بعد غفوة خاطفة قدر أنها لم تتجاوز بضع ثوان، صحا مذعورا. الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. أمضى لحظة يحملق في الظلام بعينين مهزومتين كعيني قرد جريح. تحسس هاتفه الذي كان قد سقط منه عند غفوته. أنار مصباحا صغيرا على المنضدة بجوار سرير نومه. انتشرت مويجات صفراء شاحبة في الغرفة أضاءت بعض أوراقه و ثيابه المبعثرة هنا و هناك. عقربا الساعة المستديرة على الحائط قبالته يشيران إلى الثالثة و الربع بعد منتصف الليل. التفاوت في الوقت بين ساعة هاتفه و الساعة على الجدار بات مألوفا لديه. لا يعرف بالضبط أيهما الأدق. من خلف ساعة الحائط طفرت حشرة ذميمة تقدمت قليلا على الجدار و وقفت في منتصف الطريق بكبرياء. ألقى عليها نظرة و خمن أنها قد تكون بدورها تعاني مثله من الأرق. و فكر أن الحشرات تقف أيضا أحيانا في منتصف الطريق لتتأمل العالم. و انتبه إلى أن المرمدة الخزفية المقعرة التي كانت قد اقتنتها له زوجته من أسفي، ما تزال ملأى بأعقاب السجائر، تحتل مكانها السابق على المنضدة الصغيرة بجوار صينية الشاي. حشر جسده في الفراش لحظة متلمسا مزيدا من الدفء، كسلحفاة مهيضة الجناح. و مكث برهة يتفحص صورة لنيتشه على غلاف كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت".. و عاد فأطفأ النور محاولا أن يعود للنوم، لكنه لبث يتقلب في الفراش. تلا آيات من القرآن في محاولة منه لينعم بقسط من النوم لكن بلا جدوى. لذلك فكر أن ينهض.. و فكر أن يفتح الشباك ليستنشق شيئا من هواء نقي يعيد إليه قسطا من حيويته. ثم عدل عن ذلك بعدما أحس أنه مرهق جدا و أن عليه أن ينام. كانت علبة العقاقير المنومة قد نفذ محتواها قبل يومين.. و كان عليه أن يزور طبيبه النفسي من جديد لكنه لم يفعل.. راح عند الصيدلي المجاور لمقر الجماعة الحضرية التي يعمل بها عله يظفر منه بالدواء بلا وصفة، لكن الصيدلي نصحه بالعودة إلى الطبيب.. " هذا شيء غير قانوني" سمعه يردد. انسحب جواد من الصيدلية و ظلت عبارة " غير قانوني" تتكرر داخل رأسه مثل دقات حادة لعكاز امرأة عجوز على الأرض. ندت عنه بسمة ساخرة سرعان ما قمعها بداخله و هو يحملق في الزبائن المتسارعين نحو الصيدلية باحثين مثله عن دواء. في الشارع انتبه إلى حشد من الكلاب الضالة تعبر الطريق بكبرياء. استعاد نصيحة الصيدلي، لكنه فكر أن زيارة الطبيب تتطلب وقتا.. موعد و انتظار.. و هو يمقت الانتظار.. في العيادة عادة ما يصادف وجوها مخيفة تزيد من حدة اكتئابه.. وجوه مسودة كاظمة لأشخاص لا يلوون على شيء.. معظمهم مرفوق بأقارب بدورهم في حيرة من أمرهم.. و في معظم الأحيان لا يكلمون بعضهم البعض. فقط ينتظرون!!
لذلك ارتأى أن يؤجل زيارة الطبيب إلى وقت آخر.. كان يعرف أن الطبيب سيسأله عن حالته النفسية أين وصلت.. أسئلة روتينية كالعادة صار يمجها و يعتبرها أسئلة سخيفة.. سيجيبُه مع ذلك عن أسئلته .. يصغي إليه الطبيبُ دقيقة أو دقيقتين و عينه على الزبون القادم.. يتناول ورقة من الأوراق الموضوعة أمامه يخط عليها نفس الأدوية السابقة بشكل آلي.. يتعمد أن يكون الخط غير واضح ليضفي عليه هالة سحرية.. تحت الأدوية يُدَوِّن: " لمدة ستة أشهر".. يتفحص يومية أمامه.. يسجل موعد الزيارة المقبلة.. بتاريخ (...).. يناوله الورقة مفتعلا ابتسامة يجدها جواد مقززة.. ينسحب من مكتب الطبيب حاملا وصفة الدواء كما لو أنه يحمل صك خلاصه من جهنم.. يلتحق بالممرضة في الاستقبال. يجدها تخاطب شخصا عبر الهاتف و تقهقه غير آبهة بوجوده .. يؤدي ما بذمته.. و يشق طريقه وسط الحشد الذي ينتظر..
