آخر مقالات التاريخ والتراث
المزيد
تاريخ وتراث
لا يمكن اختصار منزلة السّؤال في كونه شكلاً وحيداً ومستقلاًّ من أشكال الخطاب الأدبي في مدوّنة التوحيدي، فهو يخترقُ أكثر من شكل فنجده في التّناظر كما في المنافرة وقد يكون أيضاً مُنطلقاً للرّواية والتّذاكر وغيرها. وليس المقصود هنا بالسّؤال مجرّد السّؤال العاديّ ذي البُعد التّواصلي بالأساس وإنّما السّؤال المُولّد للتّفكير ذي البعد التبصّري، فهو آليّة تفكير وأكثر منه مجرّد أداة تواصل وتبليغ، وهو الحامل لمُشكل معرفي قد يتجاوز الاستخبار ولا يتطلّب بالضّرورة إجابة مُحدّدة أو إجابة واحدة. هو تقريباً شبيه بالسّؤال التّوليدي* بالمعنى السّقراطي أي في معنى المُساءلة المستمرّة لتوليد المعارف والوصول إلى نتيجة مفادها أنّه لا توجد إجابة نهائيّة. وفي الكتاب الثامن من "المواضع " لأرسطو والمُخصّص لـ"ممارسة المُحادثة الجدليّة "نجدُ تنظيراً مخصوصاً بمنطق الأسئلة وتمشّياتها باعتبارها آليّة ضروريّة تسبق الفهم وإطلاق الأحكام وسمّاه "علم السّؤال*" وهو علمٌ واصفٌ للطّرق والآليات التي تُطرحُ بها الأسئلة على المُحاور.
ولا يخفى أيضاً أهميّة السّؤال بالنّسبة للمفكّرين والفلاسفة ما بعد أرسطو، فـ"كارل يسبرز" مثلاً اعتبر الأسئلة أهمّ من الأجوبة في عمليّة التّفلسف، دون اعتبار طبعاً أنّ كلّ إجابة مفترضة تتحوّل بدورها إلى سؤالٍ فلسفيّ جديد، ومنه يُستنتج أنّ السّؤال الحامل لمشكل معرفي، بالقدر الذي يبعثُ فينا الدّهشة والتّفكير، يظلّ حاملاً في نفس الوقت لقوّته وحيويّته ومُتأبّياً عن الانغلاق والفناء في الإجابة. "والقُدرة على السّؤال تعني القُدرة على الانتظار ولو كان ذلك مدى الحياة كلّها"([1]) على حدّ عبارة هايدغر، ويقصد بذلك أنّ السّؤال الأصيل يظلّ متجذّراً في الجواب إلى ما لانهاية وهو ما يؤكّده في سياقٍ آخر مشابه قائلاً: "كلّما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطّرق إلى المُنقذ تلمعُ بجلاء أكبر، ونُصبحُ أكثر تساؤلاً، ذلك أنّ التّساؤل هو قمّة التّفكير"([2]). ويذهبُ "موريس ميرلوبونتي" بعيداً في تناول فلسفة السّؤال بأن يمنحه بُعداً أنطولوجيّاً، أي أنّ الوجودَ الإنساني في حدّ ذاته سؤالٌ ومنذ أوّل سؤال يبدأ الإنسان في تخطّي عتبة الحيوانيّة ففي "المرئي واللاّمرئي" يقول: "إنّ الأسئلة مُحايثة لوجودنا، لتاريخنا، فهي تولد بداخلها، وتموت بداخلها كلّما حصلتْ إجابةٌ ما، وفي غالب الأحيان فإنّها تتحوّل بداخلنا"([3]).فكأنّما الأسئلة لا تموت باعتبارها جوهر الإنسان، وحتّى الإجابات لا تُنهي المساءلة بل تظلّ مستكنّة فيها، فهي في النهاية أسئلة مُقنّعة وإن ظهرتْ بمظهر الإجابات.
إن الحديث عن تجديد الخطاب الديني في الفكر العلماني الحداثي يدعونا للوقوف على عنصرين مهمين أعتبر أنهما المكون الأساس لخطاب التجديد لدى التيار العلماني، أما أولهما فهو الاجتهاد؛ ماذا نقصد بالاجتهاد، وما هي حدوده وأبعاده؟
والعنصر الثاني، و هو المصلحة؛ ماذا نقصد بالمصلحة وما هي حدودها وأبعادها؟
إن الانطلاق في تحرير هذه الورقة من هذين العنصرين سيصل بنا في الأخير إلى النتيجة المطلوبة، وهي الوقوف على أبعاد دعوى تجديد الخطاب الديني وأهداف هذا المشروع.
لقد تعمدت أن أبدأ بالاجتهاد قبل التجديد، لأن الاجتهاد يعتبر مدخلا للتجديد في الفكر الحداثي، على اعتبار أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا بالاجتهاد، لذلك لا بد من تحديد معنى الاجتهاد أولا إذ من خلاله يمكن أن ندرك حقيقة التجديد بمعناه الحداثي.
لست أريد أن أتتبع أصول هذا المصطلح الأصولي المحض بقدر ما أريد أن أنطلق من تحديده لدى علماء الأصول، ثم مراحل تطوره إلى أن تغيرت معالمه ودلالاته لدى الفكر الحداثي، وذلك حتى لا نكون متسرعين في إصدار أحكام مسبقة حول الموضوع.
