لن تجد كلمة دلت على معاني بلغت من التضارب حد التناقض، مثل كلمة العدمية في مجرى استخداماتها من طرف توجهات فكرية مختلفة المشارب أدبا وفلسفة وفنا، حتى إن الناظر في النزعات التي توسلت بالمصطلح من إلحادية وأنا واحدية وريبية ومادية وتشاؤمية. يقف على تلبس دلالاتها لبوسات تختلف باختلاف التيارات والمذاهب؛ فكانت بحق تعبيرا عن توجه ينطوي على قيم مبتدعة ساهمت في تعرية وكشف السمات الثقافية لأزمة الحضارة الغربية أيما إسهام.
لقد تنقل هذا المصطلح من فضاء ثقافي إلى آخر ومن قطاع معرفي نحو آخر، حتى صار كل واحد ينسب لنفسه السبق في استخدامه. فهذا صاحب رواية الآباء والأبناء تورغينيف يدعي فضل اجتراحه في الوقت الذي توسل به آخرون قبله كالقديس أوغسطين وعلماء اللاهوت الألمان في القرن الثامن عشر. ولو استقصيت الجذر اللغوي اللاتيني لكلمة العدم nihil ما جنيت كبير فائدة، للإحاطة بصلب الموضوع، أي تحديد ماهية النزعة العدمية . الشيء الذي يفرض وضع المفهوم في سياقات تشكله المعرفية والتاريخية المتعددة الروافد والمتشعبة الدلالات. فهلا وُفقت رحلة الدال في استنفاذ معاني مدلوله المتباينة اللبوسات والتلاوين ؟
- الفضاء الثقافي الألماني أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر: نعثر على عبارة عدمية في رسالة وجهها الفيلسوف جاكوبي لفيخته (1799):" عزيزي فيخته ، حقا لن يتكدر صفوي إذا أنتم أو أحد سواكم نعث اعتراضنا عن النزعة المثالية بالهلامي والتي نظرنا إليها كنزعة عدمية ." هنا رأى جاكوبي في المثالية نزعة عدمية ـ بما فيها فلسفة كانط ـ من خلال طريقتها في جعل الذات أو العقل مطلقات وإرادة لتوجيه الله والعالم. والتي تطلبت تعديم العالم بل إنها في الواقع أضحت معرفة بعدم ما. وهذا ما أعاد هيجل مناقشته في إحدى كتابات مرحلة الشباب بعنوان الإيمان والمعرفة(1802) حيث اعتبر:"الموضوع الأول للفلسفة هو إدراك العدم المطلق ". وهو ما انتهت إليه فلسفة فيخته أيضا – ولو جزئيا - والتي كان لها تخوف كبير استلهمت دوافعه من فلسفة جاكوبي هذا عن الفلسفة . أما عن الأدب فسيضفي أوائل الرومانسيين الألمان لاسيما مع نوفاليس وفريدريك شليغل(الذي استخدم الكلمة منذ 1787) نمطا شاعريا على مبادئ فيخته.
استحال التصور الذهني لفاعلية لانهائية للأنا المطلقة إلى إرادة لا حدود لها على خلق الأنا المنفردة. فصار مصطلح العدمية في الشعر الرومانسي تعبيرا عن الإرتجالية والتصنع.والمثال على هذا القول هجوم الكاتب جان باول في مؤلفه cavalis fichteana (1800) على الشعراء العدميين بقوله :"هؤلاء العدميون وبشكل أناني، اختزلوا الكل في العدم ليتيهوا أخيرا في سديم بدون شكل ولا روح." من هذا السياق الفلسفي والأدبي ستؤول العدمية إلى إحدى مقولات علم الجمال .
وفي القرن التاسع عشر،تم توظيف المصطلح بوصفه نقدا للآثار السياسية والإجتماعية التي خلفتها نزعة الإلحاد .على هذا الأساس عمل الفيلسوف فون بادارعلى تقويض العدمية العلموية كنزعة مؤدية لا محالة إلى إهانة كبرى وتبخيس لكل المؤسسات الإجتماعية القائمة. بدوره وصف دونوسوكورتيس( في محاولة حول الكاتوليكية، الليبرالية والإشتراكية 1851) الإشتراكية الفرنسية (كما جسدها بيير جوزيف برودون) بكونها نزعة عدمية : نفي الخطيئة يؤدي الى نفي كل السلط سواء كانت إلهية أو بشرية(اللاسلطوية) .كما اعتبر النقد الذي أنجزه لودفيغ فيورباخ حول الدين وفردانية ماكس سترنرالمتطرفة نقدا عدميا. وفي الأدب خص فيكتور هيجو فقرة من البؤساء (1862)، بعنوان "مطلقية صلاح الصلاة" للتبليغ عن مذهب الإلحاد قائلا : "نفي المطلق هو الطريق المباشر نحو العدمية ليغدو الكل تصورا من بناء العقل " .
