صديقي العزيز، تقول إنك لا تستطيع فهم الأمر وأنا أصدقك. هل تعتقد أنني أفقد عقلي؟ ربما لكن لأسباب تختلف عما تتخيل.
نعم أنا سأتزوج وسأخبرك لماذا سأخطو هذه الخطوة.
بعد أن أُضيف أنني أعرف القليل فقط عن الفتاة التي ستصبح زوجتي غدا؛ رأيتها لأربع أو خمس مرات. أعرف ألا شيء يعيبها وهذا يكفيني لغرض الزواج منها. هي فتاة قصيرة وبيضاء وسمينة، وبعد غد، بالتأكيد، سأتمنى لو كانت طويلة وسمراء ورشيقة. تنتمي الى الطبقة المتوسطة، أي ليست غنية، هي فتاة عادية مناسبة للزواج لا عيوب ظاهرة ولا مواصفات مميزة.
يقول الناس عنها اليوم: "الانسة "لاجول" انسة لطيفة للغاية"، وسيقولون غدا: " مدام "رايمون" امرأة لطيفة للغاية". هي واحدة من الكثيرات اللواتي يفتخر أي شخص بالحصول على واحدة منهن كزوجة، حتى تأتي اللحظة التي يكتشف فيها أنه يفضل جميع النساء على تلك الواحدة التي تزوج منها.
حسنا، ستقول ما الذي يجعلك تقدم على هذا الزواج إذن؟
من الصعب قول إن السبب الغريب والغير متوقع، والذي يحثني على القيام بهذا العمل الذي لا معنى له، هو انني أخاف من البقاء بمفردي.
لا أعرف كيف أخبرك أو أجعلك تفهمني، أفكاري بائسة للغاية، مما سيجعلك تشفق على حالتي وتسخر مني. لا أرغب في أن أبقى وحيدا في الليل بعد الآن، أحتاج لأن أشعر بوجود أحدهم قربي، كائن يستطيع التكلم والحديث عن أي شيء مهما كان. أود أن أُوقظ شخص ينام الى جانبي لأسأل أسئلة مفاجئة أو أسئلة غبية، وإذا شعرت بإحباط أستطيع سماع صوت انسان وأشعر بوجود روح حية لشخص راشد الى جانبي، وحين أشعل الشمعة على عجالة أرى وجه انسان بجانبي – لأنني – لأنني – أشعر بالخجل أن أعترف – لأنني أخشى البقاء لوحدي.
لم تفهمني بعد!
أنا لستُ خائفا من أي خطر، إذا ما دخل رجل الى غرفتي سأقتله بدون أن ارتجف. ولا أخاف من الاشباح، أنا لا أؤمن بالقوى الخارقة. ولا أخاف من الأموات حيث أنني أؤمن بزوال أي مخلوق من على وجه الأرض بعد موته.
حسناً، وجب القول إنني أخاف من نفسي، أخاف من شعور مفزع، الشعور بخطر غير مفهوم.
بإمكانك الضحك أن أردت ذلك، أنه أمر رهيب ولا أستطيع التخلص منه. أنا أخشى من الجدران والاثاث ومن كل الأشياء المألوفة المتحركة، بنفس القدر الذي أخشى فيه من الحياة الحيوانية. وعلاوة على ذلك، فأنا أخشى من أفكاري المرعبة وأسبابي التي تبدوا وكأنها على وشك أن تتخلى عني وكأنما قد رحلت بعيدا بالآلام غامضة وخفية.
في البداية أنا اشعر بعدم ارتياح غامض في رأسي والذي يسبب لي الارتجاف والذي يسري في جميع انحاء جسدي. أنظر من حولي ولا أرى شيء غريب بالطبع، لكني أتمنى لو كان هنالك شيء فعلا مهما كان، طالما أن هناك شيء ملموس. أنا مرعوب فقط لأنني لا افهم سبب خوفي.
أنا أخاف من صوتي إذا تكلمت. وإذا مشيت أخاف من شيء لا أعلمه، قد يكون خلف الباب أو خلف الستائر أو في الأدراج أو تحت السرير، ومع أني أعلم بعدم وجود شيء في أي مكان، فأنا أستدير فجأة لأنني أخاف من وجود شيء خلفي مع علمي أنه لا يوجد شيء خلفي.