لقد عرف مفهوم الاجتهاد تطورا كبيرا داخل الحقل المعرفي الديني ذاته، إذ أنه انتقل من كونه معنى من معاني القياس كما نجده مع الشافعي، فالاجتهاد عنده لا يخرج عن دائرة القياس حتى قال: " والاجتهاد القياس"[1]، وحتى إذا تجاوزه فإنه لا يتعداه إلا للقياس الخفي (الاستحسان)، " ولم يكن دالا على بذل الجهد لاستنباط الأحكام من النص وفي ذاته"[2]، وهذا المعنى الأخير لا نكاد نجده إلا مع تطور هذا المفهوم عند الأصوليين خصوصا بعد القرن الخامس الهجري إذ أنه أصبح بمعنى " استفراغ الوسع في النظر في الأحكام الشرعية"[3]، وبذلك نجد أن معنى الاجتهاد قد تجاوز القياس إلى أن أصبح يطلق على النظر في دلالات النص والبحث في أبعاده ومقاصده، خصوصا إذا كان النص ظني الدلالة. وبالتالي فإن دائرة الاجتهاد قد اتسعت مع تطور علم الأصول منذ الشافعي إلى مابعد الشاطبي، وإذا رجعنا إلى الخطاب العلماني فإننا نجد أن وجه المطابقة بينه وبين الأصوليين في تفسير معنى الاجتهاد لا يختلف في ظاهره، إلا أنه أصبح من الضروري عندهم رفع تلك الشروط التي وضعها الفقهاء للاجتهاد، وترك المجال مفتوحا لكل التيارات الفكرية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية، وذلك من خلال " حل مشكلة شروط الاجتهاد [...] تلك الشروط التي وضعها العقل الفقهي منذ أكثر من ألف عام واعتبارها ضوابط وقواعد للاجتهاد حتى في العصر الحالي وفي كل العصور"[4]، فالاجتهاد في الفكر الحداثي مختلف في عمقه عن معناه الشرعي الذي عرفه الفقهاء، إذ أصبح الاجتهاد بمعنى (التأويل الجديد للإسلام)، " وفي اعتقادنا فإنه حان الوقت لدعم ما يسمى "إسلام التأويل الجديد" لأنه يحاول فتح باب الاجتهاد مرة أخرى [...] وإسلام التأويل الجديد يحتوي على تيارات مختلفة واتجاهات عديدة"[5] ، وبهذا المعنى يصبح الاجتهاد وتأويل النصوص الدينية متاحا للجميع فضلا عن أهل الاختصاص من فقهاء وعلماء، وإذا كان الاجتهاد من المنظور الحداثي بهذا المعنى فإننا نقول؛ إن الخطاب الحداثي لم يستوعب ـــ حتى الآن ـــ معنى الاجتهاد كما قررته المنظومة الفقهية، ولم يقف على معانيه وأبعاده وإن حاول ترصدها، ثم إن الادعاء بسد باب الاجتهاد أمر غير مسلم به، وأي اجتهاد يقصدون؟
يمثل هذا المقال حصيلة أولية لعمل مجهد، امتد على مدى أزيد من أربع سنوات متقطعة، في محاولة قراءة وفهم العوار الكرنولوجي المزمن لمصادر السيرة النبوية، وينطلق من سؤال واضح و بسيط. هل كانت وقعة بدر الكبرى بين المسلمين بقيادة النبي محمد بن عبدالله، والمعارضين لدعوته من قبيلته قريش، بزعامة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، في: "يوم الجمعة لست أو سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان"[1] من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق في الكرنولوجيا السائدة يوم الثلاثاء - أو الأربعاء تنزلا - 16 مارس 624 ميلادية غريغورية؟ وهل كان ثمة إجماع قديم حول هذا التأريخ في مصادر السير والمغازي؟ أم أن هناك من تجرأ وأرخ هذه الوقعة العظمى خارج رمضان الجمهور؟
نعم هذا هو التأريخ وموافقه الشمسي الميلادي! يمكن للقارئ أن يتجاوز المفارقة الزمنية القائمة فيه بالهروب إلى الأمام، متذرعا بالهلال، يمكنه أن يزعم أن الزمن النبوي زمن مقدس عصي على القبض، مفارق لأي محاولة للضبط، بل أكثر من ذلك، يمكنه أن يتهم الإصلاح الغريغوري بخلخلة نظام الأيام.
قد يجادل أيضا في أن الشهر شهر رمضان، وإن الخلاف قديم في العدد دون اسم اليوم والشهر رادا بذلك روايات متظافرة ينصر بعضها بعضا عن شهود عيان، تضاهي في حجيتها الروائية لدى المحدثين والمؤمنين بقداسة الرواية أحاديث شعائر الإسلام، لصالح تـأريخ ترقيعي ثابت كلنداريا في شهر النسي المواطئ للتأريخ السائد: "الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت[2]" من شهر جمادى الأولى النسي المواطئ لشهر رمضان العدة المستقيمة من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق 19 مارس 624 ميلادية غريغورية، وتأريخ يوم الخروج إلى بدر تبعا لذلك، بيوم "الاثنين لثمان خلون"[3] الموافق 8 مارس 624 م. غريغورية، وهو تأريخ ابن هشام. أو بتاريخ ابن اسحاق "الأربعاء لثلاث خلون"[4] الموافق 3 مارس 624م.غريغورية، بيد أن المفارقات في تأريخ وقعة بدر الكبرى أكبر من أي حل ترقيعي جاهز، وبمناسبة الحديث عن المفارقات، فإن هذا التأريخ السائد لبدر الكبرى، هو أيضا جمادى النسي وربيع أول شبح على رأس خمسة وعشرين شهرا، أرخ به الواقدي مقتل خنيس بن حذافة السهمي ربما ثاني اثنين قتلا ببدر؟ أو وفاته بالمدينة مرجع النبي منها، وزواج عثمان بن عفان من أم كلثوم بعد وفاة أختها رقية والرسول ببدر، وهو أيضا تأريخه لغزوة ذي أمر ولسرية محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف؟!
