صدر عن دار النشر و التوزيع و الترجمة "جداول" ببيروت، مطلع سنة 2013 كتاب: "جدلية العلمنة. العقل و الدين"، مترجم من طرف د. حميد لشهب. قد يكون تاريخ 21 يناير 2001 توثيقا "لنهاية" الصراع بين "العلمانية" و الدين" في الغرب. ففي هذا التاريخ جلس على منصة إحدى أعرق الكنائس في ألمانيا الفيلسوف الألماني المشهور يورغن هابرماس إلى جانب الكاردينال الكاثوليكي راتسنغر (الذي أصبح بابا الكنيسة المسيحية)، ليعلنا أمام الملأ بأن المشكل ليس الدين و العلمانية، بل الإنسانية برمتها، لأن خطر مسحها من على خارطة الكوكب الأرضي هو خطر فعلي، و ليس خياليا، و بأن العدو الحقيقي بالنسبة للإثنين هو العلم التطبيقي، و بالخصوص البيولوجيا، التي أصبح بإمكانها "خلق" أو "صنع" الإنسان، بكل ما يتضمن ذلك من نتائج أخلاقية و إنسانية. شَخَّصَا معا إذن الخطر المحذق بالإنسانية و تمت "هدنة" بين العلمانية و الدين من أجل التصدي للعدو المشترك، مع العلم أن "المعركة" بين العلمانية و الدين لم تحسم و لم تنته، بل تم نوع من الإتفاق على وضع السلاح، إلى أجل غير مسمى. للإشارة فحتى في زمن احتدام الصراع بين العلمانية و الدين في أوروبا، و باستثناء التجربة الفرنسية العنيفة من الجانبين، فإن هذا الصراع كان في مجمله فكريا، و لربما اجتماعيا، أكثر منه نضالي دموي. و الحقيقة أن كبار الفلاسفة الغربيين في عصر الأنوار و العصر الحديث، و بالخصوص الجرمانيين منهم، اهتموا بجدية بموروثهم المسيحي و درسوه بعناية فائقة، قبل أن يأخذوا منه موقفا مناوئا أو مناصرا. و ينطبق هذا على كنط مثلا و على هيجل و ديكارت و غيرهم كثير.
استطاع الوعي الغربي المعاصر في شقيه العلماني و الكاثوليكي أن يصل إلى شيئين مهمين لم يسبق له أن وصل إليهما من قبل. من جهة إعادة النظر في العلاقة التي تجمع السلطة الدنيوية و السلطة الدينية و محاولة عقد هدنة بين الطرفين، لأن التحديات التي تواجه المجتمعات ما بعد الحديثة لا حصر لها. بات واضحا بأن الخطر الذي يداهم الإنسانية بفعل التطور العلمي قد يؤدي إلى القضاء على العنصر البشري إذا استمر تطور العلم بهذه الوثيرة. و الخوف من القضاء على الإنسان هو خوف واقعي، مادام العلم في تطوره لا يأخذ بعين الإعتبار هذه الإشكالية، بل فقط ما يمكن أن يصل إليه و لو كان ذلك على حساب الإنسان. و يعتبر الكثير من الفلاسفة و السوسيولوجيين و علماء الدين و السياسيين النتائج الإجتماعية للعلم خطرا على المجتمع. فهناك الإعتقاد بإمكانية مراقبة السلوك الإنساني - ميكانيكيا تقريبا- و توجيهه طبقا لمصالح معينة، و ينتج عن هذا نوع من القهر يمكن ممارسته باسم العلم في الميدان الإجتماعي.
إذا كان الوجه الساطع للعلم بعد انتشاره على نطاق واسع و إزالة هالة القدسية عليه و عدم احتكاره من طرف قلة قليلة يكمن في كونه قد أدى في الكثير من الأحيان و المواطن إلى التحرر و التقدم، فإن الوجه الآخر لميداليته هو التنامي المستمر لعدم الإستقرار الإجتماعي للأفراد و الشعور بالإحباط و القلق و عدم السعادة. هناك شيئان أساسيان يميزان المجتمعات الحديثة: إمكانية الجماعة المعينة اختيار مستقبلها بنفسها، و قابلية هذه الجماعة لتكسير نفسها بنفسها من الداخل. و لا ترجع هذه الهشاشة الداخلية، كما يؤكد على ذلك الملاحظون المحافظون، إلى كون هذه الجماعات تعيش في ديمقراطية ليبرالية، لكن لكونها مجتمعات موجهة توجيها علميا.
تحاول هذه الترجمة إذن توفير إمكانية رؤية واقعنا من أبعاد أربعة مختلفة في محاولة لتأسيس شيء جديد يمكنه أن يجنبنا خطرين: خطر التشبث الأعمى بالتراث و الدفاع الهستيري عنه، الصالح منه و غير الصالح؛ و خطر الإرتماء الأعمى في أحضان التجربة الغربية كتجربة فريدة من نوعها، استطاعت أن تؤسس ذاتها انطلاقا من مؤهلاتها الداخلية دون إغفال الموارد الغريبة عنها بما في ذلك الثقافة العربية الإسلامية. بعبارة أدق، ليس هناك تمجيد للتراث أو دحض له أو تمجيد للغرب أو رفض له، بل هناك دعوة لتجاوز مرحلة الخوف و الترقب إلى مرحلة الفعل و بناء شيء جديد بكامل الوعي بأن التاريخ لن يعيد نفسه و بأن مهمتنا الأساسية في العقود القادمة هي تهييء التربة الصالحة للأجيال القادمة من أجل تحمل مسؤولياتها الحضارية و الإندماج في العالم المعاصر عن وعي و عدم انتظار أن يندمج العالم فينا و بنا، ما دمنا لم نعد منذ قرون خلت أصحاب الريادة في هذا العالم.
