التواصل؟ مسألة بديهية ونشاط عادي؛ إننا حيوانات تتواصل في اليقظة كما في بعض الأحلام أيضا. وكما نتواصل كلاميا نتواصل باستعمال الإشارات، والملامح المعبرة، والكتابات، وأنماط السلوك، وأشكال اللباس. ورغم أن الكثير من أنواع الحيوانات الأخرى تتواصل فلا نوع منها يعير التواصل نفس الاهتمام الذي نعيره إياه نحن، أو يملك قدرات مماثلة لما نملكه. كما لا نوع منها يستطيع أن يتواصل بمضامين على نفس القدر من الغنى والتعقيد مثلما نستطيع.
إننا نتواصل تلقائيا، وإن كنا نفكر فيما يُمَكّننا من التواصل، وبنسبة عالية جدا في معظم الأحيان، كما نتواصل بشكل قد تشوبه إخفاقات وتميزه محدودية. إننا لا نشرع في التفكير، بوعي، في الصعوبات والعراقيل التي تََحُول دون تمام التواصل إلا في حالات الفشل. أما في إذ ينجح تواصلنا فإننا ننظر إليه باعتباره أمرا عاديا، ولذلك لا يثير التساؤل.
ولكن، على هذه البداهة، كيف يكون التواصل ممكنا؟ إن هذا النشاط العادي الذي نمارسه بكل سهولة يبقى بالنسبة للمُنَظر، أو عالم النفس، أو اللساني من الأمور التي تستعصي على التحليل؛ إن السهولة التي نتواصل بها قد تُخفي وراءها مشكل التفسير الذي تطرحه هذه السهولة ذاتها؛ ففيم يتمثل هذا المشكل؟ الجواب أنه عندما نتواصل تكون لدينا فكرة، فإذا أفلحنا في التواصل فهذا يعني أنه قد اصبحت لمستمعينا فكرة أيضا، فإن لم تكن هي فكرتنا بالضبط، ففي جميع الأحوال مماثلة لها بالتقريب، أو هي نسخة للفكرة التي أردنا إيصالها إليهم. إن الافكار كائنات تتولد في الذهن، وفيه تَحيَى وتموت، ولأجله لا تَبْرَحه أبدا، لأنها حالات ذهنية تتبلور في الدماغ، وليست موضوعات أو خصائص تابعة للمحيط أو البيئة المشتركة بين الكائنات البشرية.
وإذن، كيف يكون متأتيا لنا أن نَنقل إلى الآخر، أو نقاسمه، شيئا كائنا في دماغنا وليس يمكن له أن يفارقه؟
يمكن الحديث بخصوص هذا الإشكال عن نظرية غاية في البساطة، نظرية تبدو قادرة على تفسير إمكانيات قيام التواصل؛ ويمكن أن نطلق على النموذج الممثل لها: " نموذج السَّنَن" حيث الأمر يتعلق بالتصور التالي: إن ما يُمَكن من تقاسم الأفكار رغم كونها كيانات ذهنية–جوانية هو امتلاكنا لسَنَن )قانون( مشترك. ولكن ما هو السنن؟ إنه ببساطة نسق يُمَكن من قرن معنى بعبارة، رغم اتسام هذا المعنى بطابع تجريدي لارتباطه بالذهن، بينما تتسم العبارة بطابع مادي لكونها لا ترتبط بالذهن وإنما بما هو مادي خارجي؛ أو بصيغة أخرى قرن رسالة داخلية تتعلق بمفهوم بإشارة خارجية تتعلق بالأصوات التي تبث آن الخطاب. فإذا كنا نمتلك سَنَنا، ويمكن التمثيل له بلائحة من الأزواج في حالة كون السَّنن بسيطا، أو بنحو إذا تعلق الأمر بسنن أكثر تركيبا وتعقيدا، يُمَكن، هذا السنن، من ربط كل معنى نريد إبلاغه بعبارة تدل عليه، وبالعكس ربط كل عبارة بمعنى يصبح مرتبطا بها، فإنه يمكن لكل مرسِل يريد إبلاغ معنى أن يختار العبارة التي تتناسب وهذا المعنى، ويرسلها في المحيط المشترك المتقاسم مع المرسَل إليه الذي يمكنه، لامتلاكه نفس السنن، أن يتعرف العبارة، ويجد لها المعنى الذي يناسبها في النسق الذي تنتمي إليه أو في الذاكرة. هكذا، إذن، سينتقل المعنى أو الفكرة من مرسِل إلى مرسَل إليه.
