[ عيناك والسحر الذي فيهما ••• صيرتاني شاعرا ساحرا ( ابو ماضي) ]
في جو صباحي ينازع فيه الدفء بقايا برد شديد، والشمس تنزع عن الصباح بقايا نومه، جو يغازل أوتار القلوب، كم من السحر في هذا الوجود، وكم من السحر في عيناها، وقَفَت والألق ظاهر في عينيها، المحطة كانت تعج بالمسافرين، و وحديَ انتظرتني اللحظة راحمة، نظرت اليها بشيء من السؤال وبشيء من الغرابة! ماذا تفعل هذه الغريبة هنا! كل الناس هنا، ووحدها لم تكن هنا، يظهر جليا أنها ليست قطعه من هذه اللوحة، ثمة سحر في عينها وثمة ضياع وألم، الناس كلهم مسافرين ونحن الغريبين الوحيدين هنا هذا الصباح، وصلت حافلتي ولم تكن ستصعد نفس الحافلة انتقيت مكاني قرب النافذة والى جهة اليمين نظرت؛ تقف كما العصفورة مرتبكة في قفص، عيناها لا تهدأ أبدا وفي ملامح وجهها بقايا من بكاء قديم، وانا انتظر - والرغبة تقول ايتها الحافلة لا تنطلقي - بدأت أتأمل شفتيها لعل طيف او شبح ابتسامه يلوح من الغيب، وكم كانت خيبتي أنني لم أرَ ولو هذا الشبح، أما عيناها فما زالت لا تهدأ أبدا.
حادثه لن أنجو منها أبدا. أشاهد هذه العصفورة الغريبة، كم من السحر في عينيها، ليست جزءً من هذه اللوحة الصباحية لكنها كانت لوحه بديعه لوحدها، رسمتها أيدي السماء في عناية فائقة، قوام كناي، لطافة كفراشة، لم أدرِ كيف فترت شفتي عن ابتسامة مُرّة، تذكرت أيام الصبا ونشيدنا الطفولي [في البستان زهر جميل عليه فرش يرقص ويطير] قوام رشيق رشاقة الناي، عينان لن تعرف أهما سوداوان أم عسليتان، لكنك ستجزم انهما السحر كل السحر، وشفتان كما زهرة الرمان ( الجلنار) تذكرني بأنشودة الصبا لأننا في العرصة، غريب أن يكون موقف الحافلات في العرصة، أما خلفية هذه العصفورة/اللوحة فأشجار باسقات، وعلى شيء يشبه السياج أزهار صغيره بيضاء لا أعرف اسمها، ازدادت ابتسامتي حين تذكرت قول الأعشى
ما روضة من رياض الحزن معشبة ••• خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ••• مؤزر بعميم النبت مكتهل
ما اسم هذه الساحرة لأكتب فيها قصيدة! يا نخيل الحمراء وجامع اسرارها إقرأ لي في كتاب المدينة اسم هذه الساحرة فان القلب اليها هفا والروح بأجنحتها رفت، وتطير اليها أطياري، يا كل أشجار النارنج في مراكش وعرصاتها، ما اسم هذه العصفورة، أيتها الكتيبة شاهدة الأزمان اقرأي لي في الساحة اسمها! تجيبني الحمراء في صباحها الهزج الطروب؛ أيها المسافر المجهول الذي يمضي، سَمِّها سِحْرًا أو سمها تعويذه للغرام المستباح، أو سمها يمامة أو نورسا أو مدينة.
أما شَعرها فكل شعرة في مكانها شَعر منساب كالنهر أو كالليل وأصرخ في وحدتي لا أحد يسمعني ولا مقعدي
وليل كموج البحر أرخى سدوله ••• عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
وحيدة تقف هناك خالية من كل شيء مليئة بتعبها حاملة على أكتافها كل شتاتها وتحمل معها جمالها السماوي البديع، هذا الجمال الساحر الغاوي، أغراني بكتابة قصيدة، قصيدة لا أظن أنَّ هذه الساحرة التي مرت هذا الصباح من هنا ستقرأها، هاهي ذي الحافلة تمضي، والمحطة أصبحت من الماضي، وعلى الأرصفة أشجار النارنج تقول؛ إمضي أيها الغريب فالقدر قاضٍ ما هو قاض، ومتم ماهو متم، وكل الطرق متقاطعة وما أدراك لعلك ترى هذه الساحرة من جديد فأجبت الحمراء قائلا:
أيتها النخلة العجوز الواقفة هنا
رأيتِ شموس السماوات
و رأيتِ شموس الأرض والغانيات
وضحكتِ من المجانين مثلي
هل ثمة مثلي في الكائنات
وهل رأيت ساحرة تعاكس الصباحات
ترين كل الطرق وكل الجهات
فأين مضت العصفورة الساحرة
أيتها الكتيبة كم صخرة تحملين دون أن يصيبك العياء
كم حمامة سكنتك من دهور مضت
قَبَّلْتِ الأرض وقَرُبَت إليك السماء
هل في الكائنات محزون مثلي
أم لي وحدي قُدّر الشقاء
رأيتِ جمال كل العصور
هل رأيت من يضاهي هذه الساحرة روعه وبهاء
هل رأيتِ عصفورة كهذه الساحرة
أهكذا تُطبِقُ فَمَهَا الحمراء؟
من اذن يُعزِّي مثلُنا الغرباء.
وسكتت عني مراكش غير مجيبة، وأمضي في يومي على غير هدى، وعلى قارعة الطريق تركت كل اشيائي، ومضيت ناسيا، وفي اليوم التالي ها هي العصفورة الساحرة في نفس المكان كالنسيم اللطيف أنظر إليها من حيث هي لا تراني وفي لحظة من توجساتها تلتقي الأنظار، وكقرع طبل ينطلق هذا الذي يسكن بين جوانحي. سبقت حافلتي حافلتها، وهكذا تأكلنا المدينة مرة أخرى وهكذا نمضي، وفي الحافلة تذكرت قولا لدرويش إذ يقول في مرت كحادثة؛
والعينان لا تتطلعان إلى ضحاياها
فلا أحد رأى العينين كي يروي
بأي بنفسج صرعته
تلك المرأة - الجنية – القدر
التي مرت كحادثة...
ولكني نجوت، ولم يصبني أي سوء
غير ضعف الوصف في هذه القصيدة ( أثر الفراشة ص 249)
وكذلك أنا لم يصبني أي سوء إلا عقم الوصف فيما كتبت عن هذه الساحرة، إذ رفضت الحمراء إلهامي والوحي إلي، لولا أن ساعدني درويش. إنها سحر، أو شيء كالسحر.