- الفضاء الثقافي الروسي : انطلاقا من سنة 1830استخدمت العدمية من لدن حركة النقد الليبرالي ،(دوبرليوبوف ،بيلانسكي) في تصديها لتلك القيم الجمالية الحاملة لنفحة بوشكينية(نسبة لأمير الشعراء الروس بوشكين). فكان هذا النقد إعلانا عن ميلاد موجة ثقافية تحررية في سنوات 1850 ميزت العدمية الروسية الفعلية : يتعلق الأمر بتخليص وتحرير المذهب الجمالي والرومانسي عبر تعبئة وتغيير ملامح المنظور العلمي للكون والعالم الاجتماعي. وقد جسد ذلك تورغنييف في رواية الآباء والأبناء من خلال شخصية بزاروف كعدمي لا يخشى أية سلطة، ولا يقدس أي مبدأ. وهي في الحقيقة ليست توصيفا بقدر ماهي صورة كاريكاتورية : فهذا الروسي العدمي بالمعنى الدقيق ليس ملحدا متجردا من كل مبدأ. فرغم اعتبار بزاروف شخصا ملحدا ،إلا أنه شخص مؤمن بالسلطة المطلقة للعلم ، وبهذا الموقف كان وضعيا راديكاليا يسعى لتحرير الشعوب باسم القيم العلمية.
- الفضاء الثقافي الفرنسي : بدا أن كلمة عدمية جرى تداولها لأول مرة أثناء الثورة للإشارة إلى حزب اللامنتمين . حتى أن أنكارسيس كلوتس رأى في جمهورية حقوق الإنسان بالمعنى الدقيق للكلمة ،جمهورية محايدة لاهي بالمؤمنة ولا هي بالملحدة ،بل إنها جمهورية عدمية. هذه الكلمة التي نجد لها في قاموس الكلمات الدخيلة(1801) تحديدا أدرجه لويس سباستيان مرسييه، لوصف الشخص العدمي أو التعديمي بكونه كل من لا يؤمن بأي معتقد أو كل من لا ينهم بأي شيء. بحثا عن الخلفية السيكولوجية التي ألهمت عدة أدباء كبودلير وفلوبير ورينان وستاندال،توسل بول بورجيه في دراساته حول علم النفس المعاصر بمصطلح العدمية (1885 وفي طبعات متكررة ومنقحة) لتحديد تمظهرات هذه النزعة بالمجتمع الأوروبي المعاصر قاطبة، رغم اختلاف حدتها وأسلوبها من مجتمع لآخر، لكنها تعبرعن الأعراض نفسها معلنة عن أشكال من السوداوية والاختلال، و النفور الكلي من نواقص هذا العالم . فكان لها أثر في وجدان شعوب كالسلافيين والجرمانيين واللاتينيين تجلت عند الاوائل في شكل نزعة عدمية وفي شكل نزعة من التشاؤم عند الألمانيين و على شكل أنماط غريبة وفريدة من العصاب لدى اللاتينيين. هكذا ربط بول بورجيه العدمية بالإنحطاط (بودلير) بالإنفعالية (رينان) بالرومانسية (فلوبير) والعلموية (تين).والنتيجة من عمل بورجيه هي أن العدمية ليست بالمذهب الفلسفي ولاهي بالنمط السيكولوجي .
أمام هذا التشعب الدلالي للمصطلح ستشكل قراءة نيتشه لأعمال بورجيه لحظة حاسمة في ما سيضفيه على العدمية من حمولة في نهاية 1880، وذلك بإعادة تركيب مجموع استعمالات المصطلح في القرن 19 بالقول:"ما سأرويه،هو تاريخ القرنين المقبلين. سوف أصف ما سيكون، وما لا يمكن تحاشي تكونه: انبثاق العدمية من الآن فصاعدا سيغدوا هذا التاريخ مسرودا لأن الضرورة نفسها ستتدخل في صنعه، هذا القادم يُنبئ عن نفسه مسبقا بمائة علامة،هذا المصير يعلن للكل، وكل الآذان مشدودة نحو هذه الموسيقى المستقبلية .الحضارة الأوربية برمتها تخبطت لمدة طويلة في حالة مزرية تزداد بروزا وتتجه صوب كارثة، مهولة، عنيفة، ووشيكة، إنها نهر يعود ناحثا مجراه من جديد، إنها حضارة لاتفكر أبدا، بل إنها ترتاب من التفكير".
