العودة الثانية لسيغموند فرويد : كما لو أن المحلل القديم على وشك أن يلقى بمزبلة التاريخ، ليقوم علماء الأعصاب بإعادة إحياء أبرز معطياته..
الحفلة بالطابق السفلي الخاص في مطعم فاخر بالهارلم، الذي يضم حدثا علميا، باهرا، حيث النساء متأنقات بفساتين السهرة، والرجال يضعون ربطات عنق باهظة. بالقرب من طاولة البار يقف بلحية ذقنه المشذبة، جو لودو، المعروف بأبحاثه الرائدة عن الخوف، كذلك الأمر بالنسبة لباقي فرقة الروك أند الرول من أصدقائه العلماء. رئيس الطهاة المشهور والذي بدوره يمتلك المطعم يلقي التحية على المدعويين بنفسه.
هذا التجمع الغير معتاد كانت له أسبابه الخاصة، حيث تم تنظيمه من طرف مؤسسة التحليل النفسي العصبي، بهدف ترويج فكرة أن مفاهيم التحليل النفسي كـالدوافع المكبوتة وبواعث اللاوعي، لا تزال ذات إفادة و صلة بعصرنا بالنسبة لدراسات الطب العصبي عن الدماغ. وإذا كان الأمر يبدو مفاجئا، إذن سنقول بأن : سيغموند فرويد، مؤسس طريقة التحليل النفسي، كان في الواقع قد انطلق ببداية مسيرته كطبيب أعصاب، حيث كان يقوم بتشريح الجهاز العصبي لجراد البحر. غير أن آواخر القرن التاسع عشر، لم تكن تعرف الأمر الكثير حول الدماغ، حتى أن أي فهم لسلوك الخلايا العصبية لايزال لغزا. فرويد سيتخلى عن مادته العلمية، لأجل تطوير منهج موضوعي يمكّنه من فهم العقل، حيث يقوم زبناؤه الأشقياء بالبوح عما يجول بدواخلهم.
التحليل النفسي، تأسس كأسلوب بحث، كتقنية تقوم بالتخفيف عن الناس المكروبين. الأمر الذي سيجعلها نظرية بمطلع القرن العشرين بل واحدة من أكثر النظريات تأثيرا عن العقل البشري.
نظرية فرويد، المنبثقة سنة 1890، حيث سيتم تنقيحها باستمرار، كانت شاملة وراديكالية على حد سواء. بيت القصيد فيها هو أننا لا نعرف أنفسنا كما نعتقد. بالنسبة لفرويد، العقل يولّد بشكل مستمر رغبات قوية، والتي يتم كبتها ـ حيث يتم كبحها من طرف رقابة داخلية وذلك قبل أن تصل إلى مستوى الوعي. غالبية ما نقوم به أو نفكر فيه يتم من خلال هذه الدوافع المكبوتة، والتي تظل مجهولة بالنسبة لنا. الأحلام، فلتات اللسان، والأعراض السلوكية، هي نتيجة الرغبات التي تشوهت من طرف الموانع الداخلية. خلال "التداعي الحر" ـ ضمن الممارسة التحليلية النفسية ـ يساعد المعالج مريضه على ملاحظة هفواته العقلية، مفسرا صراعاته اللاواعية التي تبرز، جالبا إياها لخانة الوعي الذاتي للمريض.
بعد فرويد، انقسم التحليل النفسي إلى عدة مدارس فكرية، وتضاربت الآراء حول فكرة العالم الباطني للآوعي، لكن مفهوم التجارب الذاتية كمعطى معنوي ذا أهمية، ظل مفهوما مركزيا في عمق هذه الرؤية نحو الطبيعة البشرية. في غضون ذلك، علم الأعصاب ـ علم دراسة فيزياء الدماغ ـ تطور من الجانب الآخر. ركزّ علماء الأعصاب على المكونات الأساسية للدماغ : كيفية تواصل الخلايا العصبية عن طريق الشحنات الكهربائية والكميائية، كيفية قيام الأدمغة بالتعلم والحساب والتذكر. لكن علماء الأعصاب تغافلوا عن التجارب الذاتية، منكبّين على ما يمكن قياسه ومراقبته.
