هل تحديث العربيّة ممكن؟
استعرضنا في الحلقة الثانية العوائق التي عرقلت تطوّر العربيّة. كلّ نقد منتج يترافق مع تقديم البديل. وهو ما سأحاوله في السّطور التالية:
لتحديث العربيّة ثمن باهظ نفسياً: جرح أليم؛ جرح قطيعة العربيّة المعاصرة مع عوائقها الأصوليّة: التنكّر لقانون التطوّر مجسّداً في تكفير اللّحن والدّخيل لغوياً. وهي قطيعة لا مناص منها، إذا أرادت أن تتمكن من الاندماج، في سياق هذا القانون ببنية مجدّدة تولد بها ولادة ثانية، على غرار شقيقتها العبريّة. في هذا المنظور، ينبغي التّفكير العميق وبصوت عال، في إعادة تأسيس العربيّة، ثمن لا بدّ من دفعه، لانتشالها من الانحطاط التي تردّت فيها، منذ نفاها الاحتلال العثماني من الحياة العمليّة، الإداريّة والثقافيّة والعلميّة، بالتتريك لسجنها، في أداء الشعائر الدينيّة، وهو ما تريد الأصوليّة الإسلاميّة إعادتها إليه اليوم.
تطوير العربيّة، لتصبح معاصرة لعصرها، يفترض تطوير معجمها مبْنَى ومعْني، وترشيد نحوها ورسمها الأحفوريين. وبما أنّ هذه العناصر تشكل بنية اللغة، فهي متفاعلة ولا يستطيع أي عنصر منها أن يتطوّر بانفصال عن الباقي، وإلا فقد الكل ديناميكه.
التغيير دائماً ضروري، لكنّه ليس دائماً ممكناً لغياب شروطه الموضوعيّة والذاتيّة. ضروري لأن التكيّف مع الجديد، وقطع الجذوع الميتة، من شجرة الحياة، مهمة راهنة في كلّ مكان وزمان، لتستطيع الإنسانيّة التقدّم. لكنّه ليس دائماً ممكناً، لعدم وعي القوى المؤهلة لتحقيقه بضرورته وإمكانيته معاً مثلاً. إصلاح بل تثوير لغة الضاد من هذا القبيل: ضروري، لأنّ العربيّة كما هي يحول بينها وبين نقل العلوم سد منيع. إذن لن يكون لها بين لغات العالم الحية، مكان تحت الشّمس، في القرن الحادي والعشرين: قرن المعرفة وعمال المعرفة: التقنيين، المهندسين، الباحثين، الأطباء والعلماء. لكنّه غير ممكن في المستقبل المنظور، على الأقل طالما ظلت الأصوليّة المصابة برهاب التّغيير، مهيمنة على وعي السّلطات اللغويّة والنّخب الصانعة للقرار. كيف يمكن للغة عاجزة عن ترجمة أي كتاب في العلوم، من اللغات الحيّة بما فيها العبريّة، أن تكون لغة حيّة حقاً؟
إذن الأساسي من مهمتنا يكاد ينحصر في محاولة الإسهام في تسريع نضج الوعي بضرورة تحديث العربيّة، عسى أن نجعل هذا التحديث الضروري ممكناً في عقد أو عقدين؛ وذلك بتوضيح رهاناته وعوائقه وخاصة الدّيني منها، الذي يتصدّى له، بذريعة الدّفاع عن لغة القرآن المهدّدة [هذا التّقدير كان في 1997، أما الآن فأفكر بأنّه، في السيناريو المتفائل، ممكن. وإلا فسيكون تسجيل مؤسسة الرّئيس شيراك للعربيّة، كإحدى اللغات الـ 6000 المهدّدة بالاندثار في هذا القرن، لها!].
كما لو كان تحديث العبريّة ـ وهو مثل مقنع لابدّ من ضربه في كل آن ومكان ـ، التي غدت بمعجمها الاصطلاحي الحديث، أقرب إلى اللغات الهنديّة الأوربيّة، منها إلى أصلها السّامي، قد حال بين اليهود وقراءة التوراة بها، أو “سلخهم” عن هويتهم اللغويّة والثقافيّة! تحديث العبريّة، الذي حولها من لغة ميتة، إلى لغة العلم والتكنولوجيا، لم يؤد إلى حدوث أيّة من الكوارث، التي تبشرنا بها الأصوليّة الإسلاميّة، إذا ما فكّرنا في تحديث العربيّة. إصلاح العربيّة، كما إصلاح الإسلام، ينكآن جرحاً نرجسيّا، وهذا الجرح هو بالضبط الثّمن، الذي لا مفرّ من دفعه للانتقال من الأسطورة إلى التّاريخ، من القادمة إلى الحداثة.
معالم في طريق تحديث العربيّة:
• تحديث معجمها اللغوي، يفتحه على دفتيه للدخيل أي المعرّب، كما فصلناه في حدود هذا البحث.
• ترجمة معجمين أساسيين عامين من الإنجليزيّة والفرنسيّة.
• نقل المعاجم المتخصّصة في العلوم الدّقيقة والإنسانيّة.
• إصدار معجم عربي حقاً حديث.
• إصدار معجم اشتقاقي.
• إصدار معجم تاريخ العربيّة.
• إصدار معجم بفصحى الحياة.
• الاعتراف باللحن.
• تحديث الأبجديّة.
• دمج البادئة واللاحقة في صلب المصطلحات العربيّة المترجمة على غرار اللغات الأوربيّة.
1 ـ كخطوة أولى على الطّريق الصّحيح، لتحديث العربيّة، لا بدّ من ترجمة معجم أوكسفورد في المشرق، ولاروس الصّغير في المغرب، ترجمة كاملة ودقيقة وبمصطلحات موحّدة تكون في 9 على 10 من الحالات تعريباً لا ترجمة؛ والـ 10 % الباقية نحتاً أو بالتّركيب المزجي. هذان المعجمان اللذان تحتاجهما العربيّة، لم يترجما إليها حتّى الآن. بينما ترجمتهما لغات العالم الحديثة منذ زمان بعيد. لأنّ ترجمتها لأيّة لغة، هي الشّرط الأولي للشروع في تحديثها.