بقدر ما يبدو هذا السؤال نوعا من الترف الفكري، فإن الضبط الزمني للواقعة التاريخية يعتبر بالنسبة لنا عاملا أوليا حاسما في الرقابة على الرواية الشفوية، ومنخلا يسمح بفرز الخبر التاريخي وتصنيفه وإضفاء طابع المصداقية التاريخية عليه، بل والبناء عليه كنقطة مرجعية في تركيب تصور ذهني عن الوقائع التاريخية السابقة واللاحقة وفق منظور اتساقي واضح، ومن ثمة الخروج بسردية تاريخية تقارب الحدث التاريخي العام من زاوية العلاقات السببية والسياقية القائمة بين مجموع الأحداث المتشابكة التي تفاعلت في صناعته. بل لا نبالغ إن قلنا: إن زحزحة تأريخ واحد يمكن أن يطيح بكامل السردية، فاتحا بذلك الباب لذاكرة الهامش المقصي من الحضور، للبروز والتجلي في أبهى الصور.
يكتسب هذا السؤال في واقع الأمر جدته وجديته، بالنظر إلى الاستعادة المحينة لكل وقائع الإسلام المبكر على مدى التاريخ الإسلامي كأحد أهم طقوس حفظ الذاكرة الروائية من الاندثار؛ وفي سياق فكري عالمي يتسم براهنية السؤال عن الإسلام المبكر، وبمراجعات لتاريخية هذا التاريخ ومصداقيته، بوضعه على محك الاختبار و الدرس الأكاديمي المبعثر الرؤى هنا وهناك، و بطروحات أضحت أكثر سماجة والتصاقا بخيالات أصحابها من أي وقت مضى، تاركة "المعطيات الهشة القابلة للتلف" التي حملها التقليد الروائي على مدى عهود طويلة من الزمن، في نوع من الجحود والإنكار لمجهود خرافي بالقياس إلى تاريخ أي أمة أخرى في بداياتها المبكرة. وبدل الاستعادة المتكررة لهذه الذكريات النبوية الحاضرة في المعيش اليومي لجميع المسلمين، فإن الوقوف عندها بالدرس والتحليل والنقد المتجاوز لتقديس الرواية الشفوية وأقوال السلف لكفيل بخلق عقلية أخرى أكثر جدلا في مقارعة الخصوم الثقافيين لهذا التراث، و بناء تصور تاريخي أكثر اتساقا وتصالحا مع بعضه البعض أولا وأخيرا.
بهذا المعنى، فإن المفارقة القائمة في تأريخ وقعة كبرى من حجم وأهمية بدر القتال تضع كل فهمنا التاريخي أو جزء منه على المحك، وإن استمرار مثل هذا العوار الكرنولوجي المزمن في مصادر تاريخ الإسلام، يعيق بناء أي تصور حقيق بالاعتبار والإنصاف الموضوعي النسبي لما هي عليه الأمور في واقع الأمر، مما يزيد من حدة التشويش الروائي والضبابية القائمة حول عدد من الوقائع والأحداث المرتبطة بالسيرة النبوية، وبتاريخ الإسلام المبكر بشكل عام.
قال السهيلي " وولد بالغفر من المنازل وهو مولد النبيين". ومنزلة الغفر لمن لا يعرف من منازل القمر، يوافق طلوعها السنوي تقريبا الثاني عشر من شهر نونبر ؟؟ وقال الذهبي "نظرت في ان يكون مولده صلى الله عليه وسلم في ربيع وأن يكون ذلك في العشرين من نيسان - شهر أبريل- فرأيته بعيدا من الحساب يستحيل أن يكون مولده في نيسان إلا أن يكون مولده في رمضان" (سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي -ج 1- ص 336).
ولد الرسول محمد بن عبد الله حسب الرواية السائدة بمكة، يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وبعث يوم الاثنين على رأس الأربعين من عمره الشريف في شهر رمضان، وقدم المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد ان بعثه الله بثلاث عشرة سنة، وتوفي - بعد عشر سنين كوامل- يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، في العام الحادي عشر للتاريخ العمري. (السيرة النبوية، ابن هشام الحميري- ج 1 ص 155. ج 2 ص 427).
ثمة أقوال أخرى غيبت في قاع الذاكرة الروائية، فقيل لاثنتي عشرة خلت من رمضان. وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر. وقيل في المحرم لخمس بقين منه...، ليستقر قول جماهير أهل السنة بالخصوص على ما ورد أعلاه من تقرير لا يخلو من اشكالات و تناقضات حسابية، في ظل استحالة مولده بربيع الأول لما كانت بعثته في شهر رمضان على رأس الأربعين من عمره الشريف؟ واستحالة مواطأة هذه الأثانين المذكورة كلنداريا، ما يجعلها والحالة هذه أياما شبحية لا وجود لها في الرزنامة السائدة، وأقرب إلى تواريخ محددة بالتقدير الحسابي الارتجاعي؛ أكثر من كونها أخبارا أصيلة عن شهود عيان. ولم يتجاوز الاخباريون على ما يبدو فيما يخص تحديد تأريخ المولد سقف طرح 53 عاما، وهي عمره الشريف ساعة هجرته - كما نص على ذلك ابن اسحاق في السيرة- من تأريخ وصوله إلى المدينة في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، الموافق في الكرنولوجيا السائدة شتنبر 622 ميلادية، ثم أضافوا إليه عشرة أعوام كاملة، لتكون وفاة النبي بالتالي في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من العام الحادي عشر للتاريخ العمري، الموافق يونيو 632 ميلادية. فكأن القوم لم تتوفر لهم من كسور الأيام إلا الثاني عشر فاحتاجوا إلى اعتبار جل مدد مراحل دعوته مددا كاملة بعمليات طرح وجمع لا أقل ولا أكثر، ليكون الناتج دائما هو الثاني عشر من ربيع أول، فكان تقريرهم مولده في الثاني عشر من ربيع الأول حاصل عملية حسابية لا محصلة رواية عن شاهد عيان، وأنى لهم ذلك وربيع قريش ربيع ضلالة لا ربيع عدة مستقيمة؟
كتاب من تأليف الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1987، قبل أن تعيد مؤسسة هنداوي نشر هذا العمل في طبعة عصرية مؤخرا. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية، تدور في مجملها حول رصد مَواطن القصور التي تعتور تعاطي نماذج من الفكر الإسلامي المعاصر مع قضايا مصيرية يتوقف عليها مصير الأمة، وذلك في سياق الصعود الكاسح لما سمي وقتئذ ب "الصحوة الإسلامية"، التي اكتسحت المشهد الفكري والمجال التداولي في أعقاب انحسار تأثير التيارات الأيديولوجية المنافسة (قومية، اشتراكية، ليبرالية).
