كنتُ تائها... شاردا.. أمشي في رواق الحرم الجامعي متَّئد الخطى... معلقا محفظتي على كتفي... لا أدري أين أمشي، ولا كيف أكون...
كنت أنظر حواليَّ في الطلبة والطالبات.. لأبحث عمَّن يشبهني.. عمَّن يقاسمني شرودي الذي ما عدتُ أفهمه... لكني في كل مرة لا أجد ضالتي...
طلبة مجتمعون هنا وهناك ليسوا إلا مختلفين عني، إن ضحكاتهم تتعالى..، لتصطدم بي، لترسم ملامح متعرجة على وجهي... أحاول أن أتصنع ابتسامة صفراء لأبدوَ مثلهم، لكن هنالك شيئا مّا في داخلي يمنعني، يخبرني ويلح أن أكون نفسي، ليس من الضروري في شيء أن أسايرهم...
وفي غمرة ذلك أرفع رأسي.. لأجد لافتة كبيرة معلقة في مدخل المدرَّج، أقرأها: "أنتم طلاب العلم، بكم نبني مستقبلنا..."
ينتابني بعدها إحساس كبير بالغضب... بالسخرية،.. بالازدراء وبمشاعر أخرى لا أفهمها... لو كنتُ أملك نفسي لصعدتُ حالا لأغرز ثورتي فيها، لأتلفها، لأغتالها، لأقطعها إلى أشلاء، ... حتى أجنِّب الآخرين عدواها...
منذ مدة أصبحتُ أكره اللافتات والشعارات الجوفاء، والجمل الرنانة، والحكم السخيفة، لقد حفَّظوها لنا عن ظهر قلب منذ كنا صغارا...ولطالما حاولتُ أن أردم القطيعة الناشئة بيني وبينها، وبين واقعي أيضا...، لكني لم أفلح... إنها شعارات تؤجِّــج ثورتنا، تعلمنا الكذب والنفاق... توهمنا أن الزهرة لن تذبل ولن تفقد عبيرها أبدا.. إنها تخدرنا ومن ثمَّ تقتلنا...
لقد عكَّرتْ تلك اللافتة مزاجي.. وقفتُ على باب المدرج فرأيتُ عجوزا.. يخبرني حدسي أنه أستاذ جامعي، كان يلبس نظارات سميكة، جالسا على كرسيه وهو يلقي محاضرته المملة... أقسمتُ بعدها أني لن أدخل المدرج... فلستُ مستعدا أن أملأ رأسي بثرثرة مقيتة...
قصدتُ بعدها نادي الجامعة علني ألملم شتاتي هناك، دخلتُ ثم بحثتُ عن طاولة منعزلة تقيني هرج المتطفلين... جلستُ مع قهوتي أرتشفها على مهل، واضعا رجلا فوق أخرى...
كانت قهوتي تسائلني: ما بك؟ ما الذي أغضبك؟
لم أجبها، .. كنتُ أرى تفاصيل وجهي في سوادها... أمعن النظر وأكتفي بصمت طويل... بعدها أقترب منها، آخذ بمجامع شفتيَّ لأرتشف منها نصيبي...
هكذا شربتُ قهوتي كلها... وفي قاع الفنجان لاحت لي الكثير من أحلامي المتكدسة، إني بالكاد أراها وهي تئن في وحل السكر الراكد..
شربتُ قهوتي كلها إذن..
جعلتُ أمعن النظر في أحلامي.. إني أراها تئن، وتتوجع في بقايا السكر الراكد.. إن هذا الموقف بالذات يجعل أفكارا غريبة تتسرب إلى ذهني...
وبين الحين والآخر تصدمني أصوات مزعجة قادمة من تلفاز منتصب أمامي.. أتذمَّر.. وأتساءل:
ما كل هذا الضجيج هنا؟ ما الذي قادني إلى هذا الركن..؟ ألم أكن أنشد بعضا من الهدوء الذي يلملم شتاتي...؟
أنظر إلى شاشة التلفاز فأرى امرأة تبكي حظها... وأم تتوسد ذاكرتها الفارهة... ورجل يقولون عنه إنه "وسيم".. أراه يلاحق ما يصطلح عليه أنه "حب".. أبتسم وأقول: إنه يرسم على مهل تجاعيد حياته...
