ورد هذا السؤال عنوانا لمقالة نشرت في أسبوعية courrier internationnal، العدد 137، ضمن خانة لسانيات، يوم الجمعة، 17 ديسمبر 2010، لوليد القبيسي، وهو من أصل عراقي، ويقطن بالنرويج منذ 1980. ونظرا لما يتضمنه المقال من مغالطات، ومجازفات غير ناضجة، وغير مسؤولة، ارتأينا الرد على عدد من متبنياته اللغوية الخاطئة. سنلخص بعضا من هذه التصورات، والاستدلالات، ثم نرد بمناقشة عامة.
تصورات الكاتب واستدلالاته: تلخيص
يرى هذا الكاتب أن اللغة العربية تعاني من التراجع، ولا تُسعف إلا في ترتيل الشعائر الدينية، والترحم على الأموات. والسبب، عنده، يعود إلى العلاقة الوثيقة بين اللغة، والثقافة العربية المهيمنة. فهذه الثقافة، يقول، تقوم على ثلاثة ركائز: القومية العربية، والإسلام، واللغة العربية. وما أن يُمس واحد من الأسس الثلاثة حتى تنهار الثقافة كاملة، وكل مس بأس منها يعد مسا بالمقدسات، وانتهاكا للحرمات.
ويذهب إلى أن هذه العلاقة سبب إعراض غير العرب عن العربية، ومثاله على ذلك أكراد العراق، ومسيحيو جنوب السودان، وأقباط مصر. ففي رأيه، قل اهتمام الأكراد بالعربية منذ 1990، واعتبر سودان الجنوب قرار الرئيس، سنة 1990، تعريب التعليم، واعتباره واجبا دينيا، سعيا إلى جعل العربية وسيلة للهيمنة الدينية؛ وأصبح الأقباط يستعملون اللهجة المصرية في منتديات الأنترنيت، رفضا لعلاقة الدين باللغة.
إن مسلمو أوروبا، يقول، ما كانوا ليتعلموا اللغات الأوروبية، لو كانت مرتبطة بالدين المسيحي. ثم، إن ثلثي المسلمين من غير العرب لا يتكلمون العربية، ومع ذلك، لم يتراجعوا عن الإسلام.
لقد فشل صاحب المقال، كما يحكي، في جعل أربعة من الطلبة النرويجيين يُتقنون اللغة العربية، رغم اعتماده طرقا جامعية.و اكتشف، وهو يحاول تفسير فشله، أن العربية الأدبية (littéraire) لغة مكتوبة، لكن غير متكلمة، وأن أغلب الكتاب العرب لا يتفوقون في فرض أنفسهم إلا بعد سن الأربعين، ذلك أن تعلم العربية يقتضي وقتا أطول مما تتطلبه اللغات الأوروبية.
إننا نضيع الوقت في تعلم التركيب la syntaxe)). فالأقلية من المختصين هم الذين يتمكنون منه. يقول في هذا السياق: فعلا، يعد التحليل النحوي مشكلا رئيسا يُتعب المدرسين، ويحول دون تعلم القراءة، والكتابة.
يقترح التخلي عن النحو، وتبني اللهجات العربية لغات، لأنها تستغني عن التركيب. بل، إن هذا الاستغناء يُمثل دليلا أولا، عنده، على أن العرب يمكن أن يتعلموا اللغة دون دراستها :sans l’étudier، بتعبيره. فاللهجات، يقول: ردمت الهوة بين المكتوب، والمتكلم.
من ملاحظاته أن المغاربة، والعراقيين، والفلسطينيين، واللبنانيين، والتونسيين ، لا يتكلمون العربية، ولا يتفاهمون، في الآن نفسه، باللهجات. واللهجات، بدورها، تتباعد عن بعضها. وفي السياق نفسه، يشير إلى أن اللغة النرويجية تغيرت عما كانت عليه منذ خمسين سنة. فقد أصبحت تُتكلم كما تُكتب، والفضل في ذلك يعود للسماح للهجات بدخول الإعلام.
إن العربية، في رأيه، تعاني من فقر حقيقي، وإن الدلالة على الجمل، مثلا، ب: 6000 كلمة، ليس غنى، طالما لا نستعمل كل هذه الكلمات.
مناقشة عامة ورد
إن العربية متراجعة في المجال العلمي، وغير متخلفة، كما يقول هذا الكاتب، في كل شيء. والدليل على ذلك، التعبير الدقيق، والجميل، والعميق في الكتابات العربية. أما التراجع في القطاع العلمي، فسببه، فيما نعلم، تبعية السياسات العربية للغرب لأسباب تاريخية، وسياسية، واقتصادية، وتاريخية، وثقافية.
ولا يمنع الإسلام، والقومية العربية، اللغة من التطور، بل، إنه تخاذل الحكومات العربية. ولعل استقرار الرجل في النرويج نروجه إلى أن أعماه عن الحقائق في العالم العربي، ولم يعد يرى من العوائق غير الإسلام.
ويعد ربطه تضاؤل اهتمام أكراد العراق بالعربية منذ 1990، تناقضا ضمنيا، ذلك أن السنة تشير إلى الوضع السياسي الذي بدأ في العراق، وهو ما عُرف بحرب الخليج الثانية، أو عاصفة الصحراء. بمعنى أن الوضع المجتمعي الجديد هو الذي تسبب في الإعراض عن العربية، لا الثلاثي: إسلام، قومية، عربية.
ولا يعكس استعمال الأقباط اللهجة المصرية في المنتديات تخلف العربية للارتباط بالدين، فقد يكون الدافع حميمية هذه المنتديات :الحديث بين الأصدقاء، مثلا، أو ضيق الموضوعات المناقشة، ومحدودية المعارف المطروحة.