مع نهاية القرن العشرين، بدى أن كلا المنهجين، التحليل النفسي وعلم الأعصاب لا يتحدثان حول نفس الموضوع. كان التحليل النفسي معادٍ لفكرة القيام باختبار الفرضيات من خلال التجارب. أما علم الأعصاب فزعم تفسيره للدماغ لكنه ألغى أهم نتاجات هذا الأخير : إشعاعه، الأحاسيس الحميمية للوعي البشري.
كان الأمر فرصة ثقافية مخجلة ورائعة في آن، يقول عالم الأعصاب والمحلل النفسي الجنوب أفريقي مارك سولمز، الرئيس المشارك لمؤسسة التحليل النفسي العصبي الدولية. التحليل النفسي العصبي هو مشروع حياته، وأكثر من أي فرد آخر بالحفل، فالليلة ليلته. يتجول بين الغرف، يقبّل خدود النساء، ويحتضن الأصدقاء القدامى. وإن كان من جانب ما يبدو شبيهاً بمبشّر في خضم استقطاب منضويين، فإن ذلك لسبب بيّن. فسولمز مقتنع بأن إعادة دمج التحليل النفسي بعلم الأعصاب أمر جد مهم ـ الطريقة الوحيدة والغير مسبوقة التي ستمكننا من فهم الدماغ.
المسألة لا تتعلق بإثبات أن فرويد كان على حق، بل بتطبيق تقنيات البيولوجيا الحديثة للتنقيب عن بعض أكثر مفاهيمه رسوخا. لوضع دراسة العقل كسند لدراسة الدماغ، يقول سولمز : "إن التحليل النفسي العصبي ما هو إلا : البحث عن كيفية ارتباط الجوهر الأساسي لتكوّن الشخصية بأنسجة وفيزيولوجية وتشريحية وكيميائية الدماغ ؟". التحليل النفسي عبارة عن فهم عميق، نظرية مثيرة عن المشاعر، عن تداعيات اللاوعي وعن طبيعة العقل البشري. علم الأعصاب لديه القدرة على اختبار هذه المفاهيم انطلاقا من أدوات متمكنة وتجارب حاسمة. معاً، كلا المجالين قد يتمكنان بالنهاية من الإجابة عن أصعب سؤال بالنسبة لهما : كيف تنبثق الأحلام، التخيّلات، الذكريات والأحاسيس ـ التداعيات الذاتية ـ من خلال هذه القطعة الكبيرة من اللحم ؟
أصل الأخوية :
استهلت حملة المثقف سولمز بدايتها من صدمة بالطفولة. كطفل، كان يحب ويجل كثيرا أخاه الأكبر لي. غير أنه لدى بلوغه سن الرابعة، تعرض أخوه لي لسقطة من سطح نادي الشراع البحري المحلي فارتطم رأسه، مما أدى لإصابة خطيرة بدماغه.
حينما عاد لي من المستشفى للبيت، كان قد تغيّر. لم يعد يبدي أدنى اهتمام بتفاصيل الألعاب الخيالية التي اعتاد الأخوان على استعمالها باللعب. صار خاملاً ومتبلداً، ومجبراً على وضع خوذة على رأسه. بدى شخصاً مختلفاً.
مارك (سولمز) كان منهاراً، فقدْ فَقَدَ أعز أصدقائه. غير أن أزمته أخذت بُعداً وجوديا. كيف يمكن للهوية الشخصية أن تتلاشى بهذه السهولة، هكذا فقط بلطمة على الرأس ؟ الصدمة قادت سولمز إلى وجهات لم يكن ليتعرّفها إلا بعد سنين من ذلك. حينما بدأ دراسته الجامعية ببداية الثمانييات، درس الطب وعلم الدماغ، مصمّماً على مساعدة الناس الذين في مثل حالة أخيه. لكنه أيضاً كان منشغلاً بإيجاد أجوابة عن السؤال الذي ظل يحوم حوله : كيف يمكن لهذا العضو الجسدي ـ قطعة اللحم ـ أن يحدد من نكون ؟
بحيرته سرعان ما اكتشف، أن علماء الأعصاب بذاك الوقت لم يسبروا بعد أغوار النفس. في مواجهة تعقيدات الدماغ، انكب تركيز علماء الأعصاب على الأسئلة التي يمكن أن تُقسّم إلى وحدات عملية : كيف نرى، كيف نتحرك، كيف تعمل خلايانا العصبية. التجربة المعاشة للفردانية، وديمومة الكينونة، لم تكن ضمن دائرتهم البحثية.
