المكان عنصر أساسي من عناصر وتفاصيل الحدث، فالوقائع والأحداث تكون ضمنه، ويستحيل بالتالي تصوّرها بدونه، وسيصعب تذكّرها أو إثباتها مع زوال المكان الذي احتضنها، ونهدف من خلال رواية تاريخه إلى تعميق فكرة الانتماء في الوجدان والحفاظ على الذاكرة الجماعية، ورسم خريطة زمانية وثقافية تعيش لتبقى حية وفاعلة في ضمير وهوية أبناء المدينة.
بعد المقال الأول من سلسلة قصور ميدلت الذي حمل عنوان " إِخْرَمْجِيوْنْ القصر اللُّغز"، هذا فصل أخر من تاريخ المدينة، لم تكتب تفاصيله أبدا، ومازال يعتريه غموض كبير، تاريخ قصر تصدر بالأمس المشهد بما جرى فيه من أحداث وتفاعلات إثر تمرده، وبما يضمه من عمائر كانت واستمرت لتحكي حكايات لها دلالتها وتاريخها. المكان الذي وُلدت فيه، ودرجت عليه مع أترابي، وشكل ذاكرتي الأولى، إنه إغرم ن "تَشَاوِيتْ"، أخر قصر لأيت إزدڭ في سافلة واد أطاط على الضفة اليسرى نزولا، يتراءى لزائر المدينة والساكن فيها، وهو واقف بشموخ، يمين الطريق الوطنية رقم 13 في اتجاه مكناس.
أصل التسمية
الدراسة الطوبونيمية ليست مجرد دراسة لاسم مكان وتوضيح معناه، بقدر ما هي نبش في الذاكرة الحضارية والتاريخية والثقافية. فأغلب الأسماء الأمازيغية نابعة من الأعماق، أحيانا معبرة ولها دلالة وسهلة في النطق، وأحيانا أخرى غامضة لا تبوح بأسرارها. إن الأسماء لها ارتباط وثيق بالتضاريس أو بنوع الوحيش والنبات الذي عاش بالمنطقة، أو بعضو من أجساد الكائنات، بشرية كانت أم حيوانية.
اسم القصر لغز في حد ذاته، فكلمة "تشاويت" هناك من ينسبها إلى اللغة العربية على أنها تَمْزِيغٌ للشاوية، كما هو الحال بالنسبة لقصر "تاداموت" الذي يُعتقد أنه مشتق من الموت، أصحاب هذه الفرضية[i] يعتقدون أن التسميات ترجع إلى استقرار عرب بني حسين في المنطقة، ويدعمون فرضيتهم بوجود بعض القبور التي تعود لهم في موقع في الضفة اليسرى نزولا بمزرعة تشاويت[ii]، وأن تشييد هذه القصور كان على أنقاض قصور خلفها بنو حسين بالمنطقة. هنا لابد من الإشارة إلى أن "تاداموت" هي تأنيث "دامو" للتعبير على المسكن، الذي من المرجح انه اسم عائلي لأحد السكان، ويُروى أن بعض العائلات من أيت إبراهيم شيدته بعد الخلاف مع أيت حاحو.
تسمية تشاويت تطلق كذلك على اللغة الأمازيغية التي يتحدث بها أمازيغ الغرب الجزائري في منطقة الأوراس بالتحديد.
غير أننا نفترض أن الاسم اشتق من مصطلح أمازيغي، ومن الأسماء الأمازيغية التي من المرجح أنه اشتق منها نجد "تِشُوتْ/ Ticute"، ومعناها التلة أو القمّة أو الربوة، والمنطقة معروفة بانتشار هذه الأشكال التضاريسية بكثرة، وهناك مواقع بميدلت تحمل نفس الاسم كموقع مقبرة أيت الرْبَعْ "تشوت نسندال"، ومنطقة أخرى بجماعة أيت أمغار.
الاسم الثاني الذي يُحتمل أن يصاغ منه هو "تِشِّوْتْ/Ticciwt" جمعها "تَاشِّوِينْ" وهو اسم قصر أخر بالمدينة، والمصطلح تصغير وتأنيت لقرن الحيوان "إِسْكْ / إِشّْ"، ويُحتمل أن يُطلق على شكل تضاريسي يشبه القرن. تجدر الإشارة إلى أن حرف الشين والكاف في الأمازيغية قد يتحول أحدهما إلى الأخر كما في كلمة "أكَال" أو "أشَال".
الاحتمال الثالث، مصطلح أمازيغي أخر وقد ذكره البكري في كتابه، وهو اسم خندق بالقرب من مدينة أصيلة يدعى "تاشت" فيه مرعى مواشي أهل المنطقة[iii]، وبالنظر إلى موقع قصر تشاويت الذي يتميز بوجود مروج "ألمو/إلموتن" مخضرة طوال السنة والتي كانت غالبا ما تستغل للانتجاع ورعي الغنم.
المشترك بين هذه المصطلحات، كونها مشتقة من الجدر الأمازيغي "شو/cw "، والدال على الحِدّة والقمة والارتفاع[iv]. ومن المعلوم أن علامة المؤنث في اللغة الأمازيغية عبارة عن صرفية غير متصلة "t…t "، تمكننا بصفة عامة من صياغة المؤنث انطلاقا من جذر الاسم المذكر، من هنا يمكن القول أن "تشاويتtacawit/" مؤنث "أشاويacawi/" وهو في اعتقادنا اسم تلة أو كتلة صخرية تتميز بجوانب على شكل جُرُوف منحدرة، الذي هو ببساطة موقع القصر. ويبقى من الصعب ترجيح فرضية على الأخرى، فأسماء الأماكن عموما يصعب تفسيرها في غالب الأحيان، لجهلنا بالأحداث والحيثيات التي أدت إلى إطلاقها.
تاريخ التشييد
إن صمت المصادر التاريخية، يجعل من الصعب جداً تحديد تاريخ بناءه تحديداً دقيقاً. فمن الباحثين من يعتقد أنه شُيّد على أنقاض بقايا قصور بني حسين [v]، نعم بنو حسين كانت تباشر سلطتها على كثير من القصور والقرى بين فاس وسجلماسة بعد أن أقطعهم إياها مختلف ملوك بنو مرين بين القرنين 13و15، لكن في نظرنا من المستبعد ذلك لسببين: أولهما الطريق التجارية تمر شرقا بالقصابي وبالتالي فقصورهم ستكون هناك، والسبب الثاني هو ُبعد موقع المقابر التي تعود إليهم في تشاويت عن القصر ب 2 كلم، هذا لا يعني أننا ننفي مرورهم، لكن إن كان هناك قصر لهم فسوف يكون على مقربة من مقابرهم، هذه الأخيرة لم يكن عدد القبور فيها يتجاوز المئة، الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة ويجعلنا نستنتج أن هذه القبائل العربية ربما لم تستقر لفترة طويلة، أو أنها لم تكن سوى قبيلة صغيرة منعزلة عن القبائل الأخرى المستقرة على طول الطريق التجاري.
وهناك من يرجع تاريخ بناءه إلى فترة استقرار أيت إزدڭ في نهاية القرن 18م وبداية القرن 19م، لكننا نظن أن التشييد تم قبل ذلك بكثير، فالملاحظ أن القصر يتميز بكبره وبفقدانه للشكل المستطيل الذي تعرف به القصبات بالمنطقة، ونفس الشيء يقال عن قصور عثمان أموسى وبرم وڭروان. وذلك كنتيجة للتغيرات التي طرأت على شكله الأول بفعل تعاقب الساكنة وتأثير العوامل المناخية والنمو الديموغرافي، ما يعني أن هذه القصور أقدم من الأخرى، "فڭروان" دليل على مرور هذه القبيلة بالمنطقة قبل انتقال ما تبقى منها إلى مكناس بعد أن قُتل منهم العديد وهُدر دمهم بين القبائل في عهد المولى إسماعيل. أما "برم" فكانت تسكنه قبيلة من أيت عطا.
في اعتقادنا، فالقصر تم بناءه بين 1684م و1800م من طرف قبيلة أمازيغية من حلف أيت إدراسن، تركت النواة الأولى له بالمكان في فترة من الفترات، قبل أن يأخذ شكله الحالي عند قدوم أيت إزدڭ. فالمولى إسماعيل بعد أحداث الاضطرابات التي عرفتها المنطقة، خرج في حركة سنوات 1094هـ/ 1682م ثم 1096هـ/1684م استمرت لشهور، أرغم خلالها بني إدراسن على ترك حياة الترحال والاستقرار بعد أن نزع سلاحهم وخيولهم ومنحهم 20000 رأس من الغنم لرعايتها[vi]، وكان يهدف من وراء هذا، تأمين الطريق التجارية فاس-تافيلالت وخصوصا الطريق الجديدة مكناس-تافيلالت التي تمر عبر أطاط وتخترق جبال الأطلس المتوسط في فج تاغزيفت، وذلك ببناء قصبات لتخزين الذخيرة على طول مسار القوافل التجارية. مرور الطريق شجع لا محالة على الاستقرار وتشكل بعض قصور ميدلت، التي خفت نجمها بعد موت المولى إسماعيل وتوقف الطريق التجارية الجديدة.
ملاحظة أخرى تدعم فرضية تواجد تجمعات سكانية بالمنطقة من قبل، وجود كهوف تم حفرها على طول الجهة الشرقية لقصر تشاويت، والتي اختفى جلها حاليا بعد الترميم، تدل على وجود حياة استقرار سابقة، هذه الكهوف كانت غالبا تشكل مخازنا للحبوب والمؤونة لقبائل من الرحل يضطر بعضا منهم للاستقرار لحمايتها.
تصميم القصر
يرتبط التصميم بكيفية قضاء الناس لحاجاتهم في زمن معين، وتتأثر العمارة بالفلسفات المسيطرة في الزمن المعاصر لها. القصر عبارة عن تجمع سكاني كبير يخضع لتنظيم اجتماعي محكم، "تقبيلت"، حيث الأزقة والدور تُوزع حسب الأفخاذ "إغسان". بناءه تم وفقا للمعمار المحلي التقليدي (التّابوت)، يحيط به سور مرتفع سميك القاعدة يتخلله باب رئيسي، وأخر ثانوي تم إحداثه عند إضافة زقاق رئيسي ثالث في مرحلة لاحقة مع التزايد السكاني. بالقصر ثلاثة أزقة رئيسية "لْعْلُو/لَعْلْوَانْ"، جُلها تحمل أسماء، متصلة فيما بينها بزقاق عرضي ثانوي رابع، تُصفّف فيها بشكل متلاصق منازل مكونة عموما من طابق أرضي مخصص للمواشي وتخزين التبن والأعشاب المجففة، وطابق علوي مخصص للمطبخ والنوم ومخزن الحبوب والمواد الغذائية. القصر يشترك مع جل القصور الأمازيغية في السفوح الشرقية والشمالية لجبل درن[vii] ب:
· باب رئيسي يتناوب السكان على فتحه عند طلوع الفجر وإغلاقه بعد صلاة العشاء، وحراسته ليلا لفتحه لمن تأخر في العودة أو للمسافر. التناوب "تَوَلَا" أيضا يتم اعتماده في رعاية ثور القبيلة والتكفل بإطعام راعي القصر. حيث يتكفل صاحب النوبة بإخراج الثور، المخصص للتناسل، ليرافق قطيع الأبقار صباحا، ويدخله إلى زريبته ويطعمه مساء، عندما يتقدم الثور في السن يذبح في السادس والعشرون من رمضان (ليلة القدر) ويوزع، ثم تُجمع مساهمات جديدة لشراء ثور آخر.
· تمزﯕيدا / المسجد: ويضم مكان لأداء الصلاة وحفظ القرآن "بيت الله"، ومسكن الإمام، والبئر الجماعي، و"أخربيش" التي هي غرفة لتسخين الماء الوضوء وتستغل أحيانا في الشتاء من طرف بعض المصلين للتدفئة في الفترة التي تفصل بين أوقات الصلاة.
· تانصريت: ساحة مغطاة توجد أمام المدخل الرئيسي للقصر، وهي مكان التجمعات القبلية للتداول والتشاور والاحتفال بالمواسم والأعراس واستقبال "بوغانيم".
· إنرارن: مفرده "أنرار" وهو البيدر، تتواجد أما القصر، لكل أسرة بيدرها تستعمله في الدرس ولتجفيف الفصّة وقصب الذرة، ومن مميزات البيادر في قصر تشاويت توجدها فوق أرضية سخرية مسطحة على عكس قصور الجنوب الشرقي، التي تتوجد فوق أرضية ترابية يتم تبليطها بالطين كل سنة قبل موسم الحصاد.
· تيسيرت / تيسار: مطاحن مائية منتشرة خارج القصر على طول السواقي، تستعمل في طحن الحبوب، في الغالب هي ملك الأسر الميسورة، تستفيد منها كل ساكنة القصر مقابل أداء عُشر الحبوب المطحونة.
ساكنته
سكان القصر الأولين الذين شيدوه ينتمون إلى بطنين من أيت إزدڭ؛ أيت إبراهيم وأيت حاحو، يملك الفخذ الأول 12 حصة "تمزداغت" من الأراضي والفخذ الثاني على 6. لكن بعد مقتل القائد إبراهيم أسمور المنتسب لأيت حاحو واتهام أيت إبراهيم بالضلوع في مقتله، نشب خلاف بين الفخذين كانت من نتائجه انفصالهما في القصور التي يتساكنان فيها، فغادرت جل العائلات من أيت حاحو قصر تشاويت، وفي المقابل هاجرت عائلات أيت إبراهيم المستقرة في "سمورة"، فأصبحت غالبية سكان قصر تشاويت من أيت إبراهيم.
سنة 1883م عند مروره بأطاط، ذكر "دو فوكو" أن قصر تشاويت به 100 مسكن(foyer)[viii]، وهو من القصور التي تعرف نسبة كبير من السكان، هذا يحيل على الدور الذي لعبه سكانه في استقرار أيت إزدڭ بأطاط، كما يمدنا بفكرة عن كونهم من الأوائل الذين استقروا بالمنطقة.
من المعطيات التي لا يجب إغفالها عن الساكنة، احتضان تشاويت لعائلة درقاوية من أتباع محمد بلعربي الدرقاوي مؤسس الزاوية الدرقاوية بتافيلالت، الزاوية التي كانت على خلاف مع المخزن وتنتقد موقفه من الأخطار المحدقة بالسيادة المغربية، فلقيت نداءات الدرقاوي تجاوبا كبيرا من قبل المجتمعات القبلية حتى ملوية العليا، والتي أصبحت متعاطفة مع الفكر الدرقاوي، ومعادية للتصور المخزني، لذا فإن السلطان المولى الحسن الأول لم يتوان عام 1882م في تنظيم حرْكة سلطانية قوية لتافيلالت، لكبح جماح قبائل آيت يفلمان وآيت عطا وتطويعها.
حكاية تمرد
من المعلوم أن قبائل أيت إزدك من القبائل العريقة في الجنوب الشرقي المغربي، وما ذكرها في كتاب البيدق في القرن الثاني عشر كمكون من مكونات آيت تيارت[ix]، وكفاعل في الحياة السياسية والدينية في عهد الموحدين، إلا ذليل على الدور الذي لعبته على مر التاريخ بالمنطقة. وتزايد دورها خصوصا عند تأسيس حلف أيت يفلمان، وفي عهد السلطان مولاي عبد الرحمان (1822م -1859م) ووَلّى إبراهيم أسمور على المنطقة، كنتيجة للوعي بالدور المحوري الذي لعبه في هزم أيت عطا حينها، ونظرا لأهمية القبيلة بتحكمها في المعبر الاستراتيجي "تيزي نتلغمت"، أهم نقطة في الطريق التجارية تافيلالت-فاس. مرحلة قيادة أسمور لأيت إزدك تميزت بتوسع هذه القبيلة إلى منطقة ڭير وإلى السفوح الشمالية لجبل العياشي حتى واد أطاط، واستقرارها بالمنطقة بعدما كانت من قبل كمنطقة انتجاع، كما تميزت هذه المرحلة بمحاولته الوصول إلى واد أنسـﯕمير معقل أيت عياش لأهمية هذا الرافد وديمومة جريان مياهه. تمرد إبراهيم على السلطان كلفه غاليا، إذ اغتاله أبناء جلدته[x] سنة 1854م بتشجيع من المخزن الذي تخوّف من بسالة هذا القائد الزدﯕـي. ورغم وفاته ظلت القبيلة تسيطر على المعبر وكان خضوعها لسلطة فاس بين مد وجزر، تتحكم فيه مصالح الطرفين.
بعد هذه الرحلة بأربعة عقود توفي شيخ الزاوية الدرقاوية محمد بلعربي الدرقاوي في نهاية عام 1891م، بعد أن تشبع بفكره عدد هائل من المريدين والأتباع المخلصين الذين تمركزوا في كل قبيلة لرفع راية الجهاد، وعدم الاعتراف بالسياسة المخزنية المهادنة للمستعمر، ومن بينها قبائل آيت إزدڭ التي رفضت أداء الضرائب، وقتلت محند ولد القائد الطالب اليوسي وطردت القائد الشرادي "بتيط نورماس"، مما اضطر السلطان الحسن الأول لزيارة تافيلالت للمرة الثانية عام 1893م، حيث قام بمعاقبة الذين وردت عليه في شأنهم بعض المراسلات من أتباع الدرقاوي والمتعاطفين معه. يقول الدكتور (LINARES) الذي رافق السلطان في رحلته[xi]:
" Dans la tente du Secrétaire pour l'armée, j’entends dire que le plus gros compte à régler est celui des Aït Idzeg. Leurs méfaits sont nombreux et graves."
أما المشرفي في كتاب الحُلل[xii]، نقلا عن رسالة المولى الحسن الأول باشا مكناس بن حمو الجيلاني، فيروي:
" في منتصف ذي الحجة الحرام متم عشرة ثلاثمائة وألف، غزا المولى الحسن صحراء سجلماسة وما احتوت عليه من قبائل العرب والبربر. هي آخر مغازيه... وكان مما بقي علينا الوصول إليه هذه الأصقاع الصحراوية، والمعاقل البربرية، التي كان يفهم قبل أنها صعبة المرتقى عديمة وجوه الارتقاء... واستقبلنا بجيوش الله المنصورة، وجنوده الموفورة، قبيلة أيت إزدك، الذين هم بيت القصيد، وعتبة الوصيد..."
حل السلطان المولى الحسن الأول بميدلت يوم 22يوليوز1893م وغادرها في 3غشت 1893م، خلال هذه المدة التي مكث فيها، كان في انتظار جمع الغرامة المحددة في مائة ألف "دُورُو" كدية لمقتل محمد ولد الطالب اليوسي وطرد القائد إبراهيم الشرادي، بالإضافة إلى ضرائب في ذمة أهل ميدلت ومقدارها عشرون ألف "دُورُو" تؤدى من الخيل والثيران والأبقار والبغال، أما الخرفان والشياه فلا قيمة لها. هذه الغرامة أدى أيت موسى أعلي وأيت أفلا حصتهم منها ومقدارها 21500 دورو [xiii].
رغم كون آيت إزدڭ هم المعنيون بدرجة أكبر من حركة السلطان، إلا أنه تعامل مع معهم بنوع من اللين، فحسب "فضُّول" كاتب السلطان المكلف بالشؤون الخارجية، فالسلطان كان يعي جيدا أن التعامل مع قبائل أيت إزدك يجب أن يكون بحدر، مع الحرص على صون هبة المخزن ظاهريا، نظرا لتزعمهم حلف أيت يفلمان، كما أن السلطان عفا عنهم بعد أن أخبر ممثليهم أنه تم التغرير بهم من طرف محمد بن العربي الدرقاوي:
"D'après Feddoul : S. M. Chérifienne se rend parfaitement compte qu'avec ces Aït Izdeg qui ont derrière eux la confédération des Aït Yafelman, il est nécessaire de procéder avec la plus grande prudence (c'est la vérité, par hasard). Mais il importe aussi de sauvegarder, au moins en apparence, le prestige impérial… [xiv]. "
وفي رسالة السلطان لقائد مكناس دائما:
" فجنحنا للعفو إيثارا له وحرصا على حقن الدماء وعدولا عن القتال، نظرا للصبيان والعجائز والشيوخ وضعفاء الحال، ومعاملة بالصفح لمن كان منهم ضل وغوى... إلى أن خيّمنا عليهم بأطاط، فأظهروا من حسن الامتثال والطاعة ما وصلوا به إلى الغاية، وقاموا بواجب المحلة السعيدة من الضيافة والمبرة، وشرعوا على الفور في دفع ما وظفناه عليهم من الأموال، متسارعين إلى الأداء في الحال، منقادين لكل ما أريد منهم من الأعمال "[xv].
ويتمثل الحرص على هبة المخزن في هدم قصر "تيط نورماس"، القصر الذي عرف واقعة اغتيال القايد محمد ولد الطالب اليوسي من طرف قبيلة من أيت إزدك، كنتيجة لتطاوله على شرفهم، بعد أن طلب هذا الأخير مقابلة السيدة الزدڭية التي طهت الطعام الذي قدم له حسب الرواية الشفوية. في نفس الرسالة:
"...وجهنا شرذمة من أطراف جيشنا السعيد، لاستئصال أهل طوطورماس[xvi] الذين قتل في قصرهم الخديم ولد الطالب محمد اليوسي فلم يكن إلا كوقفة راكب، أو صرة حالب، حتى أخدتهم أخدا وبيلا. وكان فعلهم على انتقام الله منهم دليلا"[xvii].
في هذا الوقت بالذات، تخبرنا الرواية الشفوية، أن سكان قصر تشاويت، بعد فشل محاولة باقي أبطن أيت إزدڭ في إقناعهم بأداء الغرامة، غادرت نساء القصر والأطفال والعجائز مساكنهم حفاظا على أرواحهم في اتجاه الجبال والوديان المجاورة، في حين بقي من في استطاعتهم القتال بالحصن، وقد غادروه بعد مقاومة شرسة حين اشتد القصف عليهم، حيث اتجهوا شمالا في اتجاه الجبال قرب سد سيدي سعيد حاليا. لازلت الذاكرة الجماعية تتذكر أدق التفاصيل عن العملية، ومن بينها، أن جند السلطان استعملوا مدفعين، أحدهما وضع في التلة الشرقية موقع المقبرة، والمدفع الثاني في تلة جهة الغرب متواجدة أمام ثانوية المولى رشيد حاليا، وبدأت عملية القصف التي لم تدمر القصر تماما بل أجزاء منه. ولمنع السكان من العودة كلفت مجموعة من الجند بمراقبة المكان. الرواية تتطابق مع المصادر المكتوبة، فقد ذكر (LINARES) أن السلطان بعد مغادرته لأطاط (ميدلت) وبالضبط عند توقفه بمنطقة "سڭمات"، أرسل مدفعا (un canon de compagne) يوم 5 أكتوبر1893م لتدمير قصر بأطاط، هذا النوع من المدافع عادة ما يكون صغيرا يسهل نقله، وقد أمر القائد موحى يوم 7 أكتوبر 1893م بالتوجه إلى أطاط للقيام بالمهمة[xviii]. المدفع الذي لم يفي بالغرض نظرا لصلابة بنيان القصر وللمقاومة الشرسة للمتحصنين به، مما يفسر إرسال مدفع ثاني أكبر حجما، محمول على نقالة بواسطة أربعة جمال ومرفوق بكتيبتين من الجنود يوم 13 أكتوبر 1893م، العملية كانت من الأهمية بمكان وتضرب في الصميم هبة المخزن، الشيء الذي اضطر السلطان إلى تمديد مقامه بسڭمات إلى حين وصول أخبار جيدة من أطاط، وقد عبر الدكتور وبعض المرافقين عن تدمرهم من طول المقام، وبالفعل فلم يغادرها حتى 18 أكتوبر 1893م[xix]. يقول ابن زيدان في كتاب الإتحاف نقلا عن رسالة السلطان المبعوثة إلى باشا مكناس[xx]:
" فنهضنا للتخييم بمركز بلادهم(محل) وادي زيز... من هنالك رددنا شرذمة لفرقة من أيت إزدك بأوطاط، حيث بلغ لعلمنا الشريف ما ظهر في انحرافها من الطيش والإفراط فصدمتهم صدمة وبال وحين وصيرت قصرهم معهم أثرا بعد عين...".
إذا كانت القصور الأخرى قبلت أداء الغرامة حفاظا على حياتها وأراضيها، السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تشاويت خالفوا القاعدة ورفضوا الامتثال للأوامر السلطان؟
يمكن إرجاع تمرد أهل تشاويت لسببين: أولهما، رفضهم الخضوع لسلطة القايد حمو من أيت حاحو، الذي لم يتوانى في مراسلة السلطان بشأنهم انتقاما منهم، والثاني، أشرنا إليه أعلاه، تشبعهم بالفكر الدرقاوي واحتضانهم لعائلة درقاوية، هذان المعطيان كانت لهما الكلمة الفصل في رفض الخضوع وأداء الغرامة، بل الأكثر من هذا مغادرة أراضيهم، الأمر الغير الهين تقبله عند قبائل أيت إزدڭ التي تعيش حياة الاستقرار والمعروف عنها التشبث بالأرض.
التغيرات التي عرفها القصر
كانت لواقعة التمرد عدة تأثيرات على المستوى الاجتماعي، حيث تغيرت البنية السكانية للقصر بعد هجرة عائلات وقدوم أخرى، ولم يقاوم الزمان إلا بعض "تيمزداغ" التي احتفظت بأسمائها رغم هجرة مالكيها وتحول ملكيتها لعائلات وافدة. تنوع مكونات وروافد القصر اجتماعيا، وقربه من مركز المدينة جعلاه أقل صمودا أمام تأثيرات الحياة العصرية، بل أسس لقطيعة بينه وبين باقي قصور واد أطاط. ومن نتائج هجرة السكان لفترة، فقدانهم لحصة القصرمن مياه واد أطاط، هذه الحصة التي كانوا يحصلون عليها في الماضي وفق نظام عادل ومضبوط تفرضه أعراف قبائل أيت إزدڭ في تقسيم المياه على كل القصور.
القصر حاليا، فقد الكثير من مميزاته مع التطور العمراني، حيث حل الإسمنت مكان التراب المضغوط في بعض المواقع، كما أن عملية الترميم، بالرغم من كونها ساهمت في الحفاظ عليه، إلا أنها في اعتقادنا لم تكن مدروسة بشكل جيد وأغفلت مميزات قصور المنطقة، والنتيجة قصر هجين فقد خصوصياته لكنه مازال يقوم بالوظيفة التي شيد من أجلها أول مرة، ويوفر ملاذا آمنا للعديد من الأسر الوافدة على المدينة في تعايش تام.
لقد حاولنا قدر المستطاع، بإمكانياتنا المحدودة نفض الغبار عن قصر من قصور المدينة واستنشاق عبق أسلافنا، والتجول في دروب التاريخ والنبش في أنقاض المكان، علّنا نُمكّن شخصياته من النهوض مرة أخرى من التراب، لتخبرنا عن حياتها كيف عاشتها، عن أفراحها وأحزانها، عن متى غادرت للبعيد، أو على الأقل أن تسأل عما بقي منها فينا.
[i] أمينة عوشر، Colonisation et compagne bérbère,p22
[ii] تم نقل الرفاة إلى مقبر سوق الأحد، لقد عاصرت شخصيا عملية الاستصلاح نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
[iii] البكري أبو عبيد " المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب" جزء من كتاب المسالك والممالك. ص112. دار النشر الإسلامي القاهرة.
[iv] M.TAIFI, dictionnaire amazighe français parlers du Maroc central,ed L’HARMATTAN-AWAL 1991,p774
[v]A.Aouchar,p22
[vi] ع الله الكنسوسي، الجيش العرمرم الخماسي في دولة مولانا علي السجلماسي، تحقيق يوسف الكنسوسي، ج1، ص 131و132.
[vii] الأطلس الكبير
[viii] Foucauld, Charles de. Reconnaissance au Maroc, 1883-1884, Ed 1888,p376
[ix] البيدق أبو بكر الصنهاجي، المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور 1971، ص 54و55.
[x] الناصري،الاستقصا، ج9، 1997، ص67و68.
[xi]LINARÈS, VOYAGE AU TAFILALET AVEC S. M. LE SULTAN MOULAY HASSAN EN 1893, Extrait du « Bulletin de l‘Institut d’Hygiène du Maroc » (N III et IV 1932).p14
[xii] محمد بن محمد بن مصطفى المشرفي، " الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعد بعض مفاخرها غير المتناهية" ج2، ص 211.210، تحقيق إدريس بوهليلة، 2005، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
[xiii] LINARÈS, VOYAGE AU TAFILALET…, p19,20
[xiv] LINARES, P 19
[xv] انظر الناصري ص 203 من كتاب الاستقصا، ج9، 1997.
[xvi] المقصود قرية تيط نورماس التي تبعد عن ميدلت ب 25 كلم على الطريق الوطني رقم 15.
[xvii] ص 313، الإتحاف، ج2
[xviii] LINARÈS, VOYAGE AU TAFILALET…, p38
[xix] نفسه ص 39
[xx] ابن زيدان: عبد الرحمان بن محمد السجلماسي، "إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس" ج2، تحقيق د. علي عمر، الطبعة الأولى 2008، مكتبة الثقافة الدينية.