مهما يكن من أمر القضايا والإشكالات التي تتخلل المصادر التقليدية القديمة فإنها تبقى في نهاية المطاف السند المرجعي الذي لا غنى عنه للمهتم التواق إلى بلورة تصور أولي، أو سبك فرضية معينة؛ كما أن محدودية وقصور قيمتها التاريخية لا تعني ضرورة الطعن في نسغها المنهجي وإقصاءها من حلبة البحث التاريخي، بل ينبغي الحفر والنبش في تجاويفها لاستبطان ما تختزنه من معطيات اقتصادية واجتماعية على قلتها مع تفادي السقوط في دوامة التأويل البعيد الذي يفضي إلى خلاصات مبتورة، واستنتاجات ناقصة.
مما لا جدال فيه أن الطفرة النوعية والكيفية التي يشهدها الغرب في صيرورة البحث التاريخي تمتح ميكانزماتها من التطور الهائل الذي اخترق نتوءات حقل العلوم الإنسانية، فتطورت تبعا لذلك مناهج البحث وأدوات العمل، وتنوعت المجلات المتخصصة، وتعددت التيارات والاتجاهات الفكرية والإيديولوجية حيث أضحى من الصعوبة بمكان احتواء سيولها الجارفة، والقبض على ناصية فروعها الدقيقة مما ساهم في إثراء قاعدة الخطاب التاريخي أفقيا وعموديا من خلال خلخلة واقتحام المؤرخ، سراديب فضاءات جديدة كالاهتمام بتاريخ الطقس، والموت، والأشجار، والحيوانات وغير ذلك من الاهتمامات التي تصب برمتها في إطار تنويع وتعميق أساسيات المعرفة حول الإنسان والمجتمع الخ. بل يمكن الجزم بأن تضاريس الذاكرة الغربية بمشاهدتها اليومية، وترسباتها الشعورية واللاشعورية قتلت بحثا ودرسا وتأويلا، الأمر الذي انبلج عنه في نهاية المطاف "أزمة في الموضوع" حاول تخفيف حدتها، وتلطيف مخاضها بتوجيه الاهتمام نحو دراسة تاريخ الشعوب غير المكتوب والذي لم يكتب بعد، وهي عملية تستمد مرجعيتها الفكرية من الاستراتيجية البعيدة المدى التي توخت بعض المدارس التاريخية –مدرسة الحوليات- بلورتها على أرض الواقع.
سؤال يجرنا بالضرورة إلى استجلاء الميكانزمات المتحكمة في صيرورة واقع البحث التاريخي بالمغرب وهو واقع يمكن اختزال إحداثياته في الأسئلة الاستفهامية التالية:
ـ أين التاريخ المغربي، والمؤرخ المغربي من هذه المساهمات الجذرية التي استهدفت البحث التاريخي؟
ـ استفحل في غضون العقود الأخيرة الحديث عن بداية تراكم كمي وكيفي في مسار البحث التاريخي المغربي. هل لغة الأرقام قمينة بإصدار حكم نهائي وقاطع على واقع البحث التاريخي وآفاقه المستقبلية؟ أم أن لغة الأرقام لا تمثل معيارا حقيقيا وسليما لضبط مسيرته؛ وحتى لو سلمنا جدلا بأن حجم الكم كبير فهل هذا يعني أن مجمل المرجعيات لها نفس القيمة العلمية، ويحكمها نفس الحس التاريخي؟
ـ توشح مجمل المرجعيات المنشورة والغير منشورة عناوينها بـ"مساهمة". هل هذا يؤشر موضوعيا على أن ملامح ومعالم الصورة لم تكتمل بعد، وأن تقاليد البحث العلمي لا تزال في منعطف الطريق، وتتقلب بين مسارات البحث عن هوية تاريخية وطنية؟ بمعنى آخر هل عمر حصيلة الاستقلال غير قادرة على وضع قاطرة البحث التاريخي على سكته الصحيحة؟
ـ تطفح افتتاحيات المؤرخين المغاربة بالدعوة الصريحة والمضمرة إلى "إعادة كتابة تاريخ المغرب"، فهل تعني مدلولات وأبعاد العبارة أن تاريخ المغرب لم يكتب بعد؟ فماذا كتب منه؟ ومن يعيد كتابته وبناء عناصره إذن؟