لاتقتصر العدمية عند نيتشه إذن ، على تيار فلسفي أو حركة أدبية أوموقف سياسي محدد : إنها سمة تخص الحضارة الغربية نفسها أو لحظة من تاريخها، إنها لحظة موت الإله، وخلخلة القيم . إن العدمية ظاهرة أعاد الفكر من خلالها دراسة الثقافة الغربية والتاريخ برمته.وبهذه الحمولة النيتشوية ستغدو العدمية مقولة انطولوجية بامتياز.
نحت العدمية بعد نيتشه منحى آخر، في القرن العشرين عند مارتن هيدغر الذي رأى في تاريخ الميتافيزيقا منذ أفلاطون وصولا إلى الأزمنة الحديثة ،نسيانا للوجود ،وهيمنة للتمثل التقنوعلموي ، لهذا يقر في توصيفه للغرب العدمي على أن : "العدمية هي المسار الكوني لشعوب الأرض المنغمسة في مناخ سيادة الأزمنة الحديثة (التقنوعلموية)".
هكذا تسمح العدمية بتوصيف وقراءة القرن العشرين برمته، في نزوعه التدميري العسكري (الحربان العالميتان )والسياسي (الأنظمة الشمولية)، كما تساهم في إبراز الملامح الأكثر دلالة لهذه الحقبة .
بانتشار تدوالها الواسع النطاق، اكتسبت العدمية نضجا كافيا لولوج القواميس كمشكلة وموضوعة فلسفية قائمة الذات تستحق البحث.وبالعودة لفضاء النشأة نلفي إحالات دالة عليها قبل القرن التاسع عشر، لدى السوفسطائية اليونانية في القرنين 4و 5 ق.م ,وكذا الكلبية أوالريبية، كأنماط مبكرة لهذه النزعة . كما أن البحث أيضا في البودية ذات الأصول الهندية التي ألهمت عدمية أرثر شوبنهاور يكشف عن أصولها البعيدة أيضا.ومنه يمكن القول إنه بقدرما اتسعت دلالة المفهوم لتشمل كل أشكال السلب، الرفض، التمرد ، وإرادة الإبداع والتجديد في الآن نفسه بقدر ما أصبح من الأضداد هدم للتليد وخلق للجديد. وباختصار كل موقف نقدي يبحث عن الخلاص من الأطر التقليدية للجمال والحق والخير، لتصبح العدمية كمرادف للحديث والمعاصر.من هذا المنطلق استخدم الأديب الفرنسي ألبير كامي مصطلح العدمية للتعبير عن التمرد السياسي الذي دشنته الثورة الفرنسية (الإنسان الثائر1951).و في قاموس روبيرالكبير يحيل تحديدا، على كل أشكال السلب التي تطال: الدين، المعتقدات،القيم و السلط القائمة.
يتضح مما تقدم ، أن مصطلح العدمية رغم تشكل دلالته المعاصرة على مر قرنين من الزمن وفي سياقات معرفية وتاريخية وثقافية متباينة (دائرة فيخته، و حلقة فيينا، وباريس الثورية) فإنه لم يلق كبيرانتشار . بالمقابل نجد أن عالم الفردانية الديمقراطي المتسم بنسبيته وأنانيته وهوسه الأوحد بالمال وإشباع النزوات والخلط بين الجوهري والعرضي يتماشى تماما مع ما تم الإصطلاح عليه لما ينيف عن قرن بالنزعة العدمية . فهل مرد هذا الإهمال حتى من طرف أحد الفلاسفة المعاصرين مثل ألان فنكلكراوت (هزيمة الفكر 1987)يعزى إلى أنه أضحى مصطلحا يرشق به كل فريق الآخر باسم ما يعتقده كليهما عودة إلى القيم الحقيقية ؟
فروانسوا إوالد مؤرخ وفيلسوف فرنسي معاصر من أعماله : مبدأ الإحتياط
المرجع:
le magazine littéraire : octobre –novembre2006 hors-série n°10 p 7-10