متعطّشاً للأجوبة، إلتحق سولمز بدورة جامعية فلسفية حول نظرية الحلم عند فرويد. عقولنا منقسمة، يفسّر المحاضر. رواسب ما تحت السطح هي المحرك الأساسي لـ"الهو" ـ القوة العقلية التي قال عنها فرويد بأنها تولّد الرغبات (الجنسية) اللاواعية، العدوان، التخيّلات المخفية والأمنيات. الميكانيزم العقلي للأنا (الوعي) يكافح لضبط هذا الاهتياج الجنوني. واحد من نتاجات هذا الصراع المستمر هو : التحريف، تشويه القصص بالأحلام. المحاضر أيضاً وصف محاولة فرويد الناقصة بأرضية السيكولوجيا في الملاحظات العصبية حول الدماغ.
لقد كانت إشراقة. أخيراً، ها هو شخص حاول التفكير بشكل تنظيمي وعلمي في ماهية الحياة الداخلية. "هنا حيث كان الفيلسوف يتحدث عن الأحلام، الأوهام، الرغبات، الجنس" يقول سولمز. "هذه هي الحياة! هذا يعنيني بالذات!". يملؤه الحماس، توجه نحو أساذته بعلم الأعصاب للسؤال عن العلماء الذين يدرسون هذه الأفكار الآن، في ظل الأبحاث الحديثة. والإجابة كانت : لا أحد. تلك المواضيع لم تكن مناسبة للعلم، كما يقول سولمز الشاب. "لا تطرح هذه الأسئلة!" حذره أحد أساتذته، في محاولة لمساعدته، "هذا الأمر سيدمر مسيرتك".
وضع عندها سولمز عقله على طريق أيديولوجي مسدود. بذلك الوقت، استمرت أفكار التحليل النفسي بقيادة علاجات المرض العقلي. غير أن التجارب العلمية المتعلقة بأبحاث الدماغ ـ من خلال علماء الأعصاب ـ نزعت الغطاء عن التحليل النفسي. لم تكن لديه اختبارات علمية ـ ولا بيانات موضوعية ـ لينكشف أن لا معنى له من الأساس.
مع بداية الثمانييات، التقريع/الفرويدي صار رياضة مكتملة القواعد بالطب العصبي. طبيب الأعصاب بجامعة هافارد جون ألان هوبسون، قام بتسجيلات لأنشطة دماغ أناس في حالة نوم، حتى يُسقط بكل ابتهاج نظرية التحليل النفسي عن الأحلام، وذلك بتطبيق، الأفكار المركزية الفرويدية حول الرقابة والكبت. لامنطقية الأحلام تحدث انطلاقا من فوضى كهربائية بالخلايا العصبية، يؤكد هوبسون، نوع من التباث الخلوي، لن يكون للكبت عندها من شيء يفعله. إن التحليل النفسي ينتمي إلى ذلك "الركام السخيف من التأمل الفسلفي"، كما كتب عندها. ولم يجد مانعا من الرقص على قبر فرويد.
غموض وجودي :
سولمز وجد نفسه مقيّداً. بعد حصوله على درجة الدكتوراة بسنة 1992، تم تجنيده بجيش جنوب أفريقيا الأبيض، ثم تركه للاتحاق بوظيفته كطبيب أعصاب بالمملكة المتحدة، للقيام بعلاج الناس المصابين بالسكتات الدماغية والإصابات المختلفة للدماغ. بالنهار، كان يمارس عمله كطبيب أعصاب عادي بجناح إعادة التأهيل بمستشفى لندن الملكي. وبالليل، ينشغل بدراسة التحليل النفسي كي يصبح محللاّ نفسياً. فرأى أن بعضاً مما درسه يحتوي مفارقات وجموداً فكرياً. فتوصل بالأخير إلى أن لغز العقل هو لغز وجودي بالأساس. بتجاهل هذا الإشكال، كما يفعل طبيب أعصاب، فإن ذلك يعتبر خطأ فكرياً فادحاً، هذا ما ارتآه سولمز. فالأمر سيبدو كما لو أنك تقوم بدراسة نظام المجموعة الشمسية متحاشيا قانون الجاذبية وكأنه غير موجود. إي إجابة ستحصل عليها ستكون خاطئة بالطبع.
