كما تتلقفك الموّلدة لدى ولادتك، كذلك تتلقفك من جهة أخرى منظومة معرفية، تشمل اسمك، ديانتك، محيطك الثقافي الذي سيشكل ميولك واتجاهاتك الفكرية والنفسية. داخل كل أسرة هناك تحيّز معرفي، ذو أساس سيكولوجي : تعتقد كل أسرة، والأمر يرتبط بصيرورات أنثروبولوجية حول بقاء الجماعة الجينية، أنها أسرة تتميز عن باقي كل أسر العالم، من هنا يستقي أفراد الأسرة، خاصة منهم الأبناء، بنية نرجسية تشكل هويتهم الأسرية. بالتالي، ولا عيب في ذلك، ترى الأسرة في تمظهرها تميزا وجوديا. هنا، أين يقع الإشكال ؟
يقع الإشكال، في التغذية المستمرة لهذه المنظومة الضيقة المتحيزة، حيث تركب عقول الأبناء، فكرة الاستعلاء الوجودي، وتمثيل الخير، ما يعني استحقاقات مبررة (مكافآت إلهية وما سواه)، والذنب المُسقط على الآخر (الأسوء دائما مني، مهما بدى العكس ـ أو أن الصورة ستنقلب إذا تأكد ذلك/أن الآخر أفضل) . وكشمولية فكرية لهذه البنية المتفرقة ـ بين الأسر ـ والمنتشرة دوليا، تنتشر اعتقادات مزيفة عند كل فرد ضمن المنظومة :
يكبر الشخص، ويستمر في الحلم بأنه سيصبح شيئا ما حينما يكبر !
يعتقد بأن الأجمل آتٍ، وأيامه الجميلة قادمة !
يرى في كل ما يفعله خيرا، طالما أن الشر يفعله الآخرون، وذلك أبرز تبرير/تفسير يبني عليه رؤيته للأمور !
لا يعتقد أن الآخرين يكرهونه ـ إذا حدث ذلك ـ لتصرف منه، بل لأنهم مطبوعون على الكره !
يستمر بالاعتقاد بأنه سيصبح يوما ما نجما، حتى بعدم توفر موهبة أو قابلية لذلك، أو على الأقل أن في يوم ما سيعرفه العالم !
مهما بدا، يستمر بالاعتقاد بأنه أجمل من جميل، والآخرون يعجزون عن رؤية (اكتشاف) جماله !
لا يحق للآخرين التواجد، أو التعبير، أو التعايش، إلا إذا وافقوا توجهاته الفكرية، من ضمن ذلك الهوية الوطنية أو السياسية، الديانة إلخ من الاهتمامات الضيقة !
يعتقد أن والده وأمه، هما الشخصان الأكثر حكمة في الوجود، رغم أنهما قد لا يعدوان أكثر من أي أب وأم عاديين !
لا يأتي الغلط من جهته، وحتى إذا أتى، فذلك بسبب تدخل الآخرين، أو سوء فهمهم لفكره/سلوكه !
هذه مجرد أمثلة، ستطفو لك العديد منها بعقلك حسب بيئتك، ما يهم أن تعرف بأن "أنت" كما تعتقد بأنك أنت، تتحكم بسلوكك وفكرك واختياراتك : بأنك مجرد تحيزات مفاهيمية، أنت أتيت للعالم قبل أن توجد ـ وهو ما سعى لإبرازه جاك لاكان بقوة في دراسته للغة المرضى ـ ما يعني أنك قد تتحيز مرضيا؛ فقد وَجدْتَ عدة أشياء تخبرك من أنت، أصبحت فيما بعد تُمثلها وكأنك خالقها من ذاتك الباطنية ! رغم أنك لا تعدو أكثر من آلة إعادة تدوير مفاهيمية (لها ماركة ما مسجلة من بيئتك) !!
يجب أن نتفق مبدئيا، على أنه لا وجود لمن يتحكم في حياتك ـ مما يشير له حمقى المؤامرات الدولية، وسياسة شاشات التلفاز الغبية ـ إن سيطرتك الحياتية تتم من خلال فهمك للعالم حسب تحيزاتك، ما يعني أنك لن ترى أشياء لا تشملها التحيزات : ففي الأخير ما هي المنظومة؟ اختيارات دفاعية لمواجهة العالم، نجد من ضمنها إنكارا وتبعيدا مقصودا لعدة أمور، لنعتبرها تجاهلا مؤكدا !
لا أقول بأنه يلزم أن تفكّ أو تدمر هذه المنظومة حتى تنفلت منها، إنما يكفي أن تدرك أنك وقعت بمجرد ولادتك ضمن قرية مفاهيمية، معتقدا بأنها جل العالم، أو على أنها مصدر الطاقة للعالم، حتى تكتشف أن قريتك لا تصدّر الفكر والقوت والحب والخير للعالم، إنما جزء لا يتجزء من عالم واسع يشمل شبكة علاقات معقدة من الأخذ والرد والعطاء والتبادل، إنها مكوّن قام بتحديدك وتعريفك "أنت"، وليس "العالم" الذي يعتبر خليطا من المكوّنات ـ هي الأخرى بها أفراد لهم نفس الصورة لك بشكل معاكس ودفاعي !
في الأخير أنت لست كائنا، أنت محيط (أكبر من أسرتك وما عداها من تحيزات) يتحرك باستمرار ويتغير، قد ترى أن الناس يتغيرون، إنما مصالحهم هي ما يتغير؛ كذلك هم يرونك تتغير ـ أنت لا ترى ذلك، لأنك لا ترى أنك تتغير، فأنت هو أنت كما عرفت ـ الجميع لا يرى المصالح التي تتغير.. لأنهم لا يرون أنهم يفكرون ضمن تحيزاتهم، وتحيزاتهم مصالح ـ و من مصلحتي أن يظل العالم، بما فيه الناس، كما أراه ! لأنك لا ترغب برؤية العالم، بحقيقة الناس : أنهم يتغيرون حسب مصالحهم (فدوافعهم الأنانية تحركهم وليس فقط أنت)، وبأن ضفة الوادي لن تأتي إليك، سواء كنت مهما أو لم تكن، أنت من يبادر إليها ! وبأن الآخر أحياناً يكون ضفة أخرى !
أنت مهم بالنسبة لنفسك، ولمن تمثل له شيئا، ما دون ذلك أنت وأسرتك وما سواه من توجهات جماعية لا تمثلون إلا منظومتكم، قد لا ترون ما خلفها، ما كان يمكن أن تكون (أنت)، أو ما يمكنك أن تكون.. بإدراك ذلك تنفتح الأنا (أناك) على اهتمامات أخرى. لما لا إمكانيات أخرى !