصة متباينة .
وما أن وصلن إلى الأعالي حتى تنفست الصديقات الثلاث الصعداء ، وقررن على غير العادة أنه لا غالب ولا مغلوب في سباق اليوم . ألقين من الأعالي نظرة إلى الغابة وما جاورها نظرة شبيهة بنظرة الطيور متفحصات جمال الطبيعة الخلابة ، وهكذا فعل الانسان دائما وابدا ، فدقق في الكواكب والنجوم قبل أن يدقق في الأرض ، ودقق في الكائنات الأخرى قبل أن يدقق في نفسه . لقد كان كل شيء في منتهى الروعة والجمال : الأشجار ، والجبال ، والوديان ، والطيور ، والماء الجاري ، والقرية البعيدة . وهكذا يفعل متسلقو الجبال ، يصرفون ساعات طويلة من أجل التسلق ، فيغامرون بحياتهم ، ويتعرضون للخطر من أجل الاستمتاع بلحظات عديدة من الفوز والانتصار . يا لها من لحظات بديعة لا تقدر بثمن.
وارتحن هنيهات ، فاستلقين على ظهورهن يستمتعن بأشعة الشمس ، ويراقبن السماء الزرقاء الصافية في غابة خضرة على مختلف درجات الخضرة ، إلا من بقايا غيوم مندوفة قليلة في أرجاء فسيحة . ويتنفسن الهواء المنعش اللطيف تنفسا عميقا . وساد سكون لم يستغرق طويلا حتى دبّ النشاط والحيوية فيهن مرة أخرى ، فتحركت كل واحدة في مكانها .
نهضت الأولى وقالت وهي تبدي دهشتها : إني أرى في شمالي فتحتين ليست بالكبيرتين جدا تشبهان كهفين مجاورين ، ولربما متصلين ببعضهما البعض من الداخل . والداخل كما يبدو لي مظلم ظلاما دامسا لا أكاد أرى منه إلا النزر اليسير . وقد نبتت الأشجار هنا وهناك من غير تناسق ، هذا والغريب في الأمر أن رياحا تهب اليهما بين حين وآخر ولكن بشكل منتظم ، وترفق كل هبوب رياح صوت شبيه بشخير المياه ، وكأني أتخيل آلة شبه معطبة في داخلهما تتولى سحب الهواء بصعوبة بالغة . هل يمكنني أن أدخل وأصلح ما عطب من شأنها ، فأنا ، كما تعلمون ، أفهم من تقنية الآلات فهما جيدا ، وأكون بذلك قد فعلت فعلا لوجه الله
ثم استدركت قائلة : وفي الجنوب يا صاحبتيّ فتحة كبيرة تنفتح وتنسد بشكل يكاد يكون منتظما ، وفي كل انفتاح نفخ هواء دافيء . وفي الانفتاح يحصل ضجيج بالغ ، وفي الانسداد يسود سكون رهيب . مثلها كمثل فتحة بركان ، ينفخ متوعدا ومنذرا بشرّ مستطير . وكلما انفتحت الفوهة رأيت بناء أبيضا متراصا بدقة متناهية وعلى شكل نصفي دائرة يقابل أحدهما الآخر ، وكأنما رصت هذه البناية من أجل هدف خاص لا أعرف كنهه . وأخشى أن يلتهمني هذا البركان فيما لو تقربت كثيرا من فوهته . وفي جوانب هذه الفوهة أشجار بيضاء وأخرى سوداء ، ولكن هذه الأشجار لا ثمار فيها ، ناهيك بأنها لا أغصان لها ولا أوراق ، وكأنها غابة دبّ فيها حريق ، فأكل الأخضر ، وترك اليابس ، ولم ينج من هذه الأشجار إلا الجذوع التي لا أغصان فيها ، فلا تؤمها الطيور ، ولا تجد فيها الحشرات مبغاها . وهذه الجذوع ليست قوية قائمة ، بل ضعيفة هزيلة ، تتمايل يمينا ويسارا أو شمالا وجنوبا . وأني أفكر في أمر هذه الكهوف الثلاثة ، ألا يمكن أن يكون الهواء المدفوع من الكهف الكبير ذلك المسحوب من الكهفين الصغيرين ؟ ومهما كان الأمر يا صاحبتيّ أشهدا بأني كاشفة هذه الكهوف الثلاثة .