2 ـ ترجمة المعاجم المختصّة، خاصّة من الإنجليزيّة والفرنسيّة، في العلوم الدقيقة والإنسانيّة بمصطلحات موحدة وموافقة للمواصفات الدولية، في إدخال المصطلحات: الدقة، الوضوح والاقتصاد. وذلك يفترض عدم ترجمة تفسير المعاجم الأجنبيّة للمصطلحات، بدلاً من ترجمتها بمقابل عربي إن وجد، أو تعريبها أي أخذها كما هي. وهذا هو المطلوب والممكن.
3 ـ إصدار معجم عربي حقاً حديث: وظيفي، منهجي، دقيق وحديث بمفرداته وما طرأ عليها من تطوّر. وذلك يتطلب إعادة قراءة نقديّة للمعاجم العربيّة القديمة والمعاصرة، وتطهيرها من الكلمات المهجورة التي تمتلئ بها؛ على أن تصدر في معجم خاص بالعربيّة القديمة، وهو ضروري للباحثين، واستبدالها بكلمات شائعة، عملاً بالمثل النّحوي الشهير: “خطأ شائع خير من صواب مهجور”. دون أدنى تنازل للأصوليّة اللغويّة المتحجّرة، التي ترفض إخضاع العربيّة لقانون التطوّر الكوني، الذي عرفته جميع اللغات. لذلك تشبثت هذه الأصوليّة اللغوية ـ الدينية بضرورة حضور آلاف الكلمات المهجورة في المعاجم، المتداولة، ضاربة صفحاً عن آلاف الكلمات الأخرى الحيّة. وها أنا أفتح مصادفة المعجم العربي الحديث “لاروس” على صفحة 710 لأنقل منها هذه الكلمات الأحفورية، التي تستفز أسماعنا ولا ضرورة أو حكمة في إحيائها، مع أننا نلتقي بها في أي قاموس قديم أو حديث نفتحه: الشصائص، شصب، الشصب، شطو، شص نواجذه، الشص، الشطو، شصى الميت، [ارتفعت رجلاه ويداه!] الشصيب، الشصيبة، الشطّاة، شطا الشيء، الشطاط 18 كلمة موميائيّة، من أصل 29 في صفحة واحدة لقاموس حديث(!) مرصود أساساً لتلامذة المدارس! وأراهن على أن أكثر من 50 % من صفحات معاجمنا المعاصرة، مازالت مقبرة لمثل هذه الكلمات الميتة! حال معاجمنا مازال كما شخصه منذ ثمانية قرون، صفي الدّين الحلي، في قصيدته: النفور من الغريب:
إنما الحيزبون والدربيس والطخا والنقاح والعطلبيس
والخراجيج والشقحطب والصعقب والعنقفير والعنتريس
والغطاريس والعفنقس والعفلق والجريضيض والعيطموس
والسبنتي والحقص والهيق والهجرس والصرقسان والعسطوس،
لغة تنفر المسامع منها حين تُروى وتشمئز النفوس.
وقبيح أن يذكر النافر الوحشي منها، وبترك المأنوس،
أين قولي: هذا كثيب قديم؟ ومقالي عقنقل قدموس؟
لم نجد شادياً يغني: قفا نبكي على العود إذ تدار الكئوس،
درست تلكم اللغات وأمسى مذهب الناس ما يقول الرئيس،
إنما هذه القلوب حديد، ولذيذ الألفاظ مغناطيس
( عبد المجيد بن عمر الطاهري، نفس المصدر).
يفترض من المعجم الوظيفي المرتجى، أن ينفّذ وصيّة صفي الدّين الحلي، فيكون معجم الألفاظ المأنوسة لا الميتة. بحيث يكون ملاحظاً محايداً لتطوّر اللغة، وسجّلاً أميناً له، يتعرّف فيه القارئ على حاجات عصره، بدلاً من حاجات عصر آكلي الشّيح والقيصرم. ويجد فيه ضالته اللغويّة، الموصوفة وصفاً علمياًّ محايداً، مستلهماً مناهج التّأليف المعجمي المعاصر في الإنجليزيّة، والفرنسيّة والعبرية، والتركيّة والفارسيّة. فاتحاً صفحاته للمفردات، المصطلحات، التعابير والأمثال الشعبية؛ خاصة تلك التي اكتسبت شرعيتها من استخدام الكتابات الأدبية لها، في جميع البلاد العربية، مما سيساهم في ترسيخ الوحدة اللغوية، الثقافية والوجدانية بين الشعوب العربية، بعد أن غدت وحدتها السياسية بعيدة المنال.
إذن معجم يجد القارئ بمجرد أن يفتحه، في قائمة مصطلحاته بحروف اختزالها الأولى، (...)
وباختصار، معجم مماثل للمعاجم الحديثة في العالم.
4 ـ معجم اشتقاقي، يكون خير معين على نحت المصطلحات العلمية، التي عاث فيها فساداً الأصوليون والمعجميون التجار والجهلة بأصول الاشتقاق.
الاعتراف بالعامية وجعلها تتلاقح مع الفصحى، تماماً كما تعترف جميع اللغات الحديثة بها، بعاميتها وتتفاعل معها، لا يعني الوقوع في شراك المطالبة الساذجة أو المغرضة، باستبدال العامية بالفصحى؛ كما استبدلت العاميات الإسبانية، الإيطالية والفرنسيّة باللاتينيّة. هذه المطالبة الحيية، هي الوجه الآخر للعملة الأصوليّة اللغويّة، المصرة على رفض تطور الفصحى الذاتي، المستفيد من تطوّرها المنهجي. |
5 ـ معجم تاريخ اللغة العربية: يعرف القارئ بمفرداتها على نحو سانكرونيك (تزامنياً) ودياكرونيك (تطورياً) في آن، أي يستعيد معنى تطور الكلمة منذ أول استعمال لها في العربية (سانكرونيك)، متتبعاً مسار تطور دلالاتها مذ ذاك إلى الآن (دياكرونيك)، محاولاً تحديد أصولها الأولى في المعجم السامي المشترك، خاصة الأكادي، السرياني، الآرامي والعبري، الذي استفادت منه العربية القرآنية وتفاسيرها وفي معاجم الحضارات، التي تتلمذت عليها الحضارة العربية الإسلامية، كالسرياني، السانكريتي، الفارسي والإغريقي. وهو مسعى ضروري لغوياً ومنهجياً، لنسف الأسطورة النرجسية المؤسسة لنقاوة العربية بما هي أم وسيدة جميع اللغات، التي مازالت تشكل أحد إحدى أشرس العوائق الذهنية ـ الدينية، التي تعيق إقلاعها من القدامة إلى الحداثة، من الميتوس إلى اللوجوس.