بناء عليه يمكن تلخيص نموذج السنن في الأطروحات الثلاث التالية:
1- يُمَكن السَّنَن من قَرن معنى بعبارة وعبارة بمعنى.
2- الألسُن الإنسانية أَََسنُن.
3- يعمل المتكلم على تسنين المعنى الذي يريد إبلاغه عن طريق قرنه بعبارة تصلح له، ويعمل المستمع على حل هذه العبارة ليدرك المعنى المراد.
والملاحَظ أن ما يعمل هذا النموذج على تفسيره هو كيفية إنتاج التواصل، وذلك ما يمكن توسيعه لينسحب على التواصل الحيواني غير الإنساني أيضا.
ولكن أتتوفر ل "نموذج السنن" سمة الكفاية في تفسير التواصل الإنساني؟ إن الإشكالية التي يمثلها هذا السؤال هي، بالتأكيد، ما تم الاهتمام به منذ أرسطو إلى السيميائيات المعاصرة.
وبعد كل هذا فإن الإنسان يمتلك أغنى الأسنن التي يُتوسل بها للتواصل مع الآخرين، وليست هذه الأسنن إلا الألسن البشرية.
إنني لا أجادل بشأن كون الألسن أسننا، فهي كذلك، ولكنه إذ يتعلق الأمر بالتواصل الإنساني فإن نموذج السنن لا يُقرر بأن هذه الألسن أسنن وحسب، ولكنها أسنن تُمَكن بشكل جيد، وبطريقة مظبوطة من تسنين كل المعاني التي نريد إبلاغها.
استنادا إلى هذا النموذج، فإنه بينما يُعنى المتكلم بتسنين المعنى الذي يريد إبلاغه بوساطة جملة ما فإن المخاطب يُعنى بتفكيك وحل هذه الجملة لاكتشاف المعنى المراد إبلاغه إليه. فما الذي يجعل، إذن، هذا النموذج مَوضع تساؤل فيما يتعلق بقدرته التفسيرية؟ ألم يستطع أن يقدم تفسيرا جيدا للتواصل الإنساني بالاستناد إلى إجراءي الحل والعقد اللذين رغم بساطتهما فإنهما لا يفتقران إلى الوضوح ؟ ففيم يتمثل المشكل إذن؟
إن مشكل القصور الذي يعتري نموذج السنن يرتبط بمسألة أنه رغم كون جمل لسان ما غنية بالمعنى اللساني فإنها لا تدل إلا بشكل ناقص ودائم الالتباس وعدم التمام بالقياس إلى المعنى المقصود للمتكلم، والواضح أن المعنى اللساني لا يُحَدد إلا بشكل جزئي قصد المتكلم.
لنتابع الحوار التالي بين علي وزينب:
علي: أبــإمكانك أن تسافري معي؟
زينب: إن لدي ما هو أولى.
إن الملاحَط هو أن زينب قد ردت بجواب لا يتلاءم ظاهريا مع سؤال علي، فالمعنى اللساني لكلامها هو أن لديها أمورا تحظى بالأولوية بالقياس إلى السفر، ولا يعني كلامها لسانيا غير هذا. إلا أنه باعتبار السياق الذي ورد فيه كلام زينب نستطيع أن ندرك أن المقصود من الكلام ليس هو الإخبار؛ (إخبار علي بأن لزينب ما يحظى بالأولوية) ولكن هو رفض الاقتراح الذي يتضمنه السؤال، وهو ما سِيق بطريق التضمين في كلام زينب. إن المعنى المقصود أغنى وأكثر مما قيل فيما تم تسنينه لسانيا إذن.
وعليه، فالمعنى اللساني سيكون مختلفا عن المعنى المقصود، وغالبا ما يكون الاختلاف كبيرا. وعليه، رغم أن اللسان يُمَكن من قرن أصوات بمعان لسانية، فإن المقاربة السننية تبقى قاصرة عن تفسير كيفية تواصلنا بواسطة اللغة حيث المعنى كثيف وغني ومعقد.
إن ما نصل إليه من خلال تفكيك العبارات ليس إلا مظهرا من مظاهر الفهم، لأن ما يتم إنتاجه في التواصل أكبر من أن تستوعبه البنيات اللسانية، وهو الأمر الذي يستدعي تدخل سيرورة استنتاجية تتجاوز مجرد عمليتي العقد والحل الآليتين. وهكذا فإن المستمع، إذن، لا يكتفي بتحليل المعنى اللساني للقول، بل يُطَعمه بعملية استدلال يستنتج من خلالها قصد المتكلم استنادا إلى عاملين اثنين: العامل اللساني من جهة والسياق من جهة أخرى.
