عندما زحفت النملة الأولى متسلقة إصبع قدم محمود بن عبد الله الزبيري، رنا اليها وهو مستلق تحت الشجرة. داهمته ضحكة بلهاء مسترخية وهو يرى هذا المخلوق الضئيل يتسلق جسده الضخم. باسترخاء عذب مضغ مضغة القات ثم حركها في فمه، فشعر بمتعة رجلٍ يدغدغ ثديَ امرأة.
قال محمود بن عبد الله الزبيري لنفسه: آه. كم هم مساكين أولئك المحرومون من هذه الرعشة!
كانت الشمس تتخلل من ثغرات الأغصان، باعثة مع لذّات القات نوعاً من الخدر المنعش في جسد الرجل المُلقى بين الظل والشمس، ومن مقهى مجاور انساب صوت مغنية شرقية، ماتعاً، هابطاً به نحو سكونية خالدة.
كان يمتص مضغة القات ويعتصرها بشبقٍ عندما جاءت نملة اخرى تتبعها رفيقتها، وراحتا تتسلقان الأصابع نحو الجسد المُسجى.
كان صعود النملة الثالثة يدغدغه، وإذ قرضته بفهما المتناهي في الصغر، أحسّ وكأن شوكة صغيرة تخزّه.
قال محمود بن عبد الله: يا للنمل ما أحمقه!وبحركة بطيئة ناعسة حرّك أصابعه لنفض النملة أو يسحقها، غير أن النملة كانت أذكى من حركته. زاغت من مكانها وهبطت نحو باطن قدمه.
تسرّب الجدار الى خلايا الرجل المستلقي. كان منتشياً بالشمس والقات والصوت العذب المريح لكوكب الشرق. وبعث فيه الخدر رؤى وأحلام يقظة ملونة كقوس قزح. ورأى فيما رأى أنه يطير فوق الحقول والجبال حتى يصل الى مواطن النجوم، ورأى هذه النجوم وقد تحولت أزهاراً، وراح يقطفها ثم يزرعها في عُروته ويختال بها كالطاووس. ثم رأى أن هذه النجوم قد تحولت الى كرات من الذهب، راح يبيعها في ساحة المدينة ويشتري بأثمانها بنادق وخيولاً وصقوراً وكلاباً للصيد.
ولما سئم من النجوم والذهب والبنادق والصقور، حُلم بنساء بيضاوات وجوههن في لون الثلج، وشعورهن كسنابل القمح، ولون عيونهن كلون البحر.
ثم رأى نفسه مرة أخرى فارساً يخترق الريح بيده سيفٌ ورمح، وأنه صار ملك العالم بلا منازع، وها هي الأرض تحت قدميه، يأمر وينهى بما يشاء وحوله العبيد والجواري والجنود طوع بنانه. ابتدأ يتزوج اكثر من امرأة، وخصّص لكل امرأة قصراً وخصص لكل زوجة ليلة. ولما استقرت مملكته رأى أن عليه أن يتخلص من جميع أعدائه، وفي مقدمتهم جارته القديمة ذات اللسان السليط التي اشتهاها ولكنها صدّته. جاء بها وحاكمها وطلب اليها أن تركع قرب قدميه عارية، وأن تعترف به ملكاً لا مثيل له في الرجولة والشجاعة، ثم طلب من سيّافه أن يقطع لسانها ويرسلها الى عبيده ليناموا معها واحداً تلو الآخر.
ثم أمر الملك السعيد محمود بن عبد الله الزبيري، أن يُؤتى له برجل وصمه يوماً بأنه عنّين وغبي وأحمق وطلب من جلاديه أن يضربوه حتى يسيل منه الدم، ثم يقطعوا أعضاءه التناسلية ويرموها للكلاب أمام الناس جميعاً.
هكذا بدأ محمود بن عبد الله الزبيري يثأر من أعدائه واحداً واحداً، وهو متسلّق فوق عرشه بينما النمل الصغير الحقير يصعد الجسد السابح في غيبوبته وأحلامه. كان النمل يشقّ دروبه متقاطراً على مهل وهو يغزوه بطمأنينة.
ها قد بدأت أجفان الرجل تثقل، وراحت الرؤى والتصورات تتراقص وتنتقل من خيال الى آخر، ومن نجم الى نجم، ومن جبل الى جبل، ومن مدينة الى مدينة، محمولاً فوق ريح رخاء، بينما يسيل صوت المغنية الشرقية العذب، سيلان هذا القات العظيم داخل الخلايا العطشى.
نام محمود بن عبد الله الزبيري بينما الشمس بدأت تدخل غيابها، وحمله السباتُ العميق نحو جزر نائية مليئة بجنيات البحر والكنوز المخبّأة. كنوز من الياقوت والماس والقات، ورأى أن جميع هذه الجزر بكل كنوزها وصخورها وشجرها قد تحولت الى غابة من شجر القات، فطوقها بكلتا ذراعيه وراح يمضغها بوحشيّة لذيذة.
كان النمل قد تحول الآن الى جيوش. زحفت من كلّ فجّ عميق فاحتلت جسد الرجل الحالم، وراحت تجوس خلاله بحرية مطلقة،واذ تأكدت بغريزتها النملية أن الرجل قد استوى خارج محيط اليقظة وأن المضغ قد توقف، رنت الى ضحكته العريضة البلهاء الساكنة، ثم بدأت عملها الدؤوب بهذه الغنيمة التي تحولت الآن الى ما يشبه الجثة.