مثل هذا المعجم، قد يكون أنجزه عبد الله العلائي، بعد ثلاثين عاماً من الانكباب المتواصل عليه، لكنه ظل أعواماً يبحث دون جدوى عن ناشر، إلى أن امتدت له في 1975 أيدي لصوص، ظنوه مغنماً ثميناً، فلما اتضح لهم أنه مجرد جذاذات، أتلفوا أكياسه التي تحتوي 45 جزءاً. ومازالت مسودته منذ 11 عاماً تنتظر مبادرة مؤسسة لغوية لتحقيقها ونشرها.
6 ـ إصدار معجم خاص بفصحى الحياة (العامية) في كل بلد عربي، ومعجم عامي يغطي جميع البلاد العربية، يشمل المفردات القابلة للتداول العربي العام، والضرورية لإحلالها محل العربي المهجور. ومن أعراض استشراء داء الأصولية اللغوية ـ الدينية، أن مجرد التفكير في إصدار مثل هذا المعجم، بات محرماً. في الفرنسية مثلاً، توجد معاجم للأرجو، أي اللغة الخضراء ولغة أصحاب المهن. وهي لغة لا لهجة، لا علاقة لها بالفصحى الفرنسية ولا بدارجتها. لكن بعض مفرداتها الذي اجتاز بنجاح امتحان الانتخاب الطبيعي، دخل المعجم المتداول. والفرنسية مع ذلك، بل ربما بسبب ذلك، بألف خير. بينما العربية المنغلقة على نفسها، داخل قلاعها الأصولية الحصينة، في غرفة الإنعاش!
7 ـ إنهاء القطيعة بين فصحى الكتابة وفصحى الحياة، وضع حد لهذه القطيعة المضرة بكلتيهما، يفترض إطلاق ديناميك التلاقح بين الفصحى والعامية من عقاله، لتطبيع علاقات العربية مع العامية، بفتح دفتي معجمها للكلمات، وللعبارات وللصيغ الجديدة، التي اقتضاها التطور اللغوي المتواصل، لاحتضانها وتفصيحها. أما العربية اليوم فمعجمها مازال مغلقاً بالشمع الأحمر، دون التطور اللغوي؛ يقف دونه زبانية أصوليون غلاظ شداد، لصد ورد كل نأمة حياة تحاول التسلل إليه!لذلك مازالت معاجمنا وكتبنا المدرسية،التي هي فُضالة هذه المعاجم، تفضل كلمات مهجورة، لا وجود لها إلا في أكفان الورق، ولا تستعمل في الحياة، محادثة أو كتابة قط، على بدائلها المتداولة في معجم الحياة اليومية. مثلا: بريكولور، تترجمها المعاجم ترجمة تقريبية بـ: معدد الحرف، مُرمّق حرفي، محب للترقيع... وهي ترجمات لا أمل لها في الخروج من بين دفتي هذه المعاجم، إلى حياة الناس اليوميّة. بينما العامية التونسيّة مثلاً، تقدم لها مقابلاً دقيقاً: حرائفي [يجيد جمع الحرف هواية لا احترافاً] فأين حرائفي، من معددي الحرف، محب للترقيع إلخ؟ في منظوري، الاعتراف بالمعجم الشعبي وظيفي، وليس أبدا احتفاليا. غايته إيجاد مقابل للكلمات، الصيغ والمصطلحات التكنولوجية وغيرها، التي لا مقابل لها حي، أو جدير بالحياة في الفصحى.
تطعيم الفصحى بالعامية لا معنى له ـ سوى المعنى الاحتفالي العزيز على ذهنيتنا التقليدية ـ إذا كان يراد منه إغناء الفصحى الحية، بمرادفات عامية أصلها فصيح، ثم شاء لها “سوء حظها” أن تشيع على ألسنة العامة، فعافتها أقلام الخاصة وألسنتهم، مثل سكر الباب بمعنى أغلقه، لطا بمعنى لاذ، قشط بمعنى سطا إلخ.
الاعتراف بالعامية وجعلها تتلاقح مع الفصحى، تماماً كما تعترف جميع اللغات الحديثة بها، بعاميتها وتتفاعل معها، لا يعني الوقوع في شراك المطالبة الساذجة أو المغرضة، باستبدال العامية بالفصحى؛ كما استبدلت العاميات الإسبانية، الإيطالية والفرنسيّة باللاتينيّة. هذه المطالبة الحيية، هي الوجه الآخر للعملة الأصوليّة اللغويّة، المصرة على رفض تطور الفصحى الذاتي، المستفيد من تطوّرها المنهجي.
اختيار العامية بديلاً للفصحى، حماقة وجناية في آن. حماقة لأن العاميات، بما فيها المصرية، التي تبدو أكثرها تطوراً، ليست بقادرة على أن تصبح في مستقبل منظور على الأقل، لغة ناقلة للعلوم، إلا إذا استعانت بالفصحى بعد تحديثها طبعاً، بينما الفصحى المحدثة المتلاقحة مع العامية، تغني عن مؤونة استبدالها، التي لا طائل من ورائها. جناية، لأنه إذا كانت الفصحى المعاصرة، رغم جهود واجتهادات بعض الناطقين بها المتواضعة، مازالت تكابد نواقصها الفادحة، التي تعيق التحاقها بمصاف اللغات النّاقلة للعلوم، فكيف سيكون حال عشرات العاميات غير المكتوبة، في بلدان مازالت فيها معدلات النمو السكاني، تتجاوز معدلات النمو الاقتصادي، ومعدلات الأمية الحقيقية، تتجاوز معدلات التعلم الحقيقي، أي قدرة المتعلم على قراءة كتاب واحد في السنة، وبرامج التعليم تزداد فيها مع الأيام نقصاناً، في الكم والكيف معاً؟
إحلال العامية محل الفصحى، والعكس انتهاك لقانون التطور اللغوي، القاضي بضرورة ازدواجية اللسان. ففي كل لسان حي، العامية تتفصح بما تقدمه لها الفصحى، عبر التعليم والإعلام من زاد لغوي دقيق ومتقَن؛ والفصحى تتجدد وتتحيّن بما تقدمه لها فصحى الحياة من مفردات، مصطلحات ومجازات أنتجتها السليقة الشعبية.