أولا: في نقد مضمون الصحوة الإسلامية
إن تعبير "الصحوة" - الذي يُستخدم عادة لوصف حركات الإسلام السياسي وتيارات سلفية متعددة - لا يخلو من لبس وتضليل، فالصحوة على مستوى الكم واتساع قاعدة المنتمين إلى تلك التنظيمات لا تعني البتة صحوة على مستوى المضمون الفكري المتعلق بها، لأنه أقل عمقا وجرأة من السلفية الإصلاحية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إبان عصر اليقظة العربية.
وتأسيسا على ذلك، يضيء المؤلف على مظاهر ذلك العجز الفكري، وفي جملتها الإمعان في التركيز على الجوانب الشكلية من العقيدة (اللباس، الشعائر التعبدية...الخ)، والذي يقابله عدم امتلاك رؤية واضحة وعملية فيما يخص القضايا المصيرية التي تتوقف عليها نهضة المجتمعات (التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، العلاقات الدولية... الخ).
ثانيا: لماذا لا نمتلك رؤية واضحة للمستقبل؟
إن التفكير المستقبلي المبني على أسس علمية، والمرتكز على التخطيط والرؤية المتبصرة واستباق المشكلات قبل وقوعها، لم يجد طريقه بعد إلينا سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات ما خلا حالات محدودة، الشيء الذي يفضي إلى استفحال المشاكل البنيوية واستعصاء حلها (مديونية الدول، الانفجار السكاني، عدم تنويع الاقتصاد بالنسبة للدول الغنية بالموارد النفطية المعرضة للنضوب... إلخ).
وعليه، ينبه فؤاد زكريا إلى أهم الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة المقلقة، ولعل من أبرزها الاعتقاد بأن المستقبل ليس من صنع البشر وإنما هو في علم الغيب ويدخل في نطاق المشيئة الربانية، وهو التصور الذي يُسقط من حساباته دعوة الدين إلى إعمال العقل والأخذ بالأسباب. ولما كان عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المرجع الأساسي والأمثل للتقدم في إطار الرؤية الإسلامية السائدة، فلا يمكن أن يكون المستقبل المنشود إلا إحياء لذلك التاريخ بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي يفسر سيادة النظرة التشاؤمية للتاريخ بدل النظرة التطورية والتصاعدية.
أن تدرج السنة النبوية كنص مقدس، يضاهي في حجيته النص القرآني، وأن يمنحها فقهاء الإسلام الشرعية التشريعية، على الرغم من كل المؤاخدات الموضوعية التي ووجهت بها، إن قديما أو حديثا، فإن ذاك ما يتطلب تسليط الضوء على مناطق العتمة العديدة التي تعتري تراثنا الديني.
يجمع فقهاء الإسلام أنفسهم، على أن السنة النبوية ليست إلا ظنية الثبوت، كما وأنها ليست كلها قطعية الدلالة. يقول النووي: " وذكر الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) أن ما روياه أو أحدهما (البخاري ومسلم) فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر."(1) . وحيث إن الاختلاف هو السمة المميزة في كل القضايا التي خاض فيها رجال الدين المسلمون، فإننا نجدهم هنا وقد اختلفوا كذلك فيما إن كانت المرويات الحديثية قطعية الثبوت أم ظنية. إلا أن النووي يؤكد في هذا النص، على حقيقة أن أكثرية " أهل العلم" ، تذهب إلى كونها ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة. وهذا ما أكده الفقيه الأزهري محمد شلتوت حين قال " وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لا بد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول ما يجب التنبه إليه في هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة... ومتى لحقت الحديث على أي نحو ...فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا في وروده وفي دلالته " (2)
وإذا ما نحن علمنا؛ أن نسبة الأحاديث المتواترة لا تكاد ترى بالمقارنة مع أحاديث الآحاد، إذ لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسون حديثا من أصل آلاف الأحاديث المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة؛ (مسند أحمد وحده يضم بين دفتيه ما يقارب 38 ألف حديث) خلصنا؛ إلى حقيقة أن المدونة الحديثية السنية ظنية الثبوت، ولا يصح بالتالي الأخد بها، وهذا بمعايير أهل السنة أنفسهم، وتطبيقا لقاعدتهم الفقهية القائلة بــ: "ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا ما يحيلنا على حجم معضلة التشريع في الإسلام.