لم أطل النظر في التلفاز... إني أمقت الأفلام الهندية والتركية والمصرية والأمريكية والجزائرية والسورية...
فجأة تتملكني رغبة شديدة في أن أكتم صوت هذا التلفاز... قمتُ من مقامي، نظرتُ حواليَّ فلم أجد أحدا يهتم بالبؤس الذي يُبَث منه... ضغطتُ على الزر مرارا.. لكني اكتشفتُ أنه لا يعمل، لقد ضبطوه بطريقة تمنع الآخرين من التصرف فيه... تملكني الغضب وشعرتُ بنفسي مهزوما...
لكن صوت في داخلي يقول إنك لازلتَ قادرا على التصرف.. لا تركن بهذه السهولة... آخذ فنجان القهوة.. أقدمه للنادل، وأصرخ في وجهه:
" اللعنة... ألا يمكن الإنقاص من صوت التلفاز... لقد صدَّعتم رؤوسنا... ضف إلى ذلك لا أحد من الجالسين يتابع هذا البؤس.."
رمقني بنظرات مخيفة، وربما حائرة.. حاولتُ بدوري أن أواجهه بنظراتي الحادة، كي أثبت له مدى نفوذي.. لكني سرعان ما أحسستُ بالذنب أمامه، خشيتُ أن يكتشف ضعفي، فهممتُ بوضع قطعة نقدية من فئة 50 دج على الطاولة... وقلت:
"ربي يعاونك..." هكذا صرفتُ نظره... ثم خرجتُ...
اجتاحتني مشاعر متباينة، تتراوح بين التلذذ بطعم الانتصار وبين الإحساس بالمهانة... لا أدري أيًّـــا منهما أرجِّح... كل ما يهمني أني تصرفتُ.. ولم أبقَ مكتوف اليدين. ألا يُعدُّ هذا إنجازا؟ أو بالأحرى انتصارًا..؟
وجدتُ نفسي في الرواق الطويل من جديد، كان يغصُّ بالطلبة المتسكِّعين مثلي، وبالجلبة المتصاعدة من هنا وهناك،... كنتُ أسير من غير هدى، وإذا بي أرى طالبا قادما إليَّ.. يحمل محفظة مثقلة، كلاسيكية...
نظرتُ إلى وجهه فوجدته يطفح بالسعادة... قلتُ في نفسي:
"ما الذي يسعدك أيها الغبي، وأنت تغرق في هذا العفن مثلي.."
انتابني إحساس عميق أنه يتصنَّع الفرح.. ذلك الفرح المبتذل الذي أكرهه...، الحقيقة أني لا أعرف هذا الطالب جيدا.. أذكر أننا التقينا مرة واحدة فحسب.. كان ذلك في أول يوم للدخول الجامعي.. لكني أظنه من النوع الذي يدَّعي التفاؤل...، كان يتكلم كثيرا دونما توقف... وأنا في كل ذلك أستمع إليه وألعب دور المنصت الذي يوافق على كل شيء دون معارضة..، كنتُ أقول له بعد كل جملة أو اثنتين:
"ايه صح.. عندك الحق.."...
أحيانا أهزُّ له برأسي وأنا أضحك من غير سبب...
كان عليَّ أن أستمع إليه.. وهو الذي لم يصمت طيلة الوقت، كان يسرد لي قصة حياته، ويعدُّ لي قائمة الكتب التي طالعها، ويحدثني عن "جون جاك روسو" و"فيكتور هوجو" و"لامارتين" و"جون بول سارتر"..، ويتباهى بنبوغه الذي أوصله إلى هذه الجامعة التي يدَّعون أنها لا تستقبل إلا الأذكياء...
لهذا كله ولأسباب أخرى صنفته ضمن خانة "المثرثرين"...
وصل إلي، بادرني بالتحية:
- كيف حالك أخي عمر؟
أجبته بلكنة عاصمية وأنا أدَّعــي الفخامة:
- صحَّ خُو.. والله لاباس وأنت؟
ثم قال لي مرة أخرى:
- عندنا TD (حصة أعمال موجَّهة)... يا الله نذهب...
ذهبتُ معه... وأنا لا أدري أي مادة سأدرُس، ولا أي أستاذ سأقابل...
مشينا... ومشينا... حتى اختفينا بين الزحام...