ولكن، إذا كان الاستنتاج مفهوما إجرائيا فعالا فما المقصود به؟ إن الاستنتاج كلمة نستعملها في علم النفس، خاصة، بمعنى قريب جدا من الاستدلال أو التفكير. فلماذا لا نكتفي، وببساطة، بكلمة استدلال؟ الجواب أنه عندما ننظر إلى الاستدلال فإننا ننظر إليه باعتباره فعلا تأمليا واعيا، بينما برهن علم النفس الإدراكي (المعرفي) على أن الاستنتاج سيرورات عقلية شبيهة بالاستدلال، ولكنها تحدث تلقائيا وبطريقة أوتوماتيكية لا واعية بشكل كبير، تعمل على جميع المستويات، سواء على مستوى الإدراك، أو على مستوى التخطيط الحركي، أو على مستوى فهم الآخر، خاصة إذ يتعلق الأمر بالفهم الكلامي. فالاستنتاج سيرورة تنطلق من مقدمات (فرضيات) لتصل إلى نتيجة. و بهذا المعنى تشتغل باعتبارها استدلالا، وإن كان تلقائيا لا واعيا. فالمعنى اللساني لقول ز ينب :"إن لدي ما هو أولى" لا يتم الوقوف عنده، بل إنه لا يتبادر للذهن حتى. فبمجرد تَلَقيه نشرع في الاستدلال على المعنى المرتبط بالسياق، وهو رفض الاقتراح؛ ويكون هذا النشاط استتنتاجا لأنه لا يرتبط بمقول زينب فحسب، وإنما به مجتمعا إلى السياق. فكيف تشتغل السيرورة الاستنتاجية إذن؟
بهذا الصدد سنشير، فقط، إلى أنه أثناء سيرورة الفهم الاستنتاجي، حيث يتم الانطلاق من المعنى اللساني إلى المعنى المقصود بإدخال السياق، يكون المستمع مُوَجَّها بما يقتضيه الحال، أي بما تقتصيه الملاءمة الإفادية، وهي الفكرة التي عملنا على بَلورتها صحبة ديردر ويلسون Dierder Wilson في كتابنا: "الملاءمة الإفادية، سؤال التواصل والإدراك" الصادر عن دار مينوي Minuit للنشر 1989، حيث التفاصيل تهم التخاطبيين، وهو ما أصبح، فيما بعد، مبحثا اسمه : التداوليات.
هكذا، فمن أجل فهم زينب يوظف علي، كمقدمة، في هذه السيرورة الاستنتاجية الأوتوماتيكية اللاواعية المعنى اللساني ل "إن لدي ما هو أولى" من جهة والسياق من جهة أخرى. ويحتمل هذا السياق عدة حيثيات، ومنها على الأخص كون قول زينب ورد جوابا على اقتراح علي مرافقتها له في السفر . فالسياق لا يمكن اختزاله، وبكل بساطة، إلى سياق فوري ملحوظ، بل يتسع ليشمل أيضا المعارف الخلفية، والعامة، والثقافية. وهكذا نجد في ثقافتنا، أنه في موقف مثل هذا، لا يمكن أن نرفض دعوة أخوية دون سَوق مبررات لذلك. لذا فمن حق علي أن يتوقع تفسيرا للرفض إذا حصل. وأخيرا، وهذه أيضا معرفة سياقية جد عامة، فإننا نعرف أن الأمور التي تحظى بالأولوية هي التي ينبغي القيام بها قبل سواها مما هو أقل أهمية. وإذن، فَلنُسلم بأن قول زينب يتلاءم والسياق الذي أُنتج فيه، فعلي يعمل على إغناء المعنى اللساني وتحديده، كما يعمل أيضا على إتمامه ليفهم بأن القول: "إن لدي ما هو أولى" لا يعني فقط بأن لزينب ما هو أول ، ولكن بأنه يتعين عليها أن تقوم به، ليصل إلى أنها لا تستطيع أن ترافقه في سفره، وهو المعنى المقصود الذي سِيق له بطريق التضمين. وهكذا يتبين أن ما قالته زينب يشكل سببا لرفضها الاقتراح، وبالتالي اعتذارها، ضمنيا، عن هذا الرفض. وبهذا الفهم يكون قول زينب ردا على اقتراح علي، وبالتالي تتحقق له سمة الملاءمة السياقية، ويكون القول مفيدا. والملاحظ أنه في هذا النوع من الحوارات التي اخترتها قصدا، لبساطتها ذاتها، يفهم المستمع دفعة واحدة المعنى المقصود الثري والمعقد جدا من المعنى المسنن لسانيا بواسطة القول (الملفوظ) بتشغيل آليتين في نفس الوقت؛ الأولى لسانية والثانية استنتاجية، ويحدث ذلك بسرعة تتماشى مع سرعة الكلام.