ولعل أسئلة مشروعة تطرح نفسها هاهنا؛ إذ كيف يعقل أن نجعل من السنة النبوية "وحيا إلهيا ثانيا" كما أصل لذلك فقهاء الإسلام، وهي ظنية الثبوت؟ وكيف يمكن اعتبارها "وحيا إلهيا ثانيا" وهي تخالف الوحي الأول (القرآن) في العديد من مواضعها؟ وكيف يمكن منح الشرعية التشريعية لأصل من دون أن يكون قطعي الثبوت؟
لقد ووجهت المدونة الحديثية السنية بالكثير من الانتقادلات إن قديما أو حديثا، تخص بالأساس ما تضمنه مثنها من غرائب وأساطير وأحكام، تخالف في العديد منها القرآن نفسه، وتخالف العقل والعلم والفطرة الإنسانية السليمة، وتشرعن للظلم، والقهر، والميز العنصري، والعنف، والكراهية... فكيف يمكن القبول مثلا؛ بمنظومة فقهية تشرعن قتل المرتد، بناء على حديث تشوبه عيوب كثيرة على مستوى السند كما المثن (من بدل دينه فاقتلوه)، في الوقت الذي يؤكد فيه نص قرآني صريح الدلالة، على حرية العقيدة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؟ سورة يونس الآية 99.
لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.
وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون بإطلاقهم لفظة النص؟
وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟
وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:
يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]
ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]
ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]
ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]
مقدمة..
أنْ توظّف المصطلح التراثي القديم في الكتابات الحديثة، يُقلل من قيمتها وقوتها؟ أم أنَّ التّخلّي عن المصطلح القديم وهجرانه والتنكر له بدعوى أنه لا يؤدي أو لا يُوصِلُ إلى المراد والمبتغى من النص، يعطي النص قيمة أكبر وإبداعا؟ وهل أمام التغييرات الطّارئة والوافدة من الغرب، وتسارع النظريات النقدية، وفي إطار ما يُسمّى بالمثاقفة، أصبح من الضروري على الكاتب الانخراط في هذه الموجة بدعوى مسايرة ما جدَّ في عالم الكتابة والنقد لإثبات قدراته على المواكبة والتطور؟
بين الإحياء والاحتفاء..
بما أن الكتابة دعوة إلى اكتشاف الاستثنائي والمنسي في اللغة، ـ إذ، لا يكتب الكاتب إلاّ إذا كان لديه دافع قوي لموضوع جديد، لغة وتيمة ـ والجميل والمدهش في السرد والحكي، وبما أن اللغة تُميّزُ نصّا عن نص، وتُعلي نصا وتخفض نصّا، بترويض مصطلحاتها واستخراج مكنوناتها الدلالية، وبما أن اللغة هي المُشَكّل الأساس لكل سرد، بل هي السرد ذاته، وبما أن اللغة كائنٌ حي، وانسجامٌ وتناغمٌ ونظامٌ، ونسجٌ يحتاج لقلم درب يشد القارئ دون أن يُشعره بتجوال النص وصراعه بين الحديث من المصطلحات وقديمها، بالحفاظ على المستوى الفني للنص، والخيط الجامع والنّاظم للسرد ليكون لبنة قوية ومتماسكة، وبناء معماريا مترابطا ومتراصّا بعضه ببعض، فإنّ حركية المصطلحات القديمة تحيى زمانها، ويتلاشى بريقها حين يقل استعمالها، وتتطور بتطور الحركات الحضارية أو الفكرية أو العلمية، وكل تحول في المسيرة الإنسانية عموما من تقدم فكري أو علمي يؤثر بالضرورة على المصطلح القديم، لكنه لا يموت، قد يركن إلى الظل، لكنه أبدا يظل في انتظار من يبعث فيه الحياة، ويسمح للمصطلح الجديد أن يحيى زمانه هو الآخر، مؤثّرا ومتأثرا بما يموج من حوله من تفاعلات نقدية وإبداعية وعلمية، مانحا لنفسه مكانة قوية راسخة تتجدد بتجدد اللغة.
إن توظيف المصطلح القديم في الكتابات الحديثة، لا بد أنه عمل شاق يحتاج إلى كاتب يفني أكثر وقته ـ حين كتابة نص ما ـ جُهدا وتمحيصا ومسْحا شاملا مضنيّا وذكيا للمعاجم العربية، لتدقيق المصطلح والمفهوم الدّال على المعنى المراد طرحه، كما يقتضي إلْماما كافيا وتفكيرا بلُغةٍ تمَّ نسيانها وإهمالها، والثقة فيها بأنها ما زالت قادرة على إيجاد صِيغٍ للتعبير وإيصال المعاني، مع استثمار ما تمنحه اللغة من أساليب الكتابة لإنتاج نص جميل بأثر قرائي جميل، وتأثير متميز يجعل القارئ يعود إلى منابع اللغة، والبحث في المعاجم، الشيء الذي افتقدناه حين قراءة أي نص أدبي غني بالمصطلحات.
إن أول ما ينبهنا عليه الكتاب، هو أنه يصعب علينا القول بالفصل بين علمي "الأصول" و" الكلام"، " مادام أن هناك تداخلا وتواصلا بين العقدي والعملي في التجربة الإسلامية الأولى"[1] خصوصا وأن المصنفين في علم الأصول كان أغلبهم ذا مرجعية كلامية، إذ أن الجانب العقدي يمثل ذلك التوجيه النظري أو الإيديولوجي للممارسات العملية داخل المجتمع، وخصوصا الممارسة السياسية نظرا لأهميتها في تحقيق استقرار المجتمع والسهر على تنظيمه.
