بعد أن غسّلوه كفّنوه، ثم حملوا النعش بخفة إلى مسجد الحي للصلاة عليه. كبّروا أربع تكبيرات، تخللها دعاء بأن الحاج يستحق من ربه ما لاعين رأت ولا أذن سمعت. وعلى الأكتاف مرة أخرى سارت به جموع المصلين إلى حفرته وديدانه، وما قدم في صحيفة أعماله.
تعشوا عشاء المفارق لخليله. بين اللقمة والأخرى تنهيدة واستغفار، وتحذير للعباد من الوثوق بدنيا بنت كلب. رددوا آمين بينما آذانهم تسترق السمع لهذا اللغط المتزايد في حجرة أخرى. لعلها قريبة تبدي لوعة الفراق، وتذكر محاسن الفقيد. بدا صوت ابنه البكر واضحا وهو يؤكد أن الوصية بخط يد المرحوم، لا شك في ذلك، لكنه لن ينفذ منها شيئا ولو على رقبته.
بعد أن تعشوا سار كل منهم إلى حال سبيله وهو يترقب انبلاج الصبح. خبر كهذا قد يصيب الحومة بالأرق، فنصف دورها من عرق الحاج وكدحه في الغربة. مربع سكني صار يعرف باسمه في مكاتب المقاطعة، ويلهج السماسرة بالثناء على ولد "ماما" الذي حل أزمة الكراء في ثلث البلدة، والسعيد من جاور دار الحاج العامرة.
إلى جوارهم طوت ماما عقدين من عمرها دون مشاكل. وحين أظهر رجولته يوما بركوب البحر إلى بلاد الصبليون، طمأنوه بأنهم الأهل والكنف إلى أن تستقر أحواله. يعانقها وتودعه كل صيف، لكنها تأبى غربة ثانية في بلاد لايعرفون الوضوء ولا القِبلة. يرجوها وترجوه ثم يفترقان. وفي عامه الثامن كان للحي الذي يوشك أن يتداعى، قصة أخرى مع ولد ماما.
أظهروا تأففهم من رزمة الأوراق التي يتأبطها ابنه البكر، متنقلا بين القيادة وسرية الدرك الملكي. عش نهار تسمع اخبار. وما هي إلا ساعات حتى ولجوا مقر الدرك للرد على اتهام بتزوير عقود كراء طويلة الأمد. تنهيدة واستغفار، ثم تنديد بقبح العالم الذي أخرج من ظهر الحاج فاسقا.
- هذا رزقكم، قال الحاج مصرا على أن يحضروا يومها إلى مكتب العدول. سومة كراء رمزية للأحباب الذين آنسوا وحشة "ماما"، وملأوا عليها الدار في غيابه. عليهم أن يكرموا جميله بالوقوف في وجه الورثة. تزوير؟ ألهذا الحد ترخص العِشرة والمودة؟ تريكة الصبليون، لا دين ولا مروءة. ارتسمت على شفاههم ابتسامة وهم يذكرون سخرية الحاج من حفاظات صغارهم:
- يحمل أحدهم غائطه، أعزكم الله، طوال اليوم حتى ترجع أمه من العمل. لاتسأل عن الروائح التي تحبس أنفاسك عند مدخل الزقاق، بينما يتمايل في مشيته كذكر البط.
انفجرت ضحكاتهم وهم يتخيلون ابنه البكر يلج مكتب القائد ليعطر المكان. استخرج كل واحد عقد الكراء وهو يتحقق للمرة العاشرة من توقيع الحاج. نعم إنه هو دون شك. ناموا ليلتها كالعائد من رحلة صيد، وفي الصباح كان اللغط يتزايد في ردهة المحكمة. تنهيدة واستغفار ثم جولة أخرى بين الحق والباطل.وعلى إبرة الميزان انتصب العدل معلنا بطلان الطعن في عقودهم.
عادوا وقد انكسر شيء بداخلهم. لايملك المرء إلا الحيرة أمام ما يُخلفه العدل من ندوب لا تشفى. حتى وإن كانت البيوت رزقهم فلن تعوض شيئا من لحظات السعادة التي عاشوها مع ماما. تبا لجيل لا يرى في الحياة غير صفقة. يرحل الطيبون ليستحوذ الشيطان على ما خلّفوه من غبار الذكريات.
انصرمت أسابيع قبل أن يتودد إليهم. حدثهم عن الديون التي خلّفتها مشاريع لم يكتب لها النجاح في العاصمة، بينما ارتسمت على وجهه ملامح غريق. ترحّم على الحاج الذي لازالت أفضاله تغمر الجميع فانتفضوا: أنت لا تعرف شيئا عن العِشرة وملح الطعام. كأنك اليأس يطرق باب الرجاء، فلا داعي لأن تخمش كالقطط وجه الحقيقة.
بدا عليه الضيق وهو يخطّ على ورقة صغيرة رقم حسابه البنكي. لم يبق في البلدة ما يغريه بالبقاء. سيقيم بالعاصمة ليلاحق فرصة أخرى تعوض ما خسره. يمكنهم إيداع مبالغ الكراء دون الحاجة لقدومه. دنيا بنت كلب، تمد لأحدهم طرف خيط وتوهمه أن السعادة في الطرف الآخر، فتنطفئ أيامه وهو يلهث خلفها. تنهيدة واستغفار، ثم تنديد بأرواح هائمة في دروب الغفلة والضياع.