وإذا كان الأمر كذلك فهل سيتم ترك نموذج السنن جانبا أم فقط العمل على مراجعته؟ الجواب أنه حيث كان بناء نموذج السنن والعمل به يعود إلى اليونان القديمة، ويُكَوِّن جزءا مما درجت عليه عقولنا، فإن المَهَمة ستتمثل في الاكتفاء بمراجعته عوض الانصراف عنه كليا، وهو ما ينم عن محافظة نظرية جد عادية.
ولكن كيف سيكون بإمكاننا مراجعة هذا النموذج مع الاحتفاظ بأطروحتيه الأولى والثانية بينما نعمل على تعديل الثالثة؟
من الآن فصاعدا نقرر ما يلي: (التغيرات مشار إليها بأحرف مائلة)
1- يُمَكِّن تسنين ما من قَرن معنى بعبارة وعبارة بمعنى.
2- الألسن الإنسانية أَسنُن.
3- يُمكن للمتكلم أن يُسَنِّن المعنى الذي يريد إبلاغه بواسطة عبارة يمكن للمستمع أن يفككها ليتعرف على المعنى المقصود، ورغم ذلك يمكن للمتكلم أن يقتصر على تسنين جزئي للمعنى المراد ويترك للمخاطب مَهَمة الكشف عن بعض الحيثيات غير المسننة عن طريق استنتاجها استنادا إلى المعنى اللساني و إلى السياق.
إننا نتفاهم مع بعضنا بشكل لا بأس به، كما نملك، أيضا، نسبة لا بأس بها من الذكاء تُمَكِّننا من التواصل بخطابات موجزة، خطابات يتمثل الدور الذي ستضطلع به السيرورات الاستنتاجية فيها، بحسب نموذج السنن المراجع، في تفكيك هذه الخطابات، فهناك حالات لا تستدعي قول كل شيء لكي يحصل الفهم، فزينب، مثلا، ليست في حاجة إلى أن تقول: "إن لدي أمورا مهمة جدا"، وتتحدث عن هذه الأمور، وتبين أن إنجازها يقتضي وقتا، وأنها إذا سافرت مع علي ستكون قد أخَلّت بالوجب، وهلم جرا. إنه يكفيها أن تقول: "إن لدي ما هو أولى" ليدرك علي قصدها. وهكذا فإن الاستنتاج سيؤدي، إذن وظيفة الاقتصاد في الجهد.
إن هذه الاستراتيجية المحافظة المراجعة لنموذج السنن تدعو إلى الشك. فلكي نشغل نموذج السنن المراجع سنكون ملزمين بإتمامه عن طريق وصف السيرورات الاستنتاجية التي تُمَكن من الانتقال من الدلالة اللسانية والسياق إلى المعنى المقصود.
فليس كاف بشكل واضح أن نقول: إننا أذكياء بحيث نستطيع أن نفهم من نصف كلمة، بل لابد من وصف السيرورات التي تُمَكّن من الفهم التام لرسالة مسننة بشكل جزئي فقط، فبدون هذا المكون الاستنتاجي المبلور لا يمكن أن يشتغل نموذج السنن المراجع. وحيث يكون الأمر كذلك، فأثناء اكتشاف ووصف ميكانيزمات الإدراك نستحضر، بالتأكيد، السيرورات التي تُمَكن من تفسير التواصل بطريقة مستقلة نسبيا عن إجراء التسنين.
إننا، بالفعل، ثلة من الذين يبحثون عن قلب(عكس) العلاقة بين عملية الحل السننية وعملية الاستنتاج، ونتنبأ بنموذج آخر للنظر في قضايا التواصل، وهو ما سيكون بإمكاننا أن نطلق عليه: "نموذج الاستنتاج" في مقابل "نموذج السنن".