قالت الثانية : وكأني أمشي على هضبة جرداء تنبع من كل أقطارها مياه دافئة ، والمياه معدنية لا تفيد الشرب ، وهي مالحة كماء البحر أو أقل من ذلك بقليل ، ورائحتها كريهة جدا ، فلا نستطيع أن نستخدمها في شؤوننا العامة أو الخاصة . وكأني أرى أن هناك ممرات شبيهة بالجداول والقنوات والأنهار تتجمع فيها المياه شيئا فشيئا لتنسكب على الجوانب ، فتشكل شلالات عديدة أسمع لها صوتا تطربني كثيرا . وفي الجنوب أرض دائرية شبيهة بالكرة الأرضية ، قاحلة لا عشب فيها ولا شجر ، كما لو أن مرضا أصاب الحرث والنسل فأتى على آخرها منذ زمن بعيد
قالت الرابعة : وأني على مرتفع أرى على يميني وشمالي أشجارا متقابلة رصت رصا حسنا ، ولكن هذه الأشجار تبتعد عن بعضها البعض مرة ، ثم تعود فتقترب مرة أخرى . وفي كل ابتعاد يتلألأ ما بينهما شيء لا أكاد أراه حتى يزول ، ويزول مع هذا الانسداد ذلك اللمعان . أليس من الأجدر أن نكتشف أمر هذه اللمعة عسى أن تكون لؤلؤة ثمينة مختبأة تفيدنا في قضاء بعض حاجياتنا . فإن كانت كذلك فلؤلؤة في يميني ، ولؤلؤة أخرى في يساري . ومن غير ذلك فالأشجار التي أراها كالأشجار التي ترونها لا ثمار فيها قط ، ويبدو أننا قدمنا أرضا مجدبة لا خير فيها ولا نعيم .
قالت الأولى : إني أريد أن أكتشف ما في هذين الكهفين من أسرار ، علّي أصل إلى كشف لسرّ الآلة الموجودة في الأعماق . سوف أدخل مع هبوب الرياح ، فأترك نفسي مع تيار الهواء لكي تأخذني معه إلى الداخل ، فيقلّ تعبي ، ويسهل أمري ، هلا شاركتنني في مسعاي هذا ، فنفعل ما ينفع ، ونتلهى بما يقنع ؟
قالت الثانية محذرة : إياك أن تفعلي ذلك ، ولربما تخسرين حياتك في هذه المغامرة التي قد لا تحمد عقباها . ثم أضافت : مهلا يا عزيزتي ، ونحن لم نكتشف بعد أسرار هذا المكان جيدا ، وليس من الحكمة أن تقدمي على شيء قبل أن تتوفر لديك المعلومات الكافية وتتخذي الاجراءات اللازمة .
قالت الرابعة : صبرا ، يا بلقيس لكي نأتي إليك ، وندرس الأمر ، ونقرر قرارا مشتركا ما ينبغي علينا فعله وما ينبغي لنا تجنبه .
على أن بلقيس لم تسمع كلام صديقتيها وتحذيرهن لها ، فهمّت بدخول أحد الكهفين . وما فعلت ما فعلت إلا وقد كانت هناك حركة شبيهة بزلزال مرعب يضرب ما تحت أقدامهن . فلم تدر الصديقات الثلاث حقيقة ما حصل ، وارتبكن كثيرا لأول وهلة ، ثم رمين أنفسهن جميعا من الأعالي لكي ينجين بأنفسهن رغم خطورة مثل هذه الحركة على حياتهن .
ومرت فترة قصيرة حتى أدركت الصديقات الثلاث هول ما هن عليه . وقبل أن يقمن من مقامهن تلمسن أجسادهن ، ووجدن أنهن غير متضررات ، فسألت الواحدة منهن عن شأن الأخرى ، وتيقن أن كل شيء على ما يرام ، وليس من ضرر أصابهن ، وشكرن الله على ما هن عليه .
قالت الثالثة مقهقهة لحال صديقاتها وما تعرضن له من خوف مرعب : ألم أقل لكم أن هذا مخلوق حي ؟ ويبدو أنه كان يغط في نوم عميق ، ولم يشعر بكن وانتن تتسلقن عليه . هيا تسارعن في الابتعاد منه قبل أن يقوم من مقامه ، ويدهسكم تحت قدميه الضخمتين . وما أن فعلن ذلك إلا وقام هذا المخلوق فعلا ، ووقف على قائمتيه متململا ومتأوها ومنزعجا ومتشكيا أن نومه الهانيء الحالم قد انقطع لسبب غير معلوم .
عند ذاك صاحت الصديقات الأربع معا محذرات صاحباتهن الأخريات في القرية : يا أيتها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم هذا المخلوق العجيب.
بقلم : أ. د. أنور طاهر رضا
جامعة التاسع من أيلول - كلية التربية
ازمير- تركيا
جامعة التاسع من أيلول - كلية التربية
ازمير- تركيا