ـ تصب صيحات المؤرخين المغاربة في سياق الدعوة إلى قراءة تاريخ المغرب بعيدا عن الإسقاطات المجانية والتأويلات الفضفاضة العائمة لدهاقنة المؤسسة الاستعمارية. ما هي طبيعة هذه القراءة؟
هل هي قراءة تتجاوز دوامة الزيف الإيديولوجي، وتسعى إلى تكسير وتهديم المسلمات والمطلقات الاستعمارية؟ أم هي قراءة سجينة هذا الإطار المرجعي، ومن ثمة السقوط في فخ المسلمات والمطلقات بوعي أو بدون وعي؟
ـ يستشف من المحاولات الداعية إلى إعادة كتابة تاريخ المغرب أنها تروم تكوين أو بلورة "مدرسة" وطنية لكتابة التاريخ المغربي. هل حصيلة "التراكم" الحالي يخول إمكانية الحديث عن مدرسة وطنية أمام خطاب تاريخي لا يزال يعيد إنتاج نفسه قلبا وقالبا؟ أم أن السعي إلى بلورة مدرسة وطنية مجرد أمان غارقة في عمق المستقبليات ليس إلا؟
ـ يستخلص من محاولات المؤرخين المغاربة تلك الدعوة إلى بناء وترصيص خطاب تاريخي يتسم بالتنوع والاختلاف، ويستمد أصوله وآلياته من صميم الواقع المغربي مع الانفتاح طبعا على المنهجيات الحديثة التي أفرزها تطور حقول العلوم الإنسانية، هل البناء والانفتاح يتبلوران بمعزل عن تحديث عقلية المجتمع؟ أو بكلمة أكثر وضوحا هل عقلية المجتمع تملك من وسائل التحدي والاستجابة ما يؤهلها لترسيخ مرتكزات بديلة في سيرورة الخطاب التاريخي المغربي؟
يجدر بنا بعد استجلاء بعض الميكانزمات المتحكمة في نسيج واقع البحث التاريخي بالمغرب تحديد وضبط مورفولوجية المشاكل التي تكبح جماح مسيرته، وتحول دون انطلاقته، ولو أنه من باب المغامرة الإمساك بكل خيوط المشاكل التي تمثل قطب الرحى في بنية البحث التاريخي المغربي، لذلك فكل ما نود التوصل إليه في حقيقة الأمر مجرد فتح قوسين كبيرين حول أبرز المشاكل التي تطرحها المصادر التقليدية.
1 ـ تاريخ المغرب وإشكالية المصادر:
لا مراء في أن المصادر التاريخية بمختلف أنواعها تمثل بدون منازع المادة الأساسية التي يستقي منها ويؤسس عليها المؤرخ فرضياته النظرية وبناءه التاريخي، بيد أن عملية الاستقصاء والتأسيس تصطدم بسلسلة من الصعوبات والعراقيل تمتح ميكانزماتها من بنية وهيكلية المتن المصدري في حد ذاته، وهي صعوبات وعراقيل تحول دون تزويد الباحث بما يمكنه من استبطان الجوانب والقضايا التي تكرس وتخدم الموضوع المراد دراسته، ويمكن إيعاز تجليات وتمظهرات ذلك إلى العوامل التالية:
1.1 - سطوة الرؤية البطولية بين طيات المتن المصدري: حيث تعطى للفرد الأولوية، والجبرية المطلقة، والأثر الحاسم في صيرورة الفعل التاريخي، بل ويتمظهر داخل نسق الحدث التاريخي كحقيقة ثابتة بوصفه المركز والعقدة من شبكة العلاقات النشطة، الأمر الذي أضفى على منحنيات المتن المصدري خاصية ومسحة مميزة "عبارة عن سجل منقبي للخلفاء والوزراء والأعيان. فالخليفة عند المؤرخ السني هو ظل الله في الأرض والقادر على صنع التاريخ، والإمام عند الشيعة هو الذات المعصومة من الخطأ، والتي تقود الإنسانية إلى النور بعد أن هوت"().
ولم يقف المتن المصدري عند حدود إحاطة البطل بهالة من القداسة بل تعداه إلى عرض أوصاف دقيقة عن الملامح الجسدية والخطابية، من ذلك مثلا الوصف الذي خص به عبد الواحد المراكشي الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف بن عبد المومن قائلا "كان أبيض، تعلوه حمرة، شديد سواد الشعر، مستدير الوجه، أفوه، أعين إلى الطول ما هو، في صوته جهارة، رقيق حواشي اللسان، حلو الألفاظ، حسن الحديث، طيب المجالسة"().
ونفس الوصف خص به عبد الواحد المراكشي الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي الكومي حيث قال "وكان أبيض ذا جسم عمم تعلوه حمره، شديد سواد الشعر، معتدل القائمة، وضيء الوجه، جهوري الصوت، فصيح الألفاظ، جزل المنطق، وكان محببا إلى النفوس، لا يراه أحد إلا أحبه بداهة"().
إنها تفاصيل وجزئيات انحشرت وانطمست في ثنايا تلافيفها حياة المستضعفين في الأرض والفئات المنتجة من عامة الناس التي ترد عرضا، وفي سياق الأحداث.
2.1 - غلبة إيديولوجية السلطة الحاكمة بين دفتي المتن المصدري التقليدي حيث حرص رجال البلاط من جهة على مراقبة الإنتاج التاريخي "نظرا لحساسيته التاريخية"() ومن جهة ثانية "البحث عن الوسائل لتبرير السلطة غير قوة الجيش"() من خلال توظيف مؤرخين في أعضاء حاشية الدولة. فلا غرابة والحالة هذه أن يتستر المؤرخ الرسمي على "الحقائق كلا أو بعضا، وفي أحسن الأحوال، يغدق من الإطراء على المحاسن، ولا يبالي بالمآخذ والمثالب"().
ونجد في التاريخ المغربي، كما في غيره، مصنفات ورسائل تعكس بالملموس انجراف المؤرخ وراء إيديولوجية الطبقة الحاكمة التي "يعتقد –صادقا مع نفسه- أنها تمثل وجهة النظر الحقيقية"() بل يتجشم مشاق البحث والتحري عن الجوانب التي تخدم سياسة الطبقة الحاكمة إلى حد تزييف وتحريف الحقيقة، وهو ما عبر عنه صراحة المؤرخ الرسمي للدولة البويهية أثناء كتابته لتاريخ بني بويه "إذ سئل عما يفعل فقال أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها"().
وقد أثارت عملية تحريف الحقيقة عن مقاصدها وأهدافها والتي تصب في بوتقة إيديولوجية الطبقة الحاكمة ثائرة مطهر المقدسي الذي حمل بشدة على "المتطفلين على التاريخ، والمشوهين له من أرباب القلانس، وأصحاب المجالس الذين طلبهم العلم لا الله، ولا لأنفسهم، ولكن للتصدر والتقدم فهم يأخذونه من غير مظانه"(). ثم ندد بتأثير هؤلاء على الطبقة الشعبية حيث "شحنوا صدورهم بترهات الأباطيل، وضيعوا نفوسهم بالأسمار والأباطيل. فهم إلى ناعق سراع، وعن كل ذي حق بطاء، وللمتبع متعرضون، وعن الواجب معرضون، المحق فيهم مبطل(…) والمخالف لهم مقهور، والناظر مهجور، والحديث لهم عن جمل طار أشهر إليهم من رواية مروية… فهذه الخطة كانت سبب حرمان العلم وتهجين أهله(…) وتسهيل القادحين بالصخب والشغب والشنعة، ورد العيان وجحد البرهان"().
1.3 - هيمنة الخطاب العجائبي: وهو خطاب يستند على الخوارق والمعجزات لتمرير إيديولوجية معينة، أو تكريس قضية بعينها، وللبرهنة على مشروعية ومصداقية البعد العجائبي نورد مثالين يحملان أكثر من دلالة وبعد نظر.
يتحدث أبو الحسن علي الجزنائي في كتابه زهرة الآس في بناء مدينة فاس عن نهر فاس قائلا: "لا وليس لهذا النهر نظير لصفائه، وعذوبة مائه، وخفته، وبرودة عيونه في زمن الصيف، وسخانتها في زمن الشتاء، وهو يسخن سريعا، وينهضم سريعا… ومن منافعه أنه يفتت الحصا التي تكون في المثانة، ويزيل الصيبان من الرأس، والقمل من الجسد لمن اغتسل به، وداوم على شربه، ويلين البشرة، وتغسل به الثياب دون صابون، فيبيضها، ويكسوها رونقا وروائح طيبة"().
يتحدث عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتابه فتوح إفريقية والأندلس أن "عقبة بن نافع غزا إفريقيا فأتى وادي القيروان فبات عليه هو وأصحابه حتى إذا أصبح وقف على رأس الوادي فقال: يا أهل الوادي اطعنوا فإنا نازلون. قال ذلك ثلاث مرات، فجعلت الحيات تنساب والعقارب وغيرها مما لا يعرف من الدواب تخرج ذاهبة، وهم قيام ينظرون إليها من حين أصبحوا حتى أوجعتهما الشمس، وحتى لم يروا منها شيئا"().
نستشف من المثالين الآنفي الذكر ملاحظتين أساسيتين:
ـ غلبة النزعة العصبية التي تسقط أحيانا بوعي أو بدون وعي في مهاوي المبالغات المفرطة (المثال الأول).
ـ تضخيم الخيال إلى حد الانحراف عن جادة الصواب والصدق، فالحقيقة حسب المؤرخين أن عقبة بن نافع لجأ إلى تدبير عملي لطرد الوحوش والزواحف وهو إشعال النيران في الأعشاب والشجيرات.
1.4 - تطابق وتجانس محتوى النصوص المصدرية القديمة، وهو تطابق تتمظهر جوانبه في إعادة استهلاك نفس الأخبار والروايات حول حادثة أو واقعة معينة بطريقة اجترارية حرفية، اللهم بعض الاختلافات الطفيفة والهزيلة التي تمس التفاصيل، فإذا قارنا مثلا ما ورد من أخبار حول المسألة البرغواطية نخرج بحقيقة لا غبار عليها هي استنساخ رواية البكري قلبا وقالبا من قبل الأسطوغرافية التقليدية اللاحقة (ابن خلدون، ابن عذاري، ابن أبي زرع، صاحب الاستبصار..)
والحكم نفسه ينطبق، وينسحب على مساحات متشعبة من مصادرنا التقليدية، ومع ذلك فإن ملاحظتنا هذه لا تعني كما قد يتبادر إلى الذهن تجريدها من قيمتها وإجرائيتها التاريخية على غرار ما فعله المستشرق ليفي بروفنصال ومن سار على شاكلته.
مهما يكن من أمر القضايا والإشكالات التي تتخلل المصادر التقليدية القديمة فإنها تبقى في نهاية المطاف السند المرجعي الذي لا غنى عنه للمهتم التواق إلى بلورة تصور أولي، أو سبك فرضية معينة؛ كما أن محدودية وقصور قيمتها التاريخية لا تعني ضرورة الطعن في نسغها المنهجي وإقصاءها من حلبة البحث التاريخي، بل ينبغي الحفر والنبش في تجاويفها لاستبطان ما تختزنه من معطيات اقتصادية واجتماعية على قلتها مع تفادي السقوط في دوامة التأويل البعيد الذي يفضي إلى خلاصات مبتورة، واستنتاجات ناقصة·