بالنسبة للعلاج النفسي، والتحليل النفسي، فإنهما يركزان على المشاعر والمعتقدات الصريحة عن العالم. على عكس الأشكال المختزلة للاستشارات التي صارت شائعة اليوم. كذلك يقومان بالكشف عن الأفكار والأحاسيس اللاواعية، الرغبات، الذكريات ومختلف التداعيات الشخصية التي تتحرك تحت السطح.
بنموذج فرويد، الجهود الحثيثة التي تبدلها أجزاء معينة من الدماغ لكبح اندفاع التداعيات والدوافع يمكن أن تكون مدمرة، يؤدي ذلك للكشف عن أعراض معوِّقة كالقلق، الاكتئاب، أو الشقاء المتفشي. المحلل النفسي يساعد المرضى الأشقياء بالكشف عن الأنماط المدمرة في حياتهم. خاصةً حينما يقوم بتخليصهم من الذكريات والمشاعر المؤلمة. "يتمحور التحليل حول شخص يضع أمامك الحقائق التي لم تكن راغبا بمواجهتها"، يقول سولمز.
في الممارسة، هذا الحديث العلاجي يتحوّل لإدراك عميق بدواخل النفس.
بالنسبة لسولمز، فالتجربة قد حررته. لقد ساعدته لإدراك كم أثرت فيه إصابة أخيه. ف"لي" لم يستعد يوما قدراته، ولا يزال لحد اليوم يكافح بعقل معتل. بعيداً عن التعاطف مع أخيه، عاش مارك طفولة متشبّعة بالذنب، حيث أنه ينمو و يتعلم ويكتسب ويقوم بأمور يستحيل على أخيه أن يقدر على فعلها. لقد قيّد نفسه. وفقط عبر التحليل أدرك أنه تفادى طموحاته. فوجد أن الوقت قد حان للتفرغ للمشروع الفكري الذي شغل باله طوال حياته : دراسة العقل البشري بدقة وصرامة.
بدأ بالإعداد لكيفية فحص مفاهيم التحليل النفسي بشكل علمي، منطلقا من فرويد. بنفس الوقت، أقدم على استخدام تقنيات التحليل النفسي لمساعدة مرضاه المصابين بأدمغتهم على التغلب على اضطراباتهم ومخاوفهم. بعضهم كان قد فقد ذاكرته. آخرون يعجزون عن الكلام أو المشي. وآخرون لم تكن لديهم أدنى فكرة عن مكان تواجدهم. من وجهة نظر غالبية الأطباء، فإن العلاج النفسي سيكون أمرا غريباً : فعقول المرضى لا تحتاج للمساعدة لأن الإصابة طالت أدمغتهم. غير أنه بالنسبة لسولمز، أحدث ذلك معناً متكاملاً. فمن تحطمت حياته بشكل واضح، يحتاج للمشورة احتياجه للعلاج الطبي. فكان يجالس مرضاه وينصت لتجاربهم.
دراسة التأثيرات التي تخلفها إصابة بالدماغ، على الأفكار والسلوك، هي من ضمن أقدم التقنيات بالطب النفسي. سولمز بدأ بشكل تنظيمي بتقييم هلاوس وأوهام مرضاه تحت ضوء المفاهيم الفرويدية كالإنكار وتلبية الرغبة. بإضافة بسيطة، تقترح هاتان الفكرتان بأننا نفضل رؤية العالم كما نريد، لا كما هو عليه بالحقيقة. مواجهة الحقائق أمر صعب، يتطلب ذلك بدل جهد عقلي مستمر وآداءً عاليا للدماغ. فالإنسان الذي يعجز عن تحمل هذه الجهود ينتهي به الأمر متواجداً بعالم وهمي.
العديد من الأدمغة الخاصة بمرضى سولمز، لم تكن بمستوى هذه المهمة. بعضها تعرض لإصابات وتمزقات شريانية، نوع شائع من السكتات الدماغية حيث تتضرر بالدماغ تلك المناطق الخاصة ببناء تصورات حول المكان والزمان. المريض الحائر ينسج قصصا مضحكة لتفسير العالم، حالة تسمى باضطراب فقدان الذاكرة. بالنسبة لسولمز كان الأمر مذهلاً. فالعقل الذي يتوارى خلف الإصابة الدماغية يمكن أن نراه بتفاصيل تلك التفاسير الملتوية.