أصبحت مرتبك وخوفي يتزايد ولهذا أغلق على نفسي في غرفتي وأتوجه الى سريري واختبئ تحت الشراشف وأنكمش على نفسي وأتكور وأغلق عيني في يأس وأبقى على هذا الوضع لفترة غير محددة من ثم أتذكر أن الشمعة لا تزال مُوقدة الى جانب السرير ووجب عليه إخراجها ولا أجرؤ على ذلك.
إنه أمر فظيع جدا أن يكون المرء على هذا الحال، أليس كذلك؟
لم أشعر بشيء مثل هذا مسبقا، كنت أرجع الى المنزل هادئا تماما وأتجول في شقتي من دون أن يعكر أي شيء مزاجي الصافي. وإذا أخبرني أي شخص باحتمالية ان يهاجمني مرض ما، وكان هذا من المخاوف المحتملة- ولا يمكنني أن أطلق عليه سوى مرض غبي ومرعب، كنت لضحكت في حينها. بالتأكيد أنا لا أخاف من فتح الباب في الظلام. وأذهب ببطيء الى سريري من دون أن أغلق الباب ولا أنهض مطلقا في منتصف الليل للاطمئنان أن كل شيء مغلق بإحكام.
بدأ الأمر في السنة الماضية في وضع غريب للغاية في مساءٍ خريفي رطب. عندما غادر خادمي الغرفة، بعدما تناولت طعام العشاء، سـألت نفسي ما الذي سأقوم به. صعدت إلى غرفتي ونزلت منها عدة مرات، أشعر بالتعب من دون أي سبب واضح، ولا قدرة لي على العمل، ولا حتى طاقة للقراءة. كانت تمطر مطرا خفيفا ولم أكن سعيداً، كنتُ فريسة لنوبة من نوبات الكآبة التي تجعلنا نميل للبكاء بدون أي سبب واضح أو للحديث مع أي شخص كان للتخلص من أفكارنا المحبطة.
شعرت بالوحدة وبدت لي غرفتي وكأنها فارغة أكثر من أي وقت مضى. كنتُ وسط عزلة مربكة ولا متناهية. ما الذي يجب أن أفعله؟ جلست، لكن يبدو أن قدماي قد أصابها نوع من الهلع العصبي، لذلك وقفت مرة ثانية وبدأت أمشي من جديد. ربما كانت حرارتي مرتفعة نوعاً ما، ذلك أنني كنتُ أشبك يدي خلف ظهري، كما يفعل المرء غالبا عندما يسير ببطيء، وكانتا تحرقان إحداهما الأخرى. ومن ثم سَرَت رجفة باردة مفاجئة إلى أسفل ظهري واعتقدت أن الهواء الرطب قد تخلل إلى الغرف. لكن عاجلا ما شعرت بأنني لا أستطيع البقاء هادئا فوقفت مجددا وقررت الخروج، لأستجمع قواي وأعثر على صديق يرافقني. قد لا أتمكن من العثور على صديق، لذا سرتُ إلى الشارع في محاولة للالتقاء بأحد المعارف أو آخرين هناك.
كان الطقس تعيساً وكانت الأرصفة الرطبة تتلألأ تحت ضوء المصباح، بينما كان الدفء الثقيل للمطر الذي بالكاد أشعر به يُلقي بثقله على الشوارع ويبدو أنه يحجب ضوء المصابيح.
مشيت ببطيء وأنا أقول لنفسي:" سأجد روح أتحدث إليها".
ألقيتُ نظرة على بضعة مقاهي، من مادلين إلى فوربورج باسونير، وشاهدت العديد من الأشخاص الذين لا تبدو عليهم السعادة، وهم يجلسون على الطاولات ويبدو عليهم أنهم لم تتبقى لديهم الطاقة الكافية لإنهاء المرطبات التي طلبوها.
كنت أتجول ذهاباً وإياباً من دون هدف لوقت طويل، وغادرت الى المنزل بحلول منتصف الليل. كنت متعبا وهادئا جدا، فتح حارس المبنى الباب بسرعة، ولم يكن معتادا على فتح الباب بسرعة، لذا اعتقدت أن مستأجرا آخر قد وصل للتو أيضا.