وقد يُحدث قرارلغوي ما ردة فعل سلبية، ولا يكون الدين سببا، وإن فهم الناس ذلك، بل، القرار الذي لا يعتبر لغات الأقليات.
ولا يتعلم المسلمون اللغات الأوروبية، لأنها لا ترتبط بالدين المسيحي، وإنما للحاجة للاندماج، والانفتاح، أو لأغراض منفعية أخرى.
ويتناقض الرجل حين يشير إلى أن ثلثي مسلمي العالم لا يتكلمون العربية، ومع ذلك لا يتراجعون عن الإسلام، إذ ما هو الفرق بين مسلم لا يتكلم العربية، ومسلم يتكلم العربية؟ لماذا لا يكون الإسلام عائقا إلا حين يكون عربيا؟
أما تجربة الفشل في جعل طلبته النرويجيين يتقنون العربية، رغم اعتماده الطرق الجامعية، فالرد عليه هو: إذا كان الرجل روائيا، وصحافيا، كما قدمته الأسبوعية، فما علاقته بتخصص تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها؟ أ لا يعلم أن ذاك أمر يتطلب تأهيلا خاصا؟
وأما اعتباره العربية لغة مكتوبة غير منطوقة، فخاطئ، إذ ليس هناك لغة تُكتب، ولا تُتكلم، باستثناء اللغات الميتة. ويكفي أن يتصفح الإعلام العربي ليدرك حيوية اللغة العربية، وانفعالها باللهجات، وإغناءها للعاميات. إن ما نفتقر إليه هو رصد التجديد، ودرسه، وتصنيفه، إن على المستوى الوطني المحلي، أو القومي العام.
و من المضحك أن يُقر الكاتب أن الكتاب العرب لا يفرضون أنفسهم إلا بعد سن الأربعين، وأن العربية تتطلب وقتا، مقارنة باللغات الأوروبية. فمعلوم أن من الأطفال العرب معبرون، متذوقون للغة، ومن المراهقين من يكتب خواطرا، وشعرا، ومن الشباب من يكتب القصة، والرواية، والمقالة، والقصيدة.
ولا يبين لماذا تتطلب العربية وقتا دون غيرها من اللغات، أليست العربية لغة طبيعية مثل سائر اللغات؟ كيف يُجازف باقتراحات خطيرة، وينشرها في إطار دولي، وهو لا يُدرك أن من غير المنطقي، ولا الطبيعي مفاضلة اللغات.
كما أنه من الغريب اعتبار دراسة تركيب اللغة العربية مضيعة للوقت. فإذا كان صحيح أن الشكوى من صعوبة النحو عامة، فإننا نشعر بالمشكل النحوي أكثر، لأنه قواعد، وحسابات تحتاج برامج خاصة، ومناهج معينة، ولا شك أن تيسير النحو مرتبط بتبسيط العربية، عموما. وكيفما كان الحال، فليس هناك لغة لا يُدرس نحوها بدعوى صعوبته.
ثم، إن الكاتب حين يقول : النحو يعوق تعلم القراءة، والكتابة، يجهل حقيقة بيداغوجية بالغة الأهمية، وهي أن القراءة، والكتابة، تمكنان من النحو، ومن التحكم في ميكانيزماته، ومن تيسير تعلمه.
ثم إن اللهجات لا تستغني عن التركيب، والكلام نفسه يمكن تسجيله، وإخضاعه للدرس. ويزداد الأمر التباسا بفكرة اكتساب العربية دون تعلمها: sans l’étudier، كما يقول،إذ ليس من لغة طبيعية لا تُدرس، أو لا تُتعلم، إذا اعتبرنا المقصود التعلم: apprendre.
ومن العجب، اقتراح التفاهم باللهجات رغم اكتشاف أن العرب من بلدان عربية مختلفة لا يتفاهمون بها. فهل يقتضي المنطق الدعوة للتواصل بالعربية المشتركة، كونها عامة، ورسمية، ومنمطة، ومكتوبة...أم باللهجات، التي، مهما وُحدت لا تلبث حتى تختلف باختلاف البيئات، والخصوصيات المحلية؟
وإذا كان الإعلام النرويجي قد أسهم في توحيد اللغة النرويجية، فإن الإعلام العربي، والعربية المعاصرة، عموما، تزخر بالجديد، والحي، القابل للاندماج، لكن غياب الإرادة، هو ما يحول دون سيرورات التقريب، والتوحيد. بعبارة أخرى، إن العلاقة بين الحياة اللغوية، والأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية ، هو الإشكالية، لا العلاقة بين الدين، واللغة، كما يزعم الكاتب.
ويخلط الكاتب بين غنى العربية المتمثل في وجود آلاف الألفاظ للمعنى الواحد، وفقرها لعدم استعمال هذه الألفاظ، ذلك أن التعدد يدخل ضمن ثروة اللغة، بينما، يندرج الاستعمال في مدى توظيف اللغة بحسب ما يتطلبه الظرف الآني.
وعموما، لا يُميز منقذ العربية بين عربية اللهجات الموظفة للكلام المتغير، السريع التبدل، المستعصي على الكتابة، وعربية التاريخ، والمجد، والماضي، والمصير المشترك، المنمطة، والمقعدة، والرسمية. ولأنه، لا يُفرق، يدعونا للتواصل باللهجات، رغم أنه لاحظ، هو نفسه تباعدها، واختلافها..
ثريا خربوش
كلية الآداب- المحمدية