لكنه ما عاد يطيق هذه المسرحية القذرة.. يريد أن يتمرد.. أن يتحرر من هذه القيود.. من هذا الإدمان.. ما عاد يطيق أن يعيش متقمصا عباءة سيزيف الغبي حامل صخرته الأبدية على كتفيه بشكل مضحك.. دورة سرمدية بلا معنى !! بات يحلم فقط أن يسرق قبسا من نار الحياة على غرار بروميثيوس و يهرب..
***
لكنه عندما بات يتقلب في الفراش ليلة أخرى بكاملها قرر أن يزور الطبيب من جديد عملا بنصيحة الصيدلي. و زاد يقينه بأن التقلب في الفراش ليلة بكاملها بلا نوم هو أكبر جحيم يمكن أن يواجهه المرء و هو على قيد الحياة.. و وجد نفسه يستعيد فكرة للفيلسوف الألماني نيتشه مفادها أن من يعاني كثيرا في الحياة هو من تفتح له الحياة أبوابها ليعيشها بعمق. تدفع المعاناة الكائن ليكتشف الحياة أكثر، و يستوعب كينونتها بعمق. و مع أن الفكرة بدت له وجيهة إلا أنه سرعان ما اعتبرها تافهة. واحدة من حماقات المجنون نيتشه ! و وجد نفسه يتساءل هكذا وحده في جنح الظلام.. " هل هو من صنف هؤلاء البشر المغضوب عليهم أم ماذا بالضبط؟..". ست سنوات من العقاقير و لا نتيجة مُرضية حتى الآن.. ما إن تنتهي الأقراص بالعلبة حتى يجد نفسه من جديد وسط صحراء شاسعة من الأرق. يحترق بلا هوادة داخل جحيم الأرق بينما الآخرون نيام..اعتبر ذلك دليلا آخر على أن الحياة غير عادلة.. لكن لا ضير أن يكون هو بدوره واحدا من ضحايا الحياة. من "معذبي الأرض" الذين لا حصر لهم.. و وجد نفسه يستحضر عددا من شعوب العالم الذين تعرضوا لظلم لا يحد. و انتابه شعور بالفخر أن يكون واحدا من هؤلاء. و امتد إليه صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر من مسجد الحي. أشعل الضوء من جديد. أشعل هاتفه المسمى ذكيا. ضغط هكذا عشوائيا على أول فيديو طالعه. أبصر فتاة تحزم مؤخرتها تعرضها مباشرة أمام الكاميرا. تنحني على فراشها ترتبه بغنج. و تشرح للقوم ما تقوم به كأنما هي تقدم لهم درسا من دروس الحياة . تحت الفيديو كتبت، هكذا بوقاحة: " أحلى روتين بمؤخرة كبيرة داخل غرفة النوم" !!.. ألقى نظرة إلى عدد المشاهدات. وجدها تجاوزت المائتي ألف مشاهدة.. التعليقات و اللايكات تتدفق على صاحبة الفيديو بسخاء عربي كبير.. و كان هو قد نشر مقالة فلسفية قبل أسبوع، لكنها لحد الآن لم تتجاوز العشرين لايك.. ثلاثون أو أربعون مشاهدة في أحسن الأحوال.. صاحبة الفيديو تتفوه بعبارات سوقية بشكل مقزز.. حركاتها تثير القرف في النفس.. انتقل الى فيديو آخر قريب من الأول.. فيديو مباشر في هذا الوقت المتأخر من الليل... فتاة تعرض صدرها العاري لعموم المشاهدين و تخاطبهم أيضا بشكل منفر.. فكر ليبتعد عن هذا الهراء أن يعمل فيديو عن الفيلسوف سبينوزا.. الله في فلسفة سبينوزا مثلا.. هذه واحدة من أجمل النظريات الفلسفية التي تشد انتباهه.. بحث عن الموضوع باللغة الفرنسية.. كان يعرف أن مجموعة من صناع المحتوى العرب يحشرون أنوفهم في مثل هذه الموضوعات، لكن لا علاقة!! يسيئون للفلسفة من حيث لا يدرون !