استنادا إلى هذا النموذج فإن المرسِل ينتج إشارة للمعنى المقصود، إشارة يمكن أن تكون لسانية أو غير لسانية، مسننة أو غير مسننة، لأننا نتواصل، أولا و قبل كل شيء، لا عن طريق الكلام وحسب، ولكن أيضا بواسطة إيماءات، وبرفع الأصابع، وبحركات تواضعية أو مرتجلة، يمكن أن نتوصل بسلوكات نمطية (مُقَولبة)، ونتواصل، فضلا عن ذلك، بسلوكات جديدة لا يمكن تبَيُّنها من خلال أي سنن قبلي. ورغم ذلك فإنها تؤشر لما نريد أن ننقله إلى الآخر. (سأورد بخصوص هذا بعض الأمثلة بعد قليل).
بالتأكيد، هناك من جملة هذه الإشارات الإشارات اللسانية، فقول ما هو إشارة، إشارة كثيفة بشكل خاص، غنية ومحددة، ولكنها فقط إشارة للمعنى المراد من قبل المتكلم، وليست المقصود في حد ذاته. إن المخاطَب يستنتج المعنى المراد انطلاقا من الإشارة المعطاة ومن السياق، سواء كانت هذه الإشارة مسننة أو غير مسننة، لسانية أو غير لسانية. فأن يترك المرسِل حيزا هاما من المسؤولية الاستنتاجية للمرسَل إليه فهذا لا يعني أنه امتنع (و ليس تقاعس) عن تسنين كل الحيثيات. على النقيض من ذلك فإن الأسنن الإنسانية غنية بحيث لا يجوز مقارنتها بأسنن باقي الحيوانات الأخرى، فليس لهذه الأسنن لا صفة الاكتمال (التمام)- بالمقارنة مع الرسائل الممكنة - ولا طابع التواطؤ الذي يسم الأسنن الإنسانية. فالأسنن الإنسانية تتميز دائما بالالتباس وعدم التمام، ولا تمكن أبدا من تسنين تام لما نريد قوله. هذه، على الأقل، هي فرضية النموذج الاستنتاجي للتواصل الإنساني التي يمكن اختصارها في ثلاث أطروحات:
1- ينتج المرسِل إشارة للمعنى المقصود.
2- يسنتج المرسَل إليه المعنى المقصود انطلاقا من الإشارة المقدمة ومن السياق.
3- إن قولا لسانيا ما إشارة مركبة من المعنى المراد من قبل المتكلم وليس تسنينا للمعنى المقصود.
وإذ يتقرر أن نموذج الاستنتاج ينبني على هذه الأطروحات الثلاث، فكيف يتأتى لمسقبل فعل تواصلي أن يعيد تأليف قصد المرسِل استنادا إلى الإشارات المقدمة له وإلى السياق؟ ما القدرة النفسية التي يتم تشغيلها لأجل ذلك؟ إن الفرضية التي أود أن أقدمها بخصوص ذلك تتجلى في أن الفهم الاستنتاجي يصبح ممكنا بواسطة قدرة نفسية تختص بها الكائنات البشرية، وهي قدرة تُمَكّنها من أن تتمثل ذهنيا تمثلات الآخرين الذهنية، ويمكن أن نطلق عليها اسم القدرة الميتا-تمثلية حيث الميتا-تمثل هو تمثل التمثل.
بالفعل، فالناس علماء نفس بالتلقائية، لكونهم دائمي الانتباه إلى الحالات الذهنية للآخرين، إن قليلا أو كثيرا. ولهذا فهم يتميزون عن كل الأنواع الحيوانية الأخرى. فمن الممكن، مثلا، أن تكون لأقرب الأقرباء إلينا -أذكى القردة- درجة دنيا من القدرة الميتا-تمثلية، أي القدرة على إدراك حالات عقلية لأفراد من نوعها، كالنوايا والاعتقادات. ولكن رغم وجود مثل هذه القدرة لدى هذا النوع من القردة، وهي الفكرة التي ما تزال موضع جدال، فإنها تبقى متخلفة جذريا بالقياس إلى القدرة الإنسانية. فليس هناك، بالنسبة إلينا نحن الكائنات البشرية، ما هو أكثر تلقائية وأوتوماتيكية وثباتا من مسألة أن ننظر إلى بعضنا باعتبارنا مدفوعين برغبات، أو تخوفات، أو فرضيات، أو اعتقادات، أو حالات ذهنية أخرى على اختلاف أنواعها.