عادةَ ما أقفل باب غرفتي بالقفل مرتين عندما أخرج، لكن، عندما رجعت وجدت الباب بالكاد مغلق، وافترضت أن أحدهم كان قد جلب لي رسائل المساء. دخلت ووجدت نار التدفئة لا تزال مشتعلة وقد اضاءت الغرفة قليلا. وبينما كنت اتناول الشمعة لاحظت وجود شخص يجلس على الكرسي بجانب التدفئة يدفئ قدميه وظهره باتجاهي.
لم أكن خائفا مطلقا اعتقدت بصورة طبيعية أن صديقا أو أي شخص جاء لرؤيتي وأن البواب، وبلا شك، فتح له بمفتاحه بعدما قلت له أنني سأكون خارج المنزل. وبلحظة تذكرت كل ظروف عودتي وكيف أن البواب فتح باب الشارع لي بسرعة وأن بابي ليس مقفلا بمفتاح وإنما مغلقاً فقط.
لم أرَ أي شيء من صديقي سوى رأسه، كان قد نام بينما كان ينتظرني، لهذا ذهبت إليه لكي أوقظه. لقد رأيته بوضوح جدا كانت ذراعه اليمنى تتدلى وساقيه متعاكستين ورأسه مائل الى يسار الكرسي وهذا ما يشير، على ما يبدو، انه نائم. سألت نفسي: "من يكون؟". لا أستطيع الرؤية بوضوح كانت الغرفة مظلمة نوعا ما لهذا مددت يدي لكي ألمس كتفه، فلامست يدي الجزء الخلفي من الكرسي، ولم يكن هناك أحد وكان الكرسي فارغا.
قفزت بلحظة الى الخلف، خائفاً، وكأني أواجه خطر رهيب، ومن ثم استدرتُ مرة أخرى وكنت قد تسمّرت في مكاني، ألهثُ بخوف، ومرتبك جدا، لدرجة أنني لم أتمكن من تجميع أفكاري، وعلى وشك أن أفقد وعيي.
لكني رجل هادئ وسرعان ما تمالكت نفسي. وقلت لنفسي: "انها مجرد هلوسة، لا أكثر". وسرعان ما بدأت بالتصرف على هذا الأساس. تتلاشى الأفكار في مثل هذه اللحظات.
كنتُ أعاني من هلوسة، هذه حقيقة لا جدال فيها.
ذهني كان صافيا وكنتُ أتصرف بانتظام وبشكل منطقي، وعليه لم تكن هناك أي مشكل مع الدماغ.
إنها عيوني فقط، كانت تخدعني. كانت رؤية، واحدة من تلك الرؤى التي تجعل البسطاء يصدقون بالمعجزات. لقد كانت نوبة عصبية أٌصيب بها الجهاز البصري، لا أكثر، قد تكون عيوني محتقنه، ربما.
انحنيت الى الأسفل، الى النار لأشعل شمعتي، لاحظت في هذه الاثناء أنني ارتجف، فنهضتُ قافزاً كما لو أن أحدهم لمسني من الخلف.
بالتأكيد لم أكن هادئا ولا بأي شكل من الاشكال.
تمشيت صعودا ونزولا ودندنت بلحن أو اثنين. أغلقت الباب بالقفل مرتين وذلك لكي أشعر بالاطمئنان، الآن لن يتمكن أي أحد من الدخول بأية حال.
جلست مرة أخرى أفكر لوقت طويل بتجربتي المثيرة من ثم ذهبت الى السرير وأطفأت شمعتي.
مرت بضع دقائق، كان كل شيء على ما يرام. استلقيت على ظهري بهدوء، لكن طرأت لي رغبة غريبة لا تقاوم استولت علّي للنظر في أرجاء الغرفة لذا استدرتُ الى جانبي.
كانت النار قد شارفت على نهايتها، وعكست الجمرات القليلة المتوهجة ضوء خافت على الأرضية قرب الكرسي، حيث تخيلت، مرة أخرى، أن هناك رجلاً جالساً.
اشعلت عود ثقاب بسرعة، ولكنني كنت مخطئا، لم يكن هناك شيء. مع ذلك، قمت من مكاني ووضعت الكرسي خلف السرير وحاولت العودة الى النوم، بما أن الغرفة مظلمة الان. لكني لم أنسى نفسي لأكثر من خمس دقائق. حتى في الحلم، رأيت كل المشهد الذي حدث كاملا وبوضوح تماما كما لو كان حقيقة. استيقظت من جديد واشعلت الشمعة وجلست في السرير من دون أن اتجرأ على أن أحاول النوم مرة أخرى.