لقد كان الهدف من إثارة هذا الموضوع هو الوقوف على تلك العلاقة الجامعة بين العالم والسلطان، والتي كما يصفها الأستاذ الوضيفي " علاقة مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى"[2]، وما كان ذلك كله إلا لأجل الاستئثار بالنص الشرعي من طرف السلطان وتأويله حسب ما تقتضيه مصلحته الخاصة ، ومن جهته يسعى الفقيه أيضا لحفظ هذا النص من التلاعب به على يد السياسيين ولي عنقه. وهذا مادفع الشافعي لوضع قانون يضبط به بعض المصطلحات الأصولية التي أصبحت مشحونة بشحنات سياسية كمصطلح البيان الذي عرفه بأنه "اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"[3]
وما كان ذلك منه إلا لأجل إعادة النظر من جديد في تلك المصطلحات والمفاهيم، في سعي منه لجعل تلك المصطلحات ذات معاني شرعية محضة لا تكاد تفهم إلا من طرف العالم المتخصص الذي يدرك أسرارها وحقيقتها الشرعية، وذلك حتى لا يتسنى لأحد أن يتجرأ على تفسير النص الشرعي أو تأويله حسب الهوى، " وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول اللهﷺ أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق"[4]ماخلق صراعا بين العالم أو الفقيه ورجل السياسة أو السلطان.
أصبحت الكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة تحلل موضوع "الهويات الأوروبية"، أو تستخدم مفهوم "الهويات" في دراسة الاتحاد الأوروبي. وهذا أمر لا يمكن قوله عن المراحل السابقة في دراسات الاتحاد الأوروبي. حتى وإن تناوله بعض الرواد المؤسسين لدراسات الاتحاد الأوروبي في أعمالهم. على سبيل المثال، عرّف عالم السياسة الأمريكي المتخصص بالعلاقات الدولية "إرنست هاس" Ernst Haas التكامل الأوروبي بأنه عملية تنطوي على "تحول الولاءات" من قِبَل "الجهات الفاعلة السياسية في العديد من البيئات الوطنية المتميزة" إلى "مركز سياسي جديد.
في حين أدرج آخرين "الشعور بالمجتمع" في مفهوم للتكامل. إن الاهتمام الأكاديمي المتزايد بدراسة الهويات في أوروبا يستجيب لما تسميه بعض الباحثين "الدوافع الخارجية" و"الداخلية". إن الاهتمام الأكاديمي بالموضوع هو استجابة للتغيرات "على الأرض"، أو المحركات الخارجية. لقد كان سياق ما بعد الحرب الباردة، وما بعد ماستريخت، وحتى ما بعد "الحرب على الإرهاب" سياقاً حيث أصبح التكامل الأوروبي وأنواع معينة من الجدل حول الهوية أكثر إثارة للجدال. وقد أثار هذا تساؤلات حول العلاقة بين الهوية، من ناحية، وشرعية مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وآفاق الديمقراطية ذات المغزى خارج الدولة ومستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته من ناحية أخرى. وعلاوة على ذلك، أدى التوسع الكبير والمستمر للاتحاد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واحتمال عضوية تركيا، والصراع المتزايد حول التعايش بين التقاليد المسيحية والإسلامية والعلمانية في المجتمعات الأوروبية، إلى زيادة التنوع الثقافي في الاتحاد الأوروبي وأهمية المناقشات حول الهوية. ومع ذلك، فإن الاهتمام الأكاديمي بالهويات الأوروبية يعكس أيضاً تطور المناقشات النظرية حول الاتحاد الأوروبي، أو المحركات الداخلية. ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن الاهتمام المتزايد بقضايا الهوية مع بداية ما تم وصفه بالمرحلة الثانية "تحليل الحكم" والمرحلة الثالثة "بناء الاتحاد الأوروبي" من بناء النظرية، والتي تركز المزيد من الاهتمام على قضايا السياسة والسياق الاجتماعي للتكامل الأوروبي.
«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]
«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]
فاتحة:
أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.
المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!
تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمهاجريها العرب، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المستوطنة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين العرب المقيمين والمستوطنين في دول القارة، والبالغ عددهم زهاء العشرين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".
والسؤال كيف الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة عرب أوروبا مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي عرب أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية العرب الأوروبيين، ولا نقول العرب في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالوعي الديناميكي بمفهوم العروبة، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع العربية أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.
التاريخ ليس مجرد تتابع لأحداث متفرقة أو حوادث متوالية، بل هو نسيج معقد تشكله قوى عميقة وتحركات فكرية واجتماعية تصنع مصير الشعوب والحضارات. ولطالما كان فهم المحركات الكبرى للتاريخ الشغل الشاغل للفلاسفة والمفكرين، الذين سعوا لتفسير كيف ولماذا تتغير الأمم، ولماذا تزدهر الحضارات وتنحدر، وما القوى الكامنة التي تقود هذا المسار اللامتناهي من التبدّل والتحول.
لقد شهدت الفلسفة الغربية إسهامات متنوعة، حيث يُعد هيجل من أبرز الفلاسفة الذين قدّموا تفسيراً للتاريخ من منظور مثالي، عبر مفهومه الشهير "الجدل" أو الديالكتيك الهيجلي، والذي ينظر للتاريخ على أنه صيرورة من الأفكار المتصارعة والمتكاملة. فبالنسبة لهيجل، يقود الصراع بين الأطروحة ونقيضها إلى "تركيب" أعلى، مما يحفّز التقدم نحو حرية الروح وتطور الفكر الإنساني. وفي هذا السياق، يشير هيجل إلى أن التاريخ هو مسيرة نحو تحقيق الحرية المطلقة والعقلانية، إذ يرى أن الدولة تجسد "الروح المطلقة" التي تتجلى في الواقع المحسوس، ممهدة الطريق لفهم دور القيم والأفكار في تشكيل التاريخ.