تُرى ما وظيفة هذه القدرة على تمثل التمثلات؟ إن عدم امتلاك الأنواع الحيوانية غير البشرية لهذه القدرة يجعلها تنظر إلى سلوكات غيرها لا باعتبارها أفعالا توجهها حالات عقلية، بل باعتبارها حركات جسدية فطرية فحسب، بينما نجد القدرة الميتا-تمثلية تُمَكن من فهم هذه الحركات باعتبارها تحكمها نوايا، وتوجهها معارف. وهكذا نستطيع أن ندرك سلوك الآخر ونتنبأ به بشكل أفضل. إن هذه القوة التنبّؤية تُغني إمكانيات التعاون مع الآخر، أو تحفظها من التلاشي، أو تستغلها حتى. فالوظيفة الأولى للقدرة الميتا-تمثلية تكمن في إتاحة قدر كبير من الغنى للتفاعلات بين أفراد النوع الإنساني. ومع ذلك، وهذا ما سأعمل على توضيحه، فرغم كون الوظيفة الأولى للقدرة القدرة الميتا-تمثلية تتمثل في ذلك، فإنها تجعل التواصل الاستنتاجي ممكنا حتى في غياب اللغة.
لنعد إلى الوراء لخمسة آلاف سنة 5000، ولنتصور بأن أجدادنا الأوائل الذين لم يكونوا قد استووا بعد كائنات بشرية، أو حتى قريبة من البشريةencore sapiens) homo pas (كانوا يمتلكون ،منذئذ، قدرة تمثلية، لكن لا تتعلق باللغة بعد. ولنلاحظ سلوك اثنين منهم. وليكونا علي وزينب. بينما علي في الكوخ، تنطلق زينب نحو الغابة المجاورة، تصل، تقف عند شجرة تتدلى منها الثمار، تقطف ثمرة لتأكلها، وبمجرد أن تعض عليها تحس بمرارة شديدة، فتتقزز لذلك، وتبصقها. لا شك أن سلوكي التقزز والبصق هذين ينطويان على نوع من الرفض، وهو رفض يتوصل إليه علي عن طريق قدرته التمثلية ليستنتج من خلال ذلك أن ثمار تلك الشجرة غير قابلة للأكل، وذلك ما لا يمكن اعتباره تواصلا لأن زينب لا تعلم أن عليا يراها، ولكن رغم ذلك فالفكرة التي توصلت إليها زينب قد انتقلت إليه عن طريق قدرته على التمثل.
ولنتصور، الآن، أن القصة قد تمت بشكل مغاير، حيث الجديد فيها أن زينب تعرف بأن عليا يراها، ولا تعرف ذلك فقط، ولكن تأمل في أن يراها أيضا، لأنها تريد أن تؤثر على حالاته الذهنية من خلال جعله يعتقد بأن ثمار هذه الشجرة غير صالحة للأكل. وعلى هذا النحو تكون هذه المرة قد قصدت إخباره )وهذا ما نسميه بالقصد الإخباري( بعدم قابلية الثمار للأكل. فكيف تم تحقق هذا القصد الإخباري لدى زينب؟ إنه هذا التحقق قد تم عن طريق تصرفها بطريقة تجعل عليا يعتقد بأنها تعتقد أن هذه الثمار غير صالحة للأكل.
وعليه، فالذي يهم ليس هو التواصل بمعناه الدقيق وإنما النقل القصدي للفكر.
ما الذي يقود زينب إلى الرغبة في التأثير هكذا على أفكار علي؟ كل شيء يرتبط بمعرفة ما إذا كانت زينب تُكِن له الخير أو الشر. فإذا كانت إنسانا خَيِّرا فبإمكانها أن ترغب في إخباره لتوفر عليه تجريب أكل هذه لثمار المُرة. أما إذا كانت شريرة فربما تريد من خلال ذلك احتكار هذه الثمار لتستأثر بها دونه، خاصة إذا كانت لذيذة جدا. فلأنها تعلم بأن عليا يراها تتظاهر بالتقزز من مذاقها، وتعمل على بصقها آملة في إيهام علي بأنها غير صالحة للأكل. وهكذا ففيما تكون إحساساتنا؛ الآهات، والبصر، واللمس، والشم، غير مستعدة لخداعنا، ولا تخدعنا قصدا، وإنما لعيب فيها، فإن النقل القصدي للفكر، وشكله الأساس طبعا هو التواصل، يؤدي إلى خداع الآخر مثلما يؤدي إلى إخباره.