الازدواجية اللغوية، ملازمة لجميع اللغات وضرورية لتطورها. بما في ذلك لغة قريش، منذ أن اكتسبت شرعيتها بالقرآن. ولو لا إقدام عثمان على حرق المصاحف، التي كتب بعضها بلهجات القبائل الأخرى، رغبة منه في توحيد العربية، لكانت لنا اليوم ألسنة فصيحة عدة: بل لعل الأساسي من مشاكل الفصحى، قديماً وحديثاً، عائد لانغلاقها عن فصحى الحياة: عن اللحن والدّخيل، منذ قرر النحاة، تفاديا للحن في الإعراب وفي تركيب الجملة وفي النطق. اتخاذ عربية الأعراب نموذجاً يُحتذى، ورفض الاستشهاد بكلام عرب ما بعد المائة الأولى من صدر الإسلام، لشبهة فقدانها للنقاوة.
ثورة الاتصالات، ستسّرع التنميط اللغوي، محلياً ودولياً، دافعة هكذا الازدواجية اللغويّة إلى مزيد من التلاقح والانصهار، ولغات العالم أجمع إلى التقارب، دون أن تقضي ربما على البنية الأساسيّة لكل منها.
ضرورة الاعتراف باللّحن:
اللحن علامة فارقة على تجدد النحو ذاتياً بفعل ديناميكه الخاص، مما يتطلب تقعيده لدمجه في نسق متماسك نظرياً ومتواضع عليه. لكن وسواس النقاوة أبى عليه ذلك. فظل النحو العربي حبيساً في طريقة كلام بدو القرن الأول الهجري (صدر الإسلام)، إذ أن النحاة، بعد عدم اعترافهم بنحو سكان الحواضر، جعلوا النحو أعرابياً حصراً، وبعد رفضهم للشواهد النحويّة، التي جرت على ألسنة العرب بعد المائة الأولى، جمدوا النحو في لحظة من لحظات تطوره، واصمين باقي اللحظات باللحن، أي بالنحو غير المشروع.
التنظير النحوي، تسمّر في النقطة التي أوصله إليها ابن الأنباري منذ ثمانية قرون. بالتّأكيد، نادى ابن مضاء القوطبي في كتابه “الرد على النحاة” (ابن مضاء القرطبي: الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف ص 61)، بدراسة العربية كما ينطقها العرب، لا كما قعّدها النحاة. لكن دعوته المحدودة بأيديولوجية الموحدين الكلاميّة ـ الفقهيّة، لم تلق آذاناً صاغية.
مات طه حسين وأحمد أمين وفي نفسيهما شيء من تيسير النحو. أحمد أمين حبذ إلغاء الإعراب بالوقوف على السكون، وهو ما يمارسه الآن هادي علوي. تيسير النحو اليوم، لابد أن ينطلق من جعل السماع، الذي قام عليه النحو العربي لحظة تأسيسه، قاعدة تعليم النحو المعاصر. إذ لا شيء غير عبادة الأموات السحرية الإحيائية، يجعل العرب الأموت أصدق قيلاً من العرب الأحياء!
تأسيس نحو سماعي كفيل بوضع حدّ للفصاميّة النحويّة، التي أصابت منا مقتلاً: نعترف بنحو سيبويه نظرياً حتى التقديس، وننتهكه عملياً كلما فتحنا أفواهنا في وسائل الإعلام،في الكتب ،في المدارس والجامعات! درست النحو بالعامية على شيوخ في الزيتونة. بعضهم كان يرفع بحروف الجر. وهو اليوم شأن كثير من أساتذة الأدب العربي. أما النّصب على التمييز الحال والاشتغال فهو نادر اليوم. لكن لا أحد يجرأ خوفاً من الإرهاب الأصولي اللغوي ـ الديني، على الجهر بأنّ الملك يتجول عارياً، لوضع حد لهذه الفصاميّة العبثية، التي جعلت العرب، من شدة تشبثهم بنحوهم المتقادم، عملياً بدون نحو، : النحو القياسي لا يكاد يمارسه أحد، والنحو السماعي، الذي يمارسه الجميع خاصة وعامة، لا يعترف به أحد!
تحديث النحو:
1 ـ الاحتفاظ بالصّوتيات
لكل تجديد بداية متواضعة،فلتكن بداية تجديد النحو هي إصلاح ضمير الغائب.ضمير الغائب في العربية الكلاسيكية،القرآنية والدنيوية،يتطابق دائماً مع المفرد والجمع مثلاً:“آيات بينات هن أم الكتاب...”ولم يقل هي ... يقول المعري: “لو كانت الأرزاق، تجري على الحجى، هلكن إذن من جهلهن البهائم” ولم يقل هلكت... من جهلها. هذا التطابق موجود في لغات العالم القديمة والحديثة، لأنه يتطابق، كما يقول شومسيكي، مع الحدس النحوي، أي السليقة النحوية، الموجودة في كل إنسان فطرياً من دون تعلم.
احتراما لهذا القانون اللغوي الفطري والمفيد، ورفعاً للالتباسات الكثيرة، تعيق الفهم أحياناً، في الخلط بين المفرد والجمع، من الضروري التراجع عن هذا الانتهاك لقانون لغوي، بالعودة إلى العربية الكلاسيكية بالأمس، وللتطابق مع العربية المحكية اليوم، التي تطابق هي أيضاً ضمير الغائب: المفرد مع المفرد والجمع مع الجمع، “هن” بدل “هي” و“هم” بدل “هو” في الجمع طبعاً.