ومع ذلك غلبني النوم مرتين لدقائق معدودة، غصباً عني، وفي كلا المرتين حلمت بنفس الشيء حتى خُيّل لي أنني سأصاب بالجنون.
وعند بزوغ الفجر اعتقدت بأني شفيت ونمت بسلام حتى المساء. كل شيء انتهى وأصبح من الماضي. كنت منفعل جدا، لقد كان كابوس. لا أعرف ما كان بالضبط. كنتُ مريضا في الحقيقة. لكني حتى الان اعتقد بأنني كنت أحمق كبير.
كنتُ قد استمتعت بوقتي في تلك الليلة، حيث تناولت طعام العشاء في مطعم وبعدها ذهبت الى المسرح ومن ثم توجهت الى المنزل. لكن عندما اقتربت من المنزل تملكتني مشاعر غريبة من عدم الراحة. لم أكن أخشى أن أراه مجددا، ولم أكن أخشى منه، ولا من وجوده الذي لم أكن قد صدقته. لكنني أخشى أن أُخدع مرة أخرى. كنت أخشى من هلوسة جديدة، كنت أخشى من أن يتملكني الخوف.
تمشيت على الرصيف ذهابا وإيابا ولأكثر من ساعة. وشعرت بعدها انني أحمق جدا ولذا رجعت الى المنزل. كنت أتنفس بصعوبة لدرجة انني بالكاد صعدت السلم. وبقيت واقفا أمام الباب من الخارج لأكثر من عشر دقائق.
وبعدها فجأة انتابتني لحظة شجاعة وأثبتت الإرادة نفسها. فتحت الباب بالمفتاح ودخلت الشقة والشمعة بيدي، ركلت باب غرفة النوم لأفتحه، والذي كان مفتوحا بشكل جزئي، وجهت نظرة خائفة الى مكان التدفئة. لم يكن هناك شيء.
يااه! اشعر بالراحة والبهجة! أنه الخلاص!
ذرعت الغرفة ذهابا وإيابا، أمشي بخفة وجرأة لكني لم أكن مطمئنا تماما.
بقيت أتلفت حولي واقفز في كل مرة، كانت الظلال الخافتة في الزاوية تربكني.
كان نومي سيئا ومتقطعا باستمرار بسبب أصوات وهمية. لكني لم أراه، لا، ذلك الجزء كان قد انتهى.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أخشى ان أبقى وحدي ليلاً. أشعر بوجود الشبح هناك. قريب مني، حولي، لكنه لم يظهر لي مرة أخرى.
لكنه لا يزال يقلقني لأنني دائما ما أفكر فيه. يده المتدلية ورأسه المائل الى اليسار كرجل نائم- لا أريد أن أفكر بهذا،
لماذا برغم ذلك تتملكني هذه الفكرة باستمرار؟ قدميه بقرب نار التدفئة!
لقد تمكن مني، هذه فكرة غبية جدا، لكن من يكون وماذا يكون؟ أنا أعلم أنه غير موجود إلا في مخيلتي الجبانة، في مخاوفي، في معاناتي.
هناك-- ذلك يكفي!
نعم، أنه يناسبني جدا ولسبب في نفسي، وبعزيمة قوية، القول أنا لا أستطيع البقاء في المنزل لأنني أعلم انه هناك.
أعلم بأنني لن أراه ثانية: هو لن يُظهر نفسه مرة أخرى، أنتهى كل ذلك. لكنه هنا، برغم ذلك، موجود في أفكاري. هو غير مرئي، لكن هذا لا يمنع أنه هنا. هو خلف الأبواب، وفي الخزانات المغلقة، وتحت السرير، وفي كل زاوية مظلمة. إذا فتحت الأبواب أو الخزانة، وإذا أخذت الشمعة لأنظر تحت السرير، أو إذا وجهت الضوء الى الأماكن المعتمة، لن أراه، لكنني أشعر به يقف خلفي. أتلفت، ومع أنني متأكد من أني لن اراه مجدداً، لكنه لا يزال خلفي.
الأمر مخيف وغبي جدا، لكن ما الذي يجب أن أفعله؟ لا أستطيع تجاوز الأمر. لكن إذا كنا شخصين أثنين نعيش في المكان، انا متأكد من أنه لن يبقى لأنه هنا فقط لأنني وحيد. ببساطة، فقط لأنني وحيد!
Guy De Maupassant