على سبيل المثال، أحد المرضى، مهندس إلكتروني سابق، دائما يستقبل سولمز على اعتبار أنه مهندس زميل. أخبر سولمز وباقي دكاترته أنه امتلك سيارة بورش وفيراري. وكان من عادته أن يستأذن مقاطعا الزيارات الطبية من أجل أن يلعب السكواتش. "أين هي البيرة خاصتي ؟" كان يسأل من يفحصونه، خلال بحثه عن كوب هناك بقاعة الفحص. من وجهة نظر طبيب أعصاب، مشكلته هي تمدد الأوعية الدموية إثر التمزق الشرياني ما أدى للإضرار بفصه الجبهي، فضعُفت قدرته على رصد ذكرياته وضبطها. من زاوية تحليلية نفسية نقول، أنه كان يتصرف حسب أوهامه ـ فقد كان خبيرا محترما أكثر منه مريضا بإصابة دماغية، ذلك أنه كان يقود سيارات سريعة، ويجلس بالبار. كلا التفسيرين يتضمنان جزءً من الحقيقة. دماغه كان مصابا بالفعل، والآن عقله يركض بعيدا مع أحلام يومية عن الحرية والمتعة.
مريض آخر عبّر لسولمز عن سعادته بقدوم صديق قديم لزيارته ـ مفاجأة رائعة، يقول، عن الرجل الذي سبق له أن توفي قبل عقود. آخرون، حدث لهم تشلل جزئي نتيجة إصابة لجهة من الدماغ، فنفوا تأثرهم بذلك. كانوا جد متعبين لتحريك أطرفهم، كم يقولون، أو أنهم فسروا لسولمز بتأني أن أذرعهم وأرجلهم الساكنة تعود لأناس آخرين غيرهم. ولم يكونوا بكاذبين عن وعي (قصد). كانوا غير مدركين للمشكلة، وهي حالة تسمى عمه العاهة (عجز المريض عن الوعي بعجزه).
باعتقاد سولمز، فإن فالتفسير الطبي التقليدي، الذي يرى بأن هذا النوع من الإصابة الدماغية يسبب عجزا عن التنبه، لا يقدم تفسيرا عن قدرة المرضى على إنتاج تفاسير سريالية لشللهم. التحليل النفسي يقدم تفسيراً منطقياً واضحاً : بالأحرى حقائق واقعية، فالمرضى بدون وعي يختارون العيش حسب أوهامهم كما هي بشكل مطلق. إن مضمون هذه الأوهام المرضية عبارة عن رغبات الإنسان العادي : الكفاءة، الصحة، والتواجد بالبيت. لقد كان ذلك مؤثرا ومذهلا. "كان هناك الكثير من التراجيديا والألم، غير أنه من وجهة نظر علمية، فقد كان ذلك شبيها بكونك طفل في متجر للألعاب"، يقول سولمز.
ساعدته تبصراته كذلك في ممارساته السريرية. ذلك لأنه فكر في المشاعر التي يمكن أن تقبع خلف أوهام المرضى، فقد كان يستطيع تفسير سلوكاتهم الغريبة لعائلاتهم والتحدث مع مرضاه بطريقة تساعد على تهدئتهم. مفسراً الأوهام الغريبة لمرضاه كتخيّلات عاطفية ـ أنت ترغب بالعيش بتلك الطريقة لأنك مذعور ـ ما يمكن أحيانا من اقتلاع ارتباكهم. برفقة بعض الزملاء، أجرى سولمز دراسة منهجية عن محادثات المهندس، فوجد بشكل واضح أنها إيجابية أو رغبوية (متمنيات). فبدأ بعقد التقارير الذاتية لمرضاه مع تشخيصهم الموضوعي، لتنطلق الممارسة العلمية للتحليل النفسي العصبي.
مجدداً ضد التحجر الفكري :
حتى نكون منصفين، فإن لعلماء الأعصاب أسباب قوية للتوجس من دراسة الحياة الداخلية. فتقديم بيانات عن التجارب الباطنية محفوف بالعديد من الأخطاء المحتملة. فالناس كما هو معروف غير قادرين على تعريف مشاعرهم وأحاسيسهم بدقة، وكلامهم (عن ذلك) مبهم. فحينما يقول شخص بأنه يشعر بإحساس جيد، فهل هو نفس الأمر أيضا بالنسبة لشخص آخر والذي يشعر كذلك بإحساس جيد ؟ قبل انتشار تقنