في يوم من أيام الصيف الحارة، أيام الفراغ التي تراودني بين الفينة و الأخرى، رن جرس الهاتف، وكالعادة بقي لحظة صمت؛ قبل أن ينطق كلماته، قال صباح الخير، هل يمكننا أن نشرب فنجان القهوة معا هذا المساء؟ قبل أن أجيب أغلق الخط؛ من دون حتى كلمة وداع.
انفتحت جروح الذكريات من جديد، وبدأت الأفكار الإيجابية و السلبية في الصراع على سلطة الفكر، فما كان مني إلا أن قطعت هذا الحبل، حتى لا يتدلى بعيدا، بدأت في الاستعداد قبل الموعد بساعات؛ كأنني سأقابل قيصر روما، ارتديت فستاني المخملي المطرز من الذيل، وتعطرت بأفضل العطور عندي، وانتعلت كعبي العالي، ووضعت قبعة رأسي، وتركت شعري منسدلا بين ضفاف كتفي، ولم أضع لمسة الكحل فضلت أن أترك عيوني تظهر بريقها تحت أشعة الشمس؛ عيون تحمل حضارات الحزن القديمة من بغداد إلى آخر العصور.
خرجت مسرعة لا أدري هل من لهفة شوقي أم من لهفة فضولي، أخذت سيارة أجرة، وصلت إلى الموعد المحدد قبله بساعة، دخلت المقهى وأخذت طاولتي، وبدأ توقيت هذه اللحظة في العد التنازلي، وصل في الموعد المحدد، وكان قد مر بون من الزمن على آخر موعد لنا؛ ومع ذلك اكتفى بكلمة مرحبا من دون حتى النظر في وجهي.
جاء النادل وقال: بكل أدب؛ ماذا تطلبين سيدتي، فقلت قهوة سوداء يزينها القليل من الحليب، تم نظر إليه وقال وأنت سيدي، قال قهوة سوداء مرة، وبدون انتظار النادل أن يحضر لنا الطلبات، بدأ يدخن سيجارته الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، حتى وصل إلى عقب السيجارة؛ التي لم تسلم من نيران توتره، فقام بمضغها كأنه يمضغ علكة، وقال و الكلمات في فمه تتسابق على الخروج، أنا رجل مريض، أعاني من مرض نفسي ، و الشيطان يوسوس لي بالهروب، وصحتي في اعتلال يوم بعد يوم، والعليل لا وعد له؛ وعده باطل، و أخاف أن أسيء إليك.
تكاسلت الكلمات في فمي، وتركت لدموعي وصلتها ، وعندما حضر النادل، انحنى ليضع فنجان القهوة أمامي، فما كان منه إلا أن لامست دمعتي يده، فقال هل تبكين سيدتي، قلت لا، ولكن أترك لدموعي حرية الخروج للحياة، نظر النادل إليه، بعيون توبخه، فما كان منه إلا أن قال له ضع القهوة وانصرف لعملك، وذهب وكله أسى علي، ثم انزلقت دمعة في الفنجان ثم دموع، نطق هرقل بجبروته، وقال وفري وصلة البكاء لمنزلك ، و دعي دموعك تتحرك بسلام فهي لا تغريني ولا تلفت انتباهي...، ذهب وتركني أجمع دموعي الهاربة بعيدا عني؛ عودي ... عودي فلن تشفي انكساري، و لا خيبة أملي، ولا سلسلة الصبر التي مررت بها، عودي إلى عيوني فهي بيتك ولن يقبل أحد باستضافتك غيري، عودي..... عودي.