لكن على الجانب الآخر، جاء كارل ماركس ليقدم تفسيراً مادياً لظواهر التاريخ، متجاوزاً المثالية الهيجلية إلى ما سماه بـ المادية التاريخية. فقد رأى ماركس أن التاريخ محكوم بالبنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج، وأن الصراع الطبقي بين الطبقات المسيطرة والمهمشة هو القوة المحركة الأساسية للتغيير. وفقاً لماركس، تنتقل المجتمعات عبر مراحل تاريخية (مثل العبودية والإقطاع والرأسمالية)، حيث يُنتج كل نظام شروط زواله. إن الثورة والصراع الاجتماعي، في نظر ماركس، هما المحركان الأصيلان للتاريخ، حيث ينتهي الصراع الطبقي عند تحرر البروليتاريا وتأسيس المجتمع الشيوعي.
تعتبر الذاكرة الثقافية شرطا أساسيا من شروط قيام الحضارة، ومن أسس نشوء وتبلور الجماعات البشرية عبر التاريخ. بحيث يمكن القول عموما بأنه لا حضارة ولا هوية حضارية بدون ذاكرة ثقافية.
سأحاول في هذه الورقة أن أقف عند بعض جوانب الارتباط بين السينما المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية. بأي شكل تصوغ السينما بوصفها واحدة من أهم الفنون الحديثة، كيف تصوغ علاقاتها بهذه الذاكرة الثقافية الشاملة؟ و كيف يؤسس الفن السابع، ضمن سياق خاص هو هنا السياق المغربي، تصورات ثقافية شاملة تجدد البناءات العريقة للذاكرة المغربية؟
1 - الذاكرة الثقافية .. محاولة للتعريف:
يعتبر الباحث و الأستاذ الجامعي الألماني يان أسمان (1938 – 4202) الذي كان عالم حفريات متخصصا في التراث المصري القديم أهم من تصدى لهذا المفهوم بالشرح و التحليل حيث خصص له مؤلفا مستقلا بعنوان " (2)
يميز أسمان بين أربعة أنواع من الذاكرة هي على العموم الذاكرة المحاكاتية وذاكرة الأشياء والذاكرة التواصلية، وبعد أن يعرف كل واحدة من هذه الذاكرات، يخلص إلى أن الذاكرة الثقافية تتميز بشكل خاص بكونها ترتبط أساسا بالمعنى. يقصد بذلك أنها تتجاوز المستوى النفعي المباشر للذاكرات الثلاث السابقة لترقى إلى مستوى أكبر يرتبط ببناء وترسيخ المعنى. هكذا عندما تأخذ الأفعال و السلوكات المحاكاتية وضعية " طقوس" rites أي عندما تكتسب معنى يتجاوز وظيفتها النفعية في الحياة اليومية، فإننا نخرج حينئذ من الميدان المرتبط بالفعل (أو العمل) و ندخل في ميدان آخر أرحب هو ميدان الذاكرة الثقافية. وذلك لأن الطقوس هي عبارة عن نمط لنقل ولتخليد المعنى الثقافي. و نفس الشيء بالنسبة للأشياء عندما لا تكتفي بأن تظل مجرد أشياء نافعة، فهي تشحن بالمعنى: رموز، أيقونات، تمثلات من قبيل شواهد القبور، قبور، أضرحة، أوثان، إلخ... هي جميعها تتجاوز أفق ذاكرة الأشياء، من خلال جعل المؤشر الزمني و الهوياتي المستتر، جعله ظاهرا و واضحا للعيان". والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من الميزان الذي يرمز للعدالة، والمنجل الذي يرمز لطبقة الفلاحين، والحمامة التي ترمز للسلام وكذلك الصفيحة والخاتم.. هذا مع العلم أن لكل حضارة رموزها الخاصة بها التي تشكل عمقها و ثوابتها الثقافية العميقة. (3)
انطلاقا من هذه المقارنات و التمايزات يتضح إذن بشكل جلي أن الذاكرة الثقافية حسب أسمان تستقر على نقاط ثابتة في الماضي. و حتى في ذلك، لا يمكن الحفاظ على الماضي على هذا النحو، ولكنه مجمد في اشكال رمزية تعلق بها الذاكرة. من ذلك يعطي أسمان على سبيل المثال قصص الأنبياء، و قصص الخروج، و عبور الصحراء، و الاستقرار في الأرض الموعودة، و المنفى، و هي هذه الأشكال الذاكرية التي يتم إحياؤها احتفاليا خلال الأعياد، والتي تضيء هذا الوضع أو ذاك في الوقت الحاضر. و يعتبر أن " الأساطير هي أيضًا أشكال و نماذج من صلب الذاكرة: هنا يصبح التمييز بين الأسطورة والتاريخ تمييزا عفا عليه الزمن. بالنسبة للذاكرة الثقافية، ليس التاريخ الواقعي هو المهم، ولكن التاريخ كما نتذكره. ويمكن القول أيضًا إن الذاكرة الثقافية تحول التاريخ الواقعي إلى موضوع للتذكر، وبهذه الوسيلة، تحوله إلى أسطورة. الأسطورة هي قصة تأسيسية، قصة يُطلب منها أن تضيء الحاضر في ضوء أصوله. (...) في الذاكرة، يصبح التاريخ أسطورة. فهو لا يصبح غير واقعي ؛ بل على العكس من ذلك، عندئذ فقط تصبح حقيقة، أي أنها تأخذ قوة معيارية وتكوينية دائمة ". (4)
يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.
ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.
فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة "هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب". وقام بتكرار هذا الكلام في الخطاب الهزلي الذي ألقاه في الكونغرس الأمريكي في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2024. وكان نتنياهو قد أعرب عن هذه الفكرة مراراً وتكراراً، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ــ وهي فكرة مفادها أن إسرائيل معقل للحضارة الغربية في منطقة غير حضارية ومتخلفة وبدائية.