بعد لحظة بحث، عثر على فيديو عن قضية الله عند سبينوزا بقناة محترمة بلغة موليير، لكنه بعد ثواني قليلة وجد نفسه عاجزا عن متابعة المشاهدة. انتبه إلى أن الحشرة التي توقفت في مكانها سابقا تستأنف المسير بسرعة مدهشة كأنها تهرب من شيء ما. ربما كانت تصغي فقط لهذه الأفكار المزدحمة داخل رأسه و تحاول أن تجد بدورها حلولا لها.. فكر في البحث عن فيديو لأنثى حقيقية يزجي به الوقت إلى أن يخلد للنوم، لكن وجدهن في معظمهن خشنات. مصابات بعدوى الذكورة المثخنة.. يتكلمن كالرجال مع أنهن نساء. و شعر بأفكار كثيرة تزدحم و تتصارع داخل ذهنه.. و وجد نفسه يفكر في ابنيه عمران و سارة. كانا قد رحلا مع زوجته السابقة بعد طلاقهما.. تسللت الحشرة خلف صورة للطفلين كان قد علقها على الجدار. هناك وجدت لها مكانا آمنا استقرت به. كان جواد يحب كثيرا زوجته السمراء الجميلة ذات الشعر الأسود الكثيف المنسدل على ظهرها كشلال متدفق. لكنهما لم يتفاهما.. اتهمته بأنه مجرد شخص بوهيمي يمضي في الحياة بدون وجهة محددة. و نصحته أكثر من مرة بأن يعيد النظر في سلوكه لكنه لم يعرف كيف، مع أنه حاول مرارا أن يحقق رغبتها مدفوعا بحبه لها و لابنيه. حز ذلك كثيرا في نفسه ! كان يحب ابنيه كثيرا لكنهما ابتعدا عنه. و امتد إليه شخير أخته من الغرفة المجاورة تغط في نومها مع أنها عانس رغم بلوغها من العمر خمسا و ستين سنة. تنام أخته في نفس الغرفة مع شقيقه سعد العاطل عن العمل رغم حصوله على ماستر في الكيمياء. و سعد لا هم له سوى مغادرة البلاد بأي شكل. يمكث ليلا خارج البيت حتى وقت متأخر. و حين يعود متأخرا يقصد المطبخ مباشرة. هناك، بعدما يتناول ما تيسر من أكل حضرته له شقيقته، يعد لفافته الأخيرة من مخدر الشيرا يتجرع دخانها بنهم. يحتسي جرعات من الشاي. و يلتحق بالغرفة حيث تنام أخته. يرتمي على سرير نومه. و يغرق في النوم إلى ما بعد الظهر. و تساءل كيف يمكن لسعد أن يخلد للنوم داخل حلبة من الشخير العاصف. و تساءل كيف لامرأة أن تنام و تشخر بهذا الشكل و هي في هذه السن بلا زوج و لا أبناء. و وجد نفسه من جديد يفكر في عدالة الحياة.. هل العدالة مجرد فكرة وهمية مثل العديد من القيم و المبادئ الكبيرة التي تشغل العالم؟ و خمن أن عايدة قد تكون بدورها مدمنة على العقاقير مثله، و تخفي ذلك عنه مثلما يخفي ذلك هو نفسه عن الجميع. وحدهما الطبيب و الصيدلي يدركان حقيقة أمره.. و دفن رأسه تحت الوسادة لينام لكن بدون فائدة. و مكث هكذا قابعا في الفراش يصارع أفكاره حتى الساعة السابعة صباحا. قفز من مكانه مذعورا حين امتد إليه صوت المنبه من الهاتف بجواره. و في الطريق إلى المرحاض صادف عايدة تخرج من غرفتها في هذا الوقت الباكر، و خمن أنها تستعد للذهاب إلى المختبر لإجراء تحليلات جديدة على دمها بتوصية من الطبيب. كثيرا ما سمعها تشكو من أمراض مختلفة. القلب تارة و أحيانا الكلى و مرات أخرى آلام في المفاصل أو الظهر. كان كلما اقتحم غرفتها يجد إلى جانبها أكواما من علب الأدوية. و سمع نفسه يخاطبها بتلقائية قائلا:
- صباح الخير.
و ردت هي بتلقائية مماثلة و هي تواصل السير نحو المطبخ مسرعة:
- صباح الخير.
و اقتحمت المطبخ فيما هرع هو نحو المرحاض ليغسل وجهه قبل أن يغادر البيت متجها إلى عمله.