ولنعقد القصة مرة أخرى؛
لقد أدرك علي أن زينب أرادت أن تكون مرئية من قِبله، وإذن فإنه قد أدرك قصدها الإخباري، ولكن كيف تَمَكن من ذلك؟ ربما أمكن له ذلك لأنه علم بأنها كانت تراه يراها، فأدرك بأنها لا تريد أن تعبر عن تقززها فقط، ولكن أن تؤثر على حالاته الذهنية أيضا. فكيف يعمل التأثير الذي تريد زينب أن تمارسه عل علي فتجعله يدرك بأنه لأجل إخباره بما في صالحه تقززت وبصقت الفاكهة؟ إنه في حالة ما إذا كان علي يعتقد أن زينب تكن له الشر سيدرك بأنه تريد أن توهمه بأن الفاكهة غير قابلة للأكل، وعليه فلن تفلح في جعله يعتقد ذلك، أما إذا كان يعتقد بأنها تكن له الخير فإنها ستفلح في إقناعه بلا صلاحية الثمار للأكل، وتجعله، بالتالي، يعتقد ذلك.
ولنـزد الأمر تعقيدا أكثر؛
لنفترض أن زينب لا تريد أن تخبر عليا بأن الفاكهة غير قابلة للأكل، ولكنها تريد أيضا أن تخبره بأنها تريد أن تخبره، فهي لا تريد أن تكون مرئية من قبله فقط، بل أن يدرك بأنها تريد أن يراها. هناك طريقة بسيطة لتأمين تأويله هذا، وتتمثل في تبادل النظرات. وإذن فليس لزينب القصد إلى الإخبار بالدرجة الأولى، ولكن لها قصد من درجة ثانية؛ وهو إخباره بقصد القصد من الدرجة الأولى (الإخبار بلا صلاحية الثمار للأكل). في هذه الحالة سيكون محتوى القصد من الدرجة الثانية ميتا-تمثل من الدرجة الرابعة (ولكن لا مجال للدخول في التفاصيل). إنه في هذا المستوى من التفاعل، وفي هذا المستوى فقط، يظهر إلى الوجود كائن جديد تماما يدخل في تشكيل التواصل الإنساني بمعناه الدقيق.
فما دام أن زينب تجعل عليا يدرك بصراحة بأنها تريد إخباره بأمر ما. فليست هناك ضرورة قصوى للقيام بفعل يكون شاهدا على حالته الذهنية حتى في غياب القصد التواصلي. فبما أنها قد أظهرت، هذه المرة، قصدها إلى التأثير بصراحة على حالاته الذهنية فإنها يمكن أن تعطيه إشارة مباشرة لا تتعلق بمسألة كون الثمار غير صالحة للأكل، ولكن بقصدها الإخباري إلى جعل علي يدرك أن هذه الثمار كذلك. وعليه فعوض أن تأخذ الثمار في الواقع وتعمد إلى وضعها في فمها، وتمضغها، وتتذوق طعم المرارة، ثم تتقزز وتقوم ببصقها، يمكن أن تكتفي مثلا بالإيماء إلى ذلك.
وفرضا أن أجدادنا الأوائل كانوا يمتلكون، منذ القدم، بعض العلامات الصوتية، ومنها الأصوات الدالة على التعجب )واواواو...( فإنه يمكن لزينب في هذه الحالة أن تعرض الثمار أمام علي وتصيح : )واواواو...( ، فالتعجب )واواواو...( الذي يؤدي إلى إبلاغ كثير من الأشياء المختلفة في سياقات مختلفة سيتم تأويله من قِبَل علي، في هذا السياق الخاص، باعتباره إشارة لما تقصده زينب بسبب أنها أرادت إفهامه بأن هذه الثمار ليست طيبة، وبالتالي غير صالحة للأكل.
إن الذي يميز التواصل الإنساني هو أن القصد فيه مستويان: المستوى الأول يمثله القصد الإخباري، والمستوى الثاني يمثله القصد التواصلي الذي ليس إلا القصد الإخباري من مستوى عال. أي القصد إلى إخبار المتلقي بالقصد الإخباري الموجه إليه من قِبَل المرسل. فبِتَبَيّن المرسل لكونه مدفوعا بقصد إخباري يتأتى له أن ينقل معلومة إلى الآخر بوسائل رمزية )يمكن أن تكون لغوية، أو إيمائية، أو سلوكات مرتجلة( بمجرد أن يقدم هذا السلوك حقيقة إشارة لمراد المتكلم.
هكذا نجد أن هناك علاقة جوهرية تربط القصدين الإخباري والتواصلي بالمعنى المقصود للمتكلم، فليس هذا المعنى إلا مضمون القصد الإخباري الذي يشكل بدوره موضوعا للقصد التواصلي. ففي المَشاهد التي توقفنا عليعها )خلال المشهد الأول حيث زينب لا يهمها أن يراها علي( نجد أن لزينب القصد الإخباري المتمثل في جعل علي يدرك أن الثمار غير صالحة للأكل. أما في المشهد الأخير حيث لزينب القصد التواصلي أيضا )وحيث يمكنها رغم ذلك أن تكتفي بالإيماء( فإنه يمكن النظر إلى القصد الإخباري باعتباره ما تعنيه زينب، أي باعتباره المعنى المراد من فعلها التواصلي.
إن ما يؤلف مضمون قصد إخباري باعتباره معنى هو تحديدا كون هذا القصد الإخباري بدوره موضوعا لقصد إخباري من درجة عالية هو القصد التواصلي، إنه في الوقت الذي يريد أحد أن يخبر غيره بأمر ما متى يظهر إلى الوجود كائن جديد نسميه الدلالة.
ولنتصور أنه كانت لجدينا الأولين )علي وزينب( وكل أمثالهم، قدرات ميتا-تمثلية كافية لتشكيل قصود تواصلية، هل كانوا في حاجة إلى لغة؟ إن كل إشارة كانوا يستطيعون إعطاءها لقصدهم، وليس فقط اللسانية، كان بإمكانها أن تؤدي المَهَمة. ولكن لغة مثل اللغة الإنسانية كانت ستكون أفيد وأنفع بالنسبة لهذه الكائنات القادرة على استقبال وإدراك القصود التواصلية، لأنها تؤلف منهلا وخزانا لإشارات بالغة الغنى، ولأنها تُمَكّن من إعطاء إشارات محددة ومُفصلة للمعاني المقصودة والمعقدة بشكل لا متناه.
إن التواصل الإنساني لا يمثل إلا مظهرا ثانويا من مظاهر القدرة الإنسانية على إشراك الآخر في حالات ذهنية معينة؛ فالخاصية الأكثر تمييزا للكائنات البشرية عن الأنواع الحيوانية الأخرى المتقاربة معها ليست هي اللغـة كما نعتقد غالبا، مع أن اللغة تلعب دورا أساسيا في هـذا التمييز، وإنما هي القدرة الميتـا-تمثلية؛ فهذه القدرة هي التي تُمَكّن من قيام هذا النوع من التواصل الاستنتاجي الذي حُرمته الأنواع الحيوانية الأخرى. إنه آن تبلور التواصل الاستنتاجي تتبلور شروط تطور القدرات البيولوجية الأساسية لاكتساب اللغة لدى نوع من الأنواع ، وبالتالي تتطور لديه القدرة على اكتساب الألسنة.
إن الألسُن البشرية أَسْنُن لا نظير لها من حيث الغنى، ولكن يكتنفها، في ذات الآن، كثير من الالتباس، والغموض، والتلميح. لذا فهي لا تمثل وسائل جيدة للتواصل المسنن. إلا أنها بالمقابل تمنح التواصل الاستنتاجي غنى إشاريا خارقا. ولذات العلة فالألسن البشرية لا تجد وظيفتها إلا عند نوع قادر على التواصل استنتاجيا.
وهكذا فإن التواصل القائم على القدرة على إدراك الآخر باعتباره كائنا تُوَجّهه حالات ذهنية سيبقى متخلفا نسبيا إلى أن تظهر وتتطور الألسن البشرية.
بالتأكيد يكون التواصل الاستنتاجي ممكنا دون لغة، ولكن بفضل اللغة تتضاعف القدرة التعبيرية بصورة مدهشة. إن دور اللغة في التواصل حيث المراد هو إيصال المعنى المقصود هو أن تعمل على منح الإنسان مجموعة من الإشارات المختلفة والمركبة من هذا المعنى بشكل ثري جدا. أكرر مرة أخرى: إن دور اللغة ليس إلا هذا ، لا أقل من ذلك ولا أكثر.
دان سبيربر Dan Sperber