إن ذكره لكلمة "الغابة" يذكرنا بتعبير إسرائيلي شائع، منسوب إلى رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" Ehud Barak قبل ثلاثة عقود من الزمن، مفاده أن إسرائيل "فيلا في الغابة". والغابة في هذه الحالة هي العالم العربي، والفلسطينيون فيه هم «غير الآدميون» بامتياز.
لكن الفكرة تعود إلى إلى المفكرين الصهاينة الأوائل. أراد "تيودور هرتزل" Theodor Herzl الأب النمساوي المجري للصهيونية الحديثة، إنشاء دولة يمكن لليهود فيها أن يكونوا في مأمن من معاداة السامية العنيفة التي واجهوها منذ فترة طويلة في أوروبا. لقد رسم رؤية لدولة يهودية في فلسطين من شأنها أن تمنح الحقوق المدنية للعرب الذين بقوا هناك (في مذكراته، طرح فكرة نقل البعض خارج الحدود). وقال إنه من خلال جلب الحضارة الغربية إلى المنطقة، سيعود اليهود بالنفع على العرب المحليين اقتصاديا وثقافيا - وأن الدولة اليهودية "ستشكل جزءا من جدار الدفاع ضد آسيا" وهي سنكون بمثابة موقع أمامي للحضارة ضد الهمجية.
تُعتبر أيديولوجية "البؤرة الاستيطانية للحضارة" هذه مفتاحاً لفهم كيف بررت إسرائيل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم أمام الإسرائيليين والعالم، حيث استقر اليهود الذين لجأوا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما تأسست إسرائيل عام 1948، تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بالدولة اليهودية.
لكن منذ الأيام الأولى للدولة، كانت هناك فئة لم تقتنع بالتبرير: هم اليهود الذين لهم جذور في العالم العربي والإسلامي. يُطلق على هؤلاء اليهود اسم "المزراحيم" Mizrahi في إسرائيل، وهم اليوم أكبر مجموعة عرقية في البلاد. لقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد عام 1948، وخلال معظم تاريخ إسرائيل، كانوا ضحايا لنفس النوع من الأيديولوجية المعادية للعرب التي تُمارس ضد الفلسطينيين.
حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.
ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.
والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.
إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.
يوجد عدد متزايد من السياسيين والمحاورين الأوروبيين الذين يرون الإسلام كدين يتعارض بشكل مباشر مع الثقافة الأوروبية، وبالتالي يعتقدون أن الإسلام يشكل عقبة أمام اندماج المهاجرين واللاجئين. اكتسب هذا الموقف زخماً بشكل خاص بعد الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.
يتفق بعض المسلمين في أوروبا مع الرؤية التي قدمها "طارق رمضان" Tariq Ramadan استاذ الفلسفة الذي يقيم في سويسرا، الذي يرى نفسه مسلماً، ويعتبر أن كل شيء في الثقافة الأوروبية لا يتعارض مع الإسلام هو جزء منه. عملت هذه المجموعة من المسلمين بشكل هادف لتطوير تفسير للنصوص الإسلامية وأسلوب حياة يجمع بين المبادئ الإسلامية، والقيم، والممارسات الأوروبية، والدنماركية. هذا ينطبق بشكل خاص على جيل الشباب من المسلمين الذين يريدون فصل المبادئ الإسلامية عن تقاليد آبائهم أو أجدادهم من دول مثل تركيا وباكستان والعراق.
يعتبر الإسلام الأوروبي Euro-Islam محاولة لتفسير الإسلام في سياق أوروبي حديث، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تفسير إسلامي للحياة وهوية مسلمة آمنة وفي نفس الوقت المشاركة البناءة والفاعلة في المجتمع. وبالتالي فإن الإسلام الأوروبي هو إعادة تفسير للإسلام يأخذ في الاعتبار الظروف الثقافية والسياسية الخاصة والتاريخ الذي يميز أوروبا، ولكنه لا يزال قائماً على كتاب القرآن الكريم. إنه ليس نصاً دينياً أنيقاً أو مكتملاً أو برنامجاً محدداً تعمل جمعية أو منظمة لعموم أوروبا على تحقيقه. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى الإسلام الأوروبي على أنه اتجاه أو حركة في أوروبا اليوم.
يتناقض هذا الاتجاه من جهة، مع المسلمين "العلمانيين المتطرفين" الذين يريدون تحرير أنفسهم من غالبية خلفيتهم الإسلامية من أجل الاندماج والتكيف تماماً في المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى يتعارض مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين يريدون التحرر من الأعراف الثقافية والنظام الاجتماعي للغرب وتقويضها وإقامة دولة إسلامية بدلاً من ذلك.
المسلمون الثقافيون، والمعروفون أيضاً باسم المسلمين الاسميين، أو المسلمين غير الممارسين أو المسلمين غير الملتزمين، هم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم ليسوا متدينين ولا يمارسون العبادات. قد يكونون أفراداً غير متدينين أو علمانيين. ما زالوا يتماهون مع الإسلام بسبب الخلفيات العائلية، أو التجارب الشخصية، أو التراث العرقي والوطني، أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها. ومع ذلك، لا يتم قبول هذا المفهوم دائماً في المجتمعات الإسلامية المحافظة.
يمكن العثور على المسلمين الثقافيين في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في البلقان، وآسيا الوسطى، وأوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي العديد من البلدان والمناطق، يمارس هؤلاء المسلمون الثقافيون الدين على مستويات منخفضة، وبالنسبة للبعض، ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي أو الوطني، وليس مجرد الإيمان الديني فقط.