نجد وضعا خاصا في العالم العربي، ابتداء من احتكاك المفكر العربي مباشرة بالثقافة الغربية، في عز السيطرة السياسية و الإقتصادية على كل الدول العربية. ذلك أن البعثات الطلابية إلى أوروبا، بقدر ما كانت إيجابية، بقدر ما كانت سلبية. من سلبياتها الأساسية هي ذاك النوع من الإنبهار أمام عالم الفكر الأوروبي، الذي كان قد قطع أشواطا كبيرة و طويلة في تطوره. فالحماس للعقل و لليبرالية و الحرية و العدالة الإجتماعية و العلوم الحقة إلخ، كانت توهم بحلم "عتق" الأمة العربية من براثين مشاكل كثيرة. لكن كان في هذا الحماس نوع من السذاجة، لأن المرء كان يعتقد أن هذه الأفكار، التي كانت تُلقن في مدرجات الجامعات، هي ما يعيشه الناس في الواقع الإجتماعي الفعلي في الغرب الأوروبي. زد على ذاك، أن طلاب البعثات هذه، لم يهضموا بما فيه الكفاية ما كانوا يتلقونه من أساتذتهم، بل لم يعوا حتى بأن ما يوصلونه لهم قد عرف تاريخا طويلا لبلورته فكريا.
إلى جانب رواد البعثات الطلابية، كان هناك شيوخ و فقهاء في العالم العربي، حاولوا "تأصيل" الحرية و العدالة و العلمانية إلخ في الإسلام، كوسيلة لتحرير الأرض بداية و "الإستيلاء" على السلطة أخيرا. و هذا ما حصل في الكثير من الدول العربية. و بدأ الصراع بين ممثلي العلمانية على النمط الغربي و ممثلي الإلتصاق بالتراث (بالدين)، إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه حاليا: تمزيق المناظرة العلمية و فتح الباب على مصراعية للإقتتال الفعلي و محاولة تصفية الآخر، كل بطريقته و مرجعياته.
السؤال الذي يجب أن يقلق راحة كل مفكر عربي يستحق هذا الإسم هو هل يعي "العلماني" العربي ما يدافع عنه من أفكار و لماذا تُهرق دماء عربية طيبة باسم منظومة فكرية؟ هل يعي "المسلم الملتزم" دينه، أو يلوك و يقاتل و يَقتل و يُقتل من أجل أيديولوجية فرقة مسلمة معينة؟ بأي منطق للعدالة و الحرية و الفكر و الوعي ينشط هؤلاء "الأعداء"؟ لماذا أوصلا أكثر من مليار نفس مسلمة للعيش في قلق وجودي و تذبذب عقائدي و خوف مستمر و سقم من الدنيا و ما فيها و هدم مجاني للأخلاق و الحياة؟ ألم يكن من الضروري نظريا على الأقل أن يكونوا مثالا و قدوة للمسلمين البسطاء الغارقين في هموم الحياة، الغاطسين في الجهل و الأمية و قصر اليد، من أجل تنويرهم و تحريرهم من عبوديات حقيقية، إن على المستوى العقائدي أو الإقتصادي أو السياسي؟ ألا يتصارع الفريقان على أوهام محققة على حساب كرامة الإنسان المسلم و حقه في العيش في سلام؟
ما تحقق بالتأكيد و أصبح بديهية واضحة عند الإنسان الغربي العادي هو القضاء النهائي على الإكراه الديني. كل إنسان، بغض النظر عن مستوى تكوينه و انتمائه الطبقي، يسلك طبقا لاختياراته الشخصية و قناعاته، حتى و إن كان تربى في وسط عائلي متدين أو علماني. فكم من إنسان تلقى تربية دينية و أخذ موقفا من دينه عندما أصبح راشدا، و كم من آخر تربى تربية "علمانية" و أصبح متدينا فيما بعد. ما حدث في الغرب هو أن الدين فقد هالته القدسية عند الإنسان العادي و أصبح من الممكن الحديث عنه دون إكراهات و لا مراقبة و لا حساب و لا عقاب أو خوف من المتابعة تحت ذريعة الهرطقة و الإسائة للدين. لا أحد يحاكم أو يلقى القبض عليه لتشكيكه بالدين أو الجهر بعدم وجود الله أو إظهار إلحاده علانية أو التصريح بعدم إيمانه بالتثليت و كل المنظومة الدينية. وصل السلوك العقائدي العادي/الشعبي إلى مرحلة يقرر فيها الشخص/الفرد مصيره بمصيره بوعي تام و دون إملاءات لا أسرية و لا اجتماعية، بل انطلاقا من قناعاته الذاتية و ميولاته في الحياة. و بهذا فإن الوعي بتقرير المصير النهائي للإنسان، يعني بعد الموت، لم يعد مؤسساتيا لا دينيا و لا سياسيا، بل فرديا خالصا. و معنى هذا أن حرية المعتقد قد تحققت بالفعل.
ما وصلت إليه أوروبا "العلمانية" بالتأكيد هو فهمها بأن الدين المسيحي، الذي أسس الوعي و اللاوعي الغربي طيلة قرون، ليس إلا دينا من بين الأديان، ليس هو الأفضل أو الأسوء، بل يعيش – و لربما يتعايش- مع مجموعة من الأديان الأخرى في رقعة جغرافية واحدة. و يعني هذا واقعيا، بأن "امتلاك الحقيقة النهائية" لم يعد حكرا على دين دون سواه، بل أتيحت الفرصة ليعبر كل معتقد عن حقيقته، و بفعل منطق المقارنة بين الأديان، استطاع الإنسان العادي في الغرب أن يصل إلى وعي مبدأ تعدد الحقائق الإيمانية.