"إن حب الأولاد ليس نابعا من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية".
غابريال غارسيا ماركيز.
المسافة بين الحلم والواقع قد لا تتخطى حدود المسافة الفاصلة بين الإغفاءة واليقظة. والوقوف على حافة الذكريات لا يعدو إلا أن يكون وقوفا على شفا هاوية سحيقة لا ترى العين نهايتها.
نزعت أنهار حذاءها بخفة ووضعته تحت المظلة فبدا بكعبه العالي كأنه حارس أمين يحرس بقية أثوابها التي كومتها بعناية فائقة، وقررت أن تسير بمحاذاة البحر حافية القدمين، فهي تحب أن تترك لجسدها بين الحين والآخر أن يتحرر، فتخلصه من سطوة الملابس الضيقة وهيمنتها عليه، وتترك له مساحة من الحرية لا يحدها حد، تتحدى خجلها، ويغيب العالم من حولها، ترى الجميع يحدقون إليها، يخترقون بقية الثوب الذي يستر اليسير من مفاتنها، لكنها لم تكن تحفل بهم. توهم نفسها أن جميع العيون فاقدة القدرة على الإبصار. فجأة يتحول الناس إلى مجموعة من العميان يسيرون حولها على غير هدى. أعينهم مفتوحة لكن لا ترى شيئا. يتناهى إلى سمعها همسهم وأصواتهم ونداءات أجسامهم المترهلة، لكنها لم تكن تصغي سوى لصوت شعرها المبعثر على كتفيها وعنقها، وقد غطت خصلة منه جزءا من نهدها الأيسر النافر الصارخ أنوثة وغواية. لم تلتفت إلى الأيادي التي لوحت لها، ولم تحفل بمن رغب مشاركتها المشي. هي تحب السير وحيدة على الشاطئ، لا تريد من أحد مرافقتها، تخشى منذ فارقها زوجها الاقتراب من الآخرين. تكره هؤلاء الآخرين حد المقت.
وما إن لامست قدماها الرمال الناعمة حتى شعرت بقشعريرة تسري في كامل جسدها الأسمر الذي عرضته خلال الأيام الأخيرة لأشعة الشمس حين كانت تستلقي بجانب البحر تتأمل اهتزاز أمواجه الناعمة. لم يدم سيرها طويلا فسرعان ما وقفت واستدارت نحو الماء وفتحت ذراعيها، تدعوه لاحتضانها. وهناك غير بعيد كانت بعض الطيور تملأ الفضاء بطيرانها المهرجاني الأنيق وحركاتها الرشيقة، فكان الواحد منها يعلو ثم يهبط في خط عمودي ويغوص في الماء ثم يصعد وفي منقاره سمكة يبتلعها سريعا ويعيد الهجوم كرة أخرى.
ألقت أنهار جسدها على الشاطئ سامحة لرماله الندية بمداعبة تفاصيل جسدها الرهيبة واحتضان خصلات شعرها الأسود الفاحم الناعم. فهي تعشق هذا المكان، وتعشق الهمس للبحر، تبوح له بكل أسرارها، وتشعر أنه يصغي إليها، وحين ترى تكسر الأمواج على ساقيها تحس أنه يلاطفها، يبادلها همسا بهمس. تأتيه كلما داهمها الشعور بالتوتر والضجر. وعندما يحاصرها الخوف وتستبد بها الهواجس تقصد البحر تنتظر خروج عرائسه فيحملنها بعيدا ويتوجنها ملكة عليهن، فتهدأ نفسها وتعود إليها سكينتها وتشعر أن خلايا جسمها تتجدد وأن روحها تحلق هناك بعيد فوق اللجة وتسبح بين الأمواج العاتية.
لم تكره البحر يوما رغم ما فيه من مواجع، ولم تهجره رغم ما خلفه في قلبها من وجع لم تلتئم جروحه رغم المراهم الكثيرة التي وضعتها فوقه. وظلت الندبة التي خلفها ذلك الوجع بارزة مثل الوشم المنقوش في مكان جلي من الجسد الذي تراه كل العيون. هي تفنى في البحر وتعشق مداعبة رماله. تلبي نداءه وتأتيه طائعة وتسلم جسدها الطازج لمياهه فيرتوي كل منهما من الآخر. وحين تغادره تظل على ظمأ.
تتذكر تفاصيل اللقاء الأول بينهما حين جاءته أول مرة هاربة من الألم الذي اعتصر قلبها لفقد وحيدها. حاولت كثيرا أن تقاوم الفراغ الرهيب الذي خلفه رحيله الموجع في زوايا الروح والبيت والمدينة. جاءته تحاول لملمة ذاتها وجمع ما تناثر منها لتعيد ترميم روحها، فقد استحالت هيكلا خلا من كل رغبة في الحياة. وصارت لياليها مساحة ممتدة من الأحلام المزعجة والرؤى الملغزة الغامضة المربكة. جاءته حين أعيتها الزيارات المتواترة إلى مقامات أولياء الله الصالحين تبحث عن الراحة والهدوء والطمأنينة، لكنها كانت كل مرة تعود من تلك الأماكن إلى بيتها ذليلة منكسرة خائبة، تؤلمها نظرات القائمين على تلك المقامات تخترق أثوابها وتنهش أنوثتها الغضة، تحرقها كلماتهم القاسية الجارحة الملغومة الطافحة نذالة. ظنت أن أرواح أولياء الله الصالحين الأتقياء الأنقياء ترفرف فوق أضرحة المقامات تحرس المريدين. ولم يدر في خلدها يوما أن تلك الأماكن ستصير ملعونة لعنة جعلت جدرانها متيبسة عقيما باهتة الألوان.
عندما تقف أمام البحر يتجدد عندها الرضا عن نفسها، وتموت فيها كل الأحقاد التي تحملها للبشر، وتصفو روحها وتزكو وتسمو فتنافس الطيور الضاجة في السماء. تمنت أن تصير شظايا وترحل كل واحدة في اتجاه، أن تسبح مع الأسماك، وأن تحتض الكون، وأن تملأ رئتيها بكل الهواء، وأن تدنو من الشمس وحين تشعر بلظاها تغوص إلى الأعماق وتنعم ببرودة الماء. تمنت كل ذلك وأكثر...لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه.
تطهرت بمياه البحر من لوثات كثيرة، التأمت جراحاتها حين أحرقتها الملوحة، كانت تستمرئ ذلك الإحساس العذب بالاسترخاء على ظهرها فوق الماء وتستسلم له يحملها حيث يريد. لم تأمن جانب ذكر غير الماء، أتته بملء إرادتها وارتمت بين أحضانه قائلة "هيت لك"، وكلما خرجت منه رغبت في العودة إليه، يلح عليها نداؤه، أدمنت تكسر الأمواج على تفاصيلها.
هناك على إحدى الصخور تدافع صبية، يمارسون شغفهم بالبحر. سبحت أنهار حتى بلغت حافة الصخرة وظلت تشاركهم صخبهم. كان الواحد منهم يتراجع خطوتين أو ثلاث ثم يندفع ويلقي بنفسه من علٍ فيتحضنه الماء أبا رحيما ودودا، فيغوص فيه ويغيب لحظات ثم يطفو ويمضي سابحا بعيدا فاسحا المجال لغيره. شدها المشهد وظلت تتابع حركاتهم الرائعة. وتبتسم في سرها حين ينظر إليها أحدهم محاولا شد انتباهها بحركة شقلبة رشيقة في الهواء ويرتمي غائصا برأسه تاركا في الماء فجوة، لكن الماء يأبى الانفصال وسرعان ما يلتئم.
أراد أحد الصبية القفز، لكنه تراجع، خبا حماسه. نظرت إليه تسأله عن سبب خوفه. أجابها بنظرة ذابلة أنه لم يجرب القفز من قبل. صافحته بابتسامتها العذبة، ونزعت بها عنه رداء الرهبة، فإذا طاقة رهيبة تسكن هذا الجسد الصغير وتنفجر منه قوة جبارة غيّبته عن الوجود ولم يعد يلمح سوى أسنان أنهار تلمع تحت أشعة الشمس. تراجع خطوتين كما فعل الصبية من قبله، جرى، لكن قدميه خذلتا جسده، فانزلق فوق الطين المبلل وتدحرج، فارتطم رأسه بإحدى الصخور الناتئة، فتناثر دمه على الصخرة، واحتضنه الماء هبة. وامتزجت الملوحة برائحة الدم المقززة.
ضج الجميع، وجرى الناس من كل صوب، وغاص أحد الأطفال فسحب الجثة. أما أنهار فقد فتسللت ماسحة دمعة حرّى وهي ترى قلب أم سينفطر وكيان أب سيرجّ.