حين بلغت بنا الحافلة قمة الجبل، بعد رحلة شاقة مخيفة مرعبة، هدأت نفوسنا وسكن رعبنا. وأوقف المادري المحرك، فعم السكون واستحالت الحافلة جثة هامدة بلا حراك بعد أن كانت ضاجة بالهدير والأزيز، ولم نعد نسمع سوى أصواتنا المتناثرة يتردد صداها بين هذه الفجاج السحيقة.
كان المكان الذي اختاره لنا المادري لنتخلص فيه من وعثاء السفر منبسطا فوق القمة الجبلية العالية، بقعة فسيحة سواها عجوز أرميني وهيأها وظل يؤجرها للعابرين، فقد بنى فيها ما يشبه دورة المياه والمقهى. وحدثنا المادري أن أحد المسافرين عثر عليه ميتا ذات صيف لفه في إزار قديم، بعد أن استولى على ما كان معه من مال، ثم دحرجه من الجهة الجنوبية للجبل حيث الصخور الناتئة والهوة السحيقة، فتدحرج ما يزيد عن الميلين ولم يُعثر على جثته، فلا أحد يعلم أأكلته الذئاب أم ابتلعته الأرض. والمادري رجل مديد القامة طوحت به المقادير من مكان إلى مكان حتى استقر في مدينتنا انتدبته إحدى الشركات السياحية ليقود حافلة يجوب بها البلاد طولا وعرضا يعرّف السياح عن وطن لا يعرف أبناؤه أكثر تفاصيله. يحمل في جعبته حكايات لا تنفد، عاش بعضها، ورسم بخياله أكثرها.
لم تكن رحلتنا يسيرة، التواءات الطريق الجبلية الوعرة أضجرتنا وأرعبتنا، ولولا براعة المادري في القيادة والتحكم في هذا الصندوق الحديدي الجاثم الآن أمامنا بلا حراك لالتهمتنا إحدى الشعاب الضيقة أو لدقت عظامنا في إحدى المهاوي السحيقة. كان هذه المرة هادئا على غير عادته، يلوك اللبان في حركات مكرورة موزونة، ويداه تتشبثان بالمقود كأنه يخشى انفلاته من مكانه، وعيناه تتحركان في انتظام متنقلتين بين الطريق ولوحة القيادة يتفقد درجة حرارة المحرك ويقدّر كمية البنزين المتبقية في الخزان. كنت أجلس خلفه مباشرة فسمعته مرة يدندن بأغنية لم أتبين كلماتها، وعندما سألته عنها حدجني بنظرة ثاقبة ثم ابتسم وطوح برأسه يمينا وشمالا ولم يفه بكلمة. وكنت أراقب حركاته دون أن يشعر بي، فلم يكن يرد على هاتفه الذي اهتز رنينه مرات عديدة منذ انطلقت بنا الحافلة متجهين إلى غايتنا، يحدق في الاسم ثم يرمي بحدقتيه على الطريق تراقبان التواءاتها الكثيرة ومنعطفاتها الخطيرة.
الصحب في الخلف هاجوا وماجوا، رقص أيمن وهناء على وقع نقرات دف أحضره فارس، فبهرا الجميع بحركاتهما وانسجامهما، فرغم ضيق المساحة التي تحركت فيها أقدامهما فقد أبديا قدرة عجيبة على الحركة والتوازن. وعندما غنت رانية سكت الجميع، حتى خيل لنا أن محرك الحافلة توقف عن الدوران مصغيا لهذا الصوت العذب الجميل القادم من بعيد. غنت أغنية "مستنياك" لعزيزة جلال، فتمايلت معها كل الأجساد، وانفصلت الأرواح عن الأجسام وتلاقت في فضاءات رحبة من الصفاء والنقاء. "مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق، مستنياك تعبت تعبت من الأشواق..." فكم جميل أن تصرخ الأنثى شوقا، وكم جميل أن تنوح امرأة بلوعة الفراق وهي التي تعودت إخماد نار أشواقها وسكب الماء على لظى البعد والهجر...تشابكت الأيدي أثناء الغناء، وتعانقت النظرات، وعلت الهمهمات،، أساف ونائلة قاما من جديد يتعانقان في أقدس مكان، وهاهي تنهداتهما تغزو الحافلة...والرحلة لا تنتهي.
عندما انعطفت الحافلة انعطافتها الأخيرة لتعلن قرب بلوغ القمة سحب المادري نفسا عميقا من سيجارته ونفث الدخان في شكل حلقات متتالية، وحدق في المرآة العاكسة، فلاحت له وجوه الصحب ضاحكة مستبشرة زادتها ابتسامته فرحا وحبورا، وتنفس الجميع الصعداء ودب فيهم الحماس والمرح.
في الفسحة التي هياها العجوز الأرميني فرشت البسط وطقطقت الأواني وعرضت المأكولات، وتخلى الجميع عن كبريائهم وعانقوا الحالة الطبيعية الأولى للبشر، وتقاسموا وتهادوا وخطفوا وافتكوا وسرقوا وشبعوا، ضجت بطونهم ولم يجدوا ملجأ إلا دورة المياه التي أنشأها الأرميني فتدافعوا أمامها وكادوا يقتتلون لولا تدخل المادري الذي حسم الأمر بأن رتب الداخلين حسب أماكن جلوسهم في الحافلة. وبين ضحك وشتم وتذمر قضيَت الحاجات وهدأت البطون.
ومن هناك، من تلك القمة الجبلية السامقة بدت لنا القرية التي نقصدها بعيدة وساكنة، لا يصل إليها إلا من يقصدها، ولا سبيل إلى الوصول إليها إلا عبر هذه الطريق الجبلية الوعرة. هادئة كانت تلك القرية، تحرسها أضرحة الأولياء الصالحين المتناثرة فوق الهضاب وفي الوهاد والسهول. قرية تحاصرها الجبال من الجهات الأربع. نائية كانت عن الناس والمدن، لم تصل إليها يد العابثين أو المتطفلين، ظلت عذراء شامخة عصية على الجميع. لا يطول مكث زائريها فيها، سرعان ما يغادرونها، تفتح لهم ذراعيها لتستقبلهم في كرم لا متناه، وتودعهم سريعا متمنية لهم السلامة في رحلة العودة. يشقها نهر لا ينقطع عن المسير في رحلة سلسة من غور إلى غور، لا أحد يعرف منبعه، ولم يبلغ أحد منتهاه، يتفجر الماء فجأة ويغور فجأة بين الصخور، يدخل جوف الجبل الذي ظل على ظمأ لم يرتو رغم هذه المياه التي سكبت في جوفه. وعندما بحث الناس في السفح الآخر للجبل عن هذه المياه لم يعثروا إلا على الجفاف القاتل الجارح.
نفض المادري أثوابه من بعض التراب العالقة فيها، واتجه نحو الحافلة التي تناسى الجميع وجودها، فتفقد الماء والبنزين، ثم أدار المحرك وضغط على زر فاهتز المكان بصوت المنبه يدعو الجميع إلى الصعود ومواصلة الرحلة. كنا في غاية الشوق للوصول إلى تلك القرية التي حدثونا عنها كثيرا، واتخذ كل فرد مكانه بلا صخب وبلا تدافع، عدنا إلى الحالة الحضارية وتناسينا ما كنا عليه أمام دورة المياه من ضجيج وتدافع.
لم تكن التواءات الطريق كثيرة أثناء النزول، طريق مستقيمة بين حدين، حسب السائق أن يوجه الحافة ويحافظ على توازنها ويتحكم في المقود لتزداد سرعتها دون استهلاك للوقود. أسرعت بنا الحافلة كما لو كانت يدا خفية تدفعها دون توقف، انطلقت بنا كالمجنون والمادري المضطرب لا يقدر على كبح جماحها... على الحافتين تمتد المهاوي السحيقة المرعبة التي لا تُرى نهاياتها تحاصرنا، تجذبنا إليها.
الحافلة لا تهدأ والمادري يدوس الفرامل ليخفف من السرعة قبل بلوغ نهاية الطريق لننعطف معلنين وصولنا إلى هذه القرية. تتجمد قدم المادري، تتيبس أطرافها، تضغط على الفرامل، الحافلة لا تستجيب، تزداد سرعتها، نضج ، يعلو التكبير والتهليل، يبلغ الإيمان ذروته، ترتفع الأصوات بالشهادتين، لحظات مرعبة توقف فيها الزمن، تذكرنا الأهل والزوجات والأبناء والأحبة، واغرورقت عيوننا بالدموع.
الارتماء خارج الحافلة غير ممكن، والمكوث داخل هذا الصندوق الحديدي المجنون الذي لا يهدأ صار جحيما. حدقتا المادري تدوران في محجريهما، فأر محاصر بالنار من كل الجهات لا يقدر على القفز ولا يستطيع الحفر للنجاة. المسافة تطوى والحافلة لا تتوقف، ولم يعد يفصلنا على الانعطاف سوى أزة فرامل، لكن الفرامل لا تستجيب، فقد فات الأوان لتنطلق الحافلة محلقة يحتويها فضاء تلك الهوة الملعونة السحيقة التي لا ترى نهايتها... فلم يسمع الناس سوى صوت ارتطام الجماجم ودق العظام. ونام المادري ومن كان معه نومة أبدية بلا قبور وبلا شواهد.