افتقار العربية للصوتيات، حولها أحياناً إلى هيروغليفية، لذلك ينبغي التوقف عن الجزم بلم، وعدم الاستغناء عن الصوتيات في أي صيغة نحوية كانت؛ وباختصار، كلما تعارض الإبقاء على الصوتيات، أو إدخال المصطلحات كما هي، معرّبة، بلا ترجمة، مع النحو ينبغي التضحية بالنحو النخبوي العقيم.
2 ـ العودة إلى “لغة أكلوني البراغيث”
هذا المثل ضربه النحاة مثلاً على الشذوذ النّحوي، وقالوا أنه طريقة نطق قبيلة عربيّة تطابق بكلامها بين ضمير الغائب في الجمع وهو شاذ في النحو. وسموها “لغة أكلوني البراغيث”، بدلاً من أكلني البراغيث القويمة نحوياً. لكن لغة أكلوني البراغيث الشاذة، غدت اليوم هي القاعدة الشائعة حتى في المدارس والجامعات. وهي تتطابق مع العربية المحكية في جميع البلدان العربية. كما أنها تتطابق مع جميع اللغات الحية في العالم. لأنها تتطابق مع المنطق والمنطق اللغوي. فمن اللامنطقي، افقار العربية إلى درجة الإشارة، عكساً لجميع اللغات بما فيها العربية المحكية، إلى المفرد والجمع في ضمير الغائب بضمير واحد!
3 ـ الوقوف على السّكون:
المقصود هو إلغاء تغيير أواخر الكلام حسب الإعراب فتحاً وكسراً وضماً. جميع اللغات القديمة كانت ُتعرب، أي يتغير فيها الحرف الأخير في الكلمة بما في ذلك الأسماء. لكن التطور اللغوي أدّى إلى إلغاء الإعراب في اللغات الحديثة، التي تطوّرت من اللغات القديمة كاللاتينيّة والجرمانيّة مثلاً. وحدها اللغة االرّوسيّة احتفظت بالإعراب، لكن يبدو أنّها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ألغته. في العربيّة أيضاً، أدى التطور اللغوي إلى إلغاء الإعراب في العربية المحكية، في جميع البدان العربيّة، وعوضه الوقوف على السّكون، كما في جميع لغات العالم الحية. وحتى في قراءات القرآن الـ 14، فإن 3 منها على الأقل كانت بالإسكان، أي تسكّن جميع الكلمات، بدلاً من تغيير أواخرها بالإعراب. وهذا ما يفعله اليوم معظم من يرتجلون بالفصحى؛ الممنوع من الإعراب، كان مبادرة رائدة من النحاة، لإلغاء الإعراب. فقد منعوا إعراب الأسماء الأعجميّة مثل سيبويه، مؤسّس النحو، والتراكيب المزجية مثل معدي كرب، وكل ما جاء على وزن فعلان، مثل عدنان وقحطان وحسان، وكل ما جاء على وزن مفاعل، كمساجد وكنائس... إلخ. المطلوب اليوم هو تعميم الممنوع من الصرف والإعراب، ليصبح نحو العربية مماثلاً لنظائره في اللغات الحيّة.
ليكن متوسط النحو المنشود، على أنقاض النحو القديم الموجود، متطابقاً مع متوسط إلقاء المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات لدروسهم ـ 9 على 10 منهم يرفعون بحروف الجر في مصر مثلاً ـ وخطاب الإعلاميين وقادة الفكر وقادة السياسة.
تحديث الأبجدية
يقرأ الناس ليفهموا، ونحن نفهم لنقرأ! قرأت هذه الجملة، لطه حسين، لأول مرة منذ عهد بعيد، لكنها مازالت حية في الذاكرة، كما لو كنت قرأتها بالأمس. فقد شخص بها تشخيصاً دقيقاً، لا وظيفية الأبجدية السريانية، التي نستخدمها اليوم. أبجديتنا سريانيّة الأصل، تبناها المسلمون لكتابة القرآن. أما الأبجديّة العربيّة اليمنيّة، فهي التي تُكتب بها اليوم الأمهريّة.
إذا صح منا العزم على تأهيل العربية، لتغدو ناقلة للعلوم في القرن الحادي والعشرين، فلنعطها أبجدية تستطيع بها أجيالنا الصاعدة، أن تقرأ لتفهم علوم عصرها، لأنها لن تستطيع أن تفهم علوم عصرها، لتقرأها بعد ذلك!
شرط الوجوب في الأبجدية المطلوية هو أن تكون وظيفية، صوتية[تكتب كما تنطق]. وذلك بإدخال الصّوتيات، أي الحركات في صلبها، في صورة حروف، بالتّحديد حرف واحد هو الألف (أ)، حتّى نتحاشي تلك النقيصة المؤلمة: اضطرارنا إلى تحديد نطق الكلمات الذي يتوقّف عليه فهم معناها بالتنصيص عليه كتابة: مستعمر (بفتح العين أو كسرها)، مستغل (بفتح الغين أو كسرها) الخ.
الأبجدية السريانية، التي يقول أحد الصحابة أنه تعلمها في ثلاثة أيام، بأمر من النّبي، ليكتب بها القرآن؛ مرت بتطورين على الأقل: إضافة التنقيط والانتقال للرسم القياسي “العلماني”.
التطور الأول: كانت في البدء غير منّقطة، فتبلبلت الألسنه في قراءة القرآن. لوضع حد لفوضى القراءات، وضع نصر بن عاصم، بأمر من الحجاج التنقيط، الذي بسط هذه الأبجدية؛ التطوّر الثاني تمّ بالانتقال إلى الرّسم القياسي الوظيفي، قياساً على الرّسم القرآني البدائي والمعقد، الذي لم يرى ابن خلدون حرجاً في تبديله، لأن الصّحابة الذين وضعوه، كانوا على حدّ قوله “أشباه أميين”. لكن الأصوليّة الإسلامية المتسمرة في عبادة الأموات السحرية ـ الإحيائية، مازالت تمانع في تطوير هذا الرسم، وتقبل أن تكتب“بسطة” بالسين في الآية 247(البقرة) وأن تكتبها بالصّاد في الآية 69 من سورة الأنفال، لكنها وضعت فوق الصاد سينا للإشارة بالنّطق الصحيح! بعد 15 قرناً، مازالت الأصولية الإسلاميّة، تكفّر محاولة إزاحة الصّاد وإحلال السّين المحلق فوقه محله! لأنها تشربت مماثلة القرآن بالأبجدية السريانية، التي كُتب بها، مسقطة قداسته على أبجديته! ولأنها مصابة بشلل عبادة الأسلاف النفسي، الذي هو من أشد أنواع الجنون فتكاً!
الأبجدية الحالية غير وظيفية وتبديلها ضروري. وعياً مني بذلك: في 1971، وضعت بمساعدة خطاط أبجدية عربية جديدة ـ ليست لاتينية بل تنطلق من تجديد الأبجدية العربية ـ منفصلة، وغير منقطة، ولا يشبه حرف منها حرفاً. وأدخلت الصوتيات في صلب الأبجدية، وقضيت بذلك على المشكلة ـ الأم في اللغات السامية: افتقاد الأحرف الصوتيّة، مما جعل هذه اللغات رموزاً سريّة، لا يفكها إلا الراسخون في العلم. وهي حيلة طبقية دبرها رجال الدين، الذين عقدّوا اللغة كما عقدوا الدين، بالقضاء على بساطتهما الأصلية، ليوفروا لأنفسهم احتراف الارتزاق من فك رموزهما. إدخال الأحرف الصوتية الرامزة للفتحة والكسرة والضمة، يجعل العربيّة من أكثر اللغات يسراً في رسمها وقراءتها: تكتب كما تنطق، ويختصر الطفل في تعلمها 5/4 من وقته الحالي، ويمكن بها القضاء على الأميّة في وقت قياسي في قصره. لكن المشروع الذي باركه سلفي مستنير، كالشيخ عبد الله العلائي، لم تتحمس له شركات الصّحف ودور النشر في بيروت لأنه مكلف (...) لكن السبب الحقيقي لإحجامهم، هو ذلك الشلل النّفسي أمام تجديد تراث الأسلاف، هذه العبادة الصوفيّة لماضينا الأبدي، لكل ما هو قائم في عالم أشيائنا المعلبة، وهذا العداء الطبقي الدفين لكل جديد، ولكل ما يقضي على الاحتكار: احتكار السلطة والثروة والثقافة.
إدخال البادئة واللاحقة على الكلمات:
اختزال الصيغ والمصطلحات الطويلة في تراكيب مزجية، ليس جديداً على العربيّة، التي مارسته في طور صعودها: سمعلة، بلكفة، صلعمه واختزلت هذا الأخير إلى (ص). لكن حدث للعربية ما يحدث لكل ظاهرة سوسيو ثقافية في طور انحدارها: تنكرها للحظة صعودها وانفتاحها على التجديد. وهكذا اختفى اليوم الاختزال أو كاد. فباتت المصطلحات تقاس بالسنتمترات. بل إن بعض دعاة الفضائيات يكفر من يستخدم (ص)، بدل صلى الله عليه وسلم كاملة غير منقوصة!
المنهل(د.سهيل إدريس)، هو الوحيد على حد علمي، الذي أدخل البادئة من الفرنسية إلى العربية . وهي مبادرة تذكر له فتشكر، لأنه بدون ذلك لا سبيل لترجمة المصطلحات ذات البادئة(=الصدر حسب الترجمة المجمعيّة) أو اللاحقة (=الكاسعة حسب الترجمة المجمعيّة أيضاً!)بمقابل عربي واحد إلا نادراً. وهي خاصة في العلوم كثيرة الاستعمال. لست أدري لماذا اقتصر المنهل على إدخال البادئة إلى العربيّة، دون اللاحقة؟ ولا لماذا اكتفى بأربعة منها دون الباقي بيفلكي (بين الأفلاك) ضمنووي (واقع ضمن نواة). لكن المنهل ترجم بيبشري (واقع تحت البشرة)، لا ضمبشيري التي تبناها في ضمنووي! ألا تكفينا بلبلة، فنضيف البلبلة التي أدخلناها على شويه المصطلحات، التي أدخلناها، لكي نزيدها بلبلة على بلبله، بالمصطلحات التي لم ندخلها بعد؟ طالما إدخال البادئة واللاحقة مازال في طور التجريب، فإني اقترح تغيير ضم للبادئة أعلاه بدخ(داخل). وهكذا تصير دخنووي(داخل النواة بدلا من ضمنوي) ودخجلدي (داخل الجلد). قبمنطيقي(ما قبل المنطق)، تحفكي (واقع تحت الفك).
اقترح، أن لا نستثني أية بادئة أو لاحقة، لنكون منطقيين مع أنفسنا، فلا نؤمن منها ببعض ونكفر ببعض. أما أسطورة التنافر مع الذوق العربي، التي مازالت تقف عائقاً دون إدخال المصطلحات معربة، فهي عائق ذهني لا أكثر. « لأن الذوق العربي"ليس معطى ميتافيزيقي بل تاريخي، إذن قابل للتطوير. ولماذا يقبل ذوقنا هذه المصطلحات دون استثناء، عندما نستهدمها في لغاتها الأصلية، وينفر منها عندما نستعيرها لإنقاذ العربية من الاندثار بما هي لغة عاجزة عن تبني المصطلحات العلمية والتكنولوجية؟! الذائقة تربية وتعويد. حسبنا أن نربي ذائقتنا، منذ الطفولة، بهذه المصطلحات، لتستسيغها كما فعلت العربية أيام عزها: ايساغوجي، بيداغوجي، ريطوريقا، ارتيمتي إلخ، تكيف معها الذوق العربي العالِم ولم ينفر منها، إلا الذوق الأعرابي الجاهل!
إضافة لاحقة مضتجميد (مضاد للتجميد)، مولمضاد (مولد لمضاد)، معتتطور (مع التطور) فرحموضة (فرط حموضة)، هبحرارة (هبوط حرارة)، حوْجافيه (حول الجافية) بعجليدي (ما بعد العصر الجليدي)، مهتاريخ (ممهد للتاريخ)، فوْواقع (فوق الواقع)، عبْقومي (عابر للقوميات)، شبفْصامي (شبه فصامي).
لا توجد لغة غير قابلة للتحديث. بل توجد نخب غير ناضجة ذهنياً ودينياً لتحديث لغتها. لأنّها لم تع بعد ضرورة ذلك: لأنّها ـ في حالتنا ـ لم تذلل العوائق الدينيّة ، ولم تهزم الأصولية اللغويّة ـ الدينية بعد، سواء منها تلك “اللاّبدة” في أعماقنا، أو تلك التي تجاهد ضد قانون التطور، بالخناجر والرصاص.
تحديث العربية غير منفصل عن حديث المجتمعات العربية. رافعة هذا التحديث هي الثورة الصناعية، التي تعيد تأسيس الذهنية العربية، التي أسسها الدين منذ قرون. فنحاول اليوم الدخول إلى اقتصاد المعرفة بفضل شراكات جهوية، وقارية أوربيّة وأمريكية وربما يوماً ما عالمية. ونحاول أيضاً تحديث الذهنيات بتحديث البنية الفوقية: التعليم، وسائل الإعلام، الثقافة، منزلة المرأة، التشريع، شرط البروليتاريا وبنية اللغة. وأخيراً إصلاح الإسلام.
تحديث التعليم
رهان أساسي يتوقف على كسبه تحديث ذهنية الأجيال الصاعدة، لتأهيلها للدخول بقدم راسخة إلى عصر المعرفة بتكوين “عمال المعرفة” التقنيين، المهندسين، الباحثين، الأطباء والعلماء. لكن التعليم مازال في العالم العربي، تعليماً تقليدياً أصولياً يزرع في وعي الناشئ الغض العوائق الدينية ـ الذهنية، التي تعتقل فهامته وتشل إبداعيته، حائلة بينه وبين الانتقال إلى مجتمع المعرفة العالمي القادم، الذي ستعرف الإنسانيّة فيه خلال العقود الثلاث القادمة، ضعف ما عرفته منذ عشرات آلاف الأعوام من تاريخها. وهكذا سيُقضي على القاعدة الأساسية للتعصب الأصولي: الجهل. إذ سيصبح بإمكان “أي تلميذ أن يتابع على الكمبيوتر تقليد ملحمة الحياة على الأرض، ابتداء من بكتيريا المحيط البدائي، منذ حوالي أربعة مليار سنة إلى الآن، ويحقّب مسار تطورها بدقة”. إذا كانت معارف الإنسانية تتضاعف اليوم كل عشر سنوات، فإنها في الثلاثين سنة القادمة ستتضاعف كلّ سنيتن. وهكذا فالتعليم المعاصر لعصره، أي المتكيف مع آخر المستجدات المنهجيّة والاكتشافات العلمية، بات رهانا حاسماً. فمن فاته قطار تعليم حقاً حديث، يصنع أدمغة مساوية كماً وكيفاً لأدمغة المدارس والجامعات الغربيّة والعالميّة الأرقى، فاته قطار المستقبل. ومن بُعد النظر، في نقد الذات، أن نعترف بأن المدارس والجامعات العربية والإسلامية، التي مازالت تسودها الأيديولوجيا الأصولية، تتخصص أكثر فأكثر في تخريج الأميين بالمفهوم المعاصر للأميّة: التخلف عن مسايرة التقدّم العلمي ناهيك عن تكفير علوم الحداثة، التي كفّرها سيد قطب “في معالم في الطريق”.
ما قاله سيد قطب، ردده الشيخ الشعراوي في كتابيه “معجزة القرآن” و“الأدلة المادية على وجود الله”، اللذين يُدرسان ابتداء من هذه السنة في المدارس المصرية، لتدمر عقول 800 ألف تلميذ مصري، كما أوضح ذلك كمال حامد مغيث، في الأسبوعية الدستور! في الجزائر مازالت المؤسسة المدرسية، هي المصنع الأول لتخريج الأصوليين والإرهابيين! “حتى أنه لو تسلم الإسلاميون السلطة، لما غيروا شيئاً من البرامج التعليمية من المدرسة إلى الجامعة” كما صرح بذلك جامعي جزائري لليومية الفرنسية لوموند! النخبة الجزائرية الحاكمة، لا تعوّل إلا على الحل الأمني، للقضاء على الإرهاب الأصولي، مستهترة بالحلين الناجعين حقاً: التربوي والاجتماعي، اللذين يجففان منابعة تجفيفاً، من دون إراقة قطرة دم واحدة.
نموذج تحديث وترشيد التعليم، في العالمين العربي والإسلامي، يمكنه أن يستلهم ـ كنقطة انطلاق ـ البرنامج التّونسي، الذي حدّث التّعليم بجميع درجاته تحديثاً واعداً: الفلسفة الحديثة ـ بدل علم الكلام كما في كثير من الدول العربيّة والإسلاميّة الأخرى ـ تُدرس في السنتين الأخيرتين من التّعليم الثانوي، التربية الدينيّة، المتخلفة والمخلّفة للعقول، التي كتبها أقصى اليمين الإسلامي بالتواطؤ مع يمين الحزب الاشتراكي الدستوري في السبعينات، استبدلت بكتاب: “في الفكر الإسلامي المستنير”، ابتداء من هذه السنة، أدخل تدريس السسيولوجيا الدينيّة إلى الجامعة الزيتونيّة، بعد إدخال تاريخ الأديان المقارن إليها السنة الماضية. وهما علمان أساسيان، لا غنى عنهما في الدراسات الدينيّة، لتعليم الناشئة التفكير بنفسها، للتّمييز بين الأسطوري والتاريخي في التّراث، تأهيلاً لها لمعاصرة عصرها، حتى تغدو قادرة على صياغة مشروع مجتمعي: الحداثة رائدة والعقلانيّة منطلقه.
تحديث وسائل الإعلام:
تحديث الإعلام، رهان أساسي. لأنه إذا كانت المؤسسة التعليمية، تضطلع بـ 20 % من مهام الثورة الإعلامية العالمية، التي تعصف عصفاً بالمجتمعات المغلقة، وبقايا التفكير القروسطية، فإن الراديو والتلفزيون يتكفلان بالـ 80 % الباقية. تحديثها يعني جعلها ـ أساساً منبراً لتنوير وعي مستمعيها ومشاهديها، بدلاً من تظليمه بدعاية دينية متخلفة ومخلّفة للأذهان ـ . هنا أيضاً، يقتضينا نقد الذات الاعتراف، بأن وسائل الإعلام العربية مرصودة غالياً، لترويج الفكر الأصولي مباشرة أو مداورة: أليس التلفزيون المصري مثلاً منبراً للإرهاب الأصولي؟ ألم يكن أحد الذين أفتوا بإعدام فرج فودة كمرتد، يطل بانتظام من شاشته الصغيرة على ملايين المشاهدين، لكنها ما تزال مغلقة دون رواد الحداثة، كالصديق الأستاذ محمود أمين العالم مثلاً؟
تحديث الثقافة:
الثقافة، بما هي تطوير للفكر النقدي، هي مهمة حاسمة، من مهام الطليعة العلمانيّة المناهضة تعريفاً لكلّ حقيقة مطلقة، متمثلة بقولة أوجست كونت: “لا توجد إلا حقيقة واحدة مطلقة هي أن لا شيء بمطلق”. الفكر المناهض بامتياز لوهم الحقيقة المطلقة، هو الفكر التطوري القديم والحديث: من ديموقرطيس، أبيقور، لوكريس، الذين استشفوا بعبقرية فذة نظرية التطور ـ التي هي لب الحداثة ـ إلى مسكويه وإخوان الصفا، الذين اكتشفوا اكتشافا رائداً: وحدة الأنواع الحية: النباتية، الحيوانية والبشرية. وهو ما تشهد له اليوم الهندسة الوراثية، التي برهنت على أن البرنامج الوراثي للبكتيريا، للزهرة، للبقرة، للقرد وللإنسان واحد. لولا العائق الابستمولوجي، الذي شكله سفر التكوين، بإضفاء الشرعية الإلهية، على أسطورة الخلق من عدم السومرية ـ البابلية، القائلة بنظرية ثبات، فيكسزيم، الأنواع، ضد تطورها، لكانت الإنسانية قد قطعت منذ قرون شوطاً بعيداً في مسار انتقالها من الأسطورة إلى التاريخ، من الميتوس إلى اللوجوس. من مهامنا أيضاً التّعريف برواد العقلانية في العالم، الذين لا يكاد يعرفهم أحد. مثل: اريستارك الصاموصي، الذي دافع على حقيقة مركزية النظام الشمسي، ضد أسطورة مركزية الأرض، التي فرضها على العقول سفر التّكوين.
ترجمة الفكر النقدي، العلم والتكنولوجيا عامل أساسي في تحديث وترشيد الثقافة العربيّة، التي مازالت، بقطاعها السّائد، ما قبل حديثة وما قبل نقديّة.
تحديث منزلة المرأة:
بمدرسة الفتيات، اللواتي يكابدن أعلى نسبة أميّة في العالم العربي والإسلامي؛ بإقرار المساواة في حقوق المواطنة الكاملة بين الرّجل والمرأة، تطبيقاً للاتفاقية الدوليّة لمنع التمييز ضد المرأة، التي لم تدخل حيّز التطبيق في البلدان العربيّة إلى اليوم؛ بإلغاء قوانين الأحوال الشخصيّة التي تعامل المرأة بما هي “ناقصة عقل ودين”، أي قاصرة مدى الحياة، وتعويضها بقوانين أحوال شخصيّة وضعيّة، كقانون الأحوال الشخصيّة التركيّة، الذي ساوى بين الرّجل والمرأة في جميع الحقوق، بما في ذلك المساواة في الإرث، وألغى حدّ ـ عقوبة الزّنا، الذي مازال نساء إيران والسعوديّة والسّودان يكابدنه؛ القانون الإسلامي، في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية، الذي دخل حيز التطبيق منذ 9 يونيو 1996، إضافة لكل العقوبات الهمجيّة المرصودة للمرأة، يحرض الرّجل، الذي يجد امرأته مع رجل آخر، بأن يقتلها ويقتله دون أن يتعرض للعقاب!
تحديث القوانين العربية:
بتوحيدها مع التشريعات الوضعية في العالم؛ بالمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، بقطع النظر عن انتماءاتهم الخصوصية.
تحديث شرط البروليتاريا:
حقوق الإنسان الأولية، المنتهكة يومياً في العالمين العربي والإسلامي، هم حقوق النساء وغير المسلمين والأقليات والعمال. من العدل تمتيع جميع هذه الفئات بحقوقهم الإنسانيّة، حتى يرتفعوا من منزلة الحيوان إلى منزلة الإنسان بالحقوق والكرامة. على جميع الدّول العربيّة والإسلاميّة، أن تتبنى قوانين العمل الحديثة، وتوصيات “مكتب العمل الدولي” في جنيف، لنفس الغاية.
تحديث العربيّة:
لا يمكن تحديث العربيّة حقاً إلا في مجتمع حديث، فاللغة مرآة المجتمع الذي أنتجها، وكما يكون هو تكون هي وعلى صورته هو تكون صورتها هي. قطاع واسع من المثقفين والأكاديميين، الذين يئسوا من تحديث العربيّة، بتبنيها لمعجم المصطلحات العلميّة والتكنولوجيّة العالمية، هجروها إلى الكتابة عن الشؤون العربية باللغات الأجنبية. ربما كانوا يكررون، بعد أربعة قرون، خطأ لايبنيتز، الذي يئس مثلهم من تحديث الألمانيّة، فازدراها وكتب فلسفته وإسهاماته العلميّة باللاتينيّة والفرنسيّة.لأن الألمانيّة لم تكن تصلح في نظره، لتكون لغة فلسفة وعلم. لكن التاريخ كذّب ظنه. فبعده ببضعة عقود، كتب بها كانط فلسفته. ومذ ذاك غدت لغة الفلسفة بامتياز في أوربا والعالم!
كتاب هشام جعيط الأخير، عن محمّد، الذي كتبه مباشرة بالعربيّة، مستخدماً فيه بعض المصطلحات الغربيّة، مثل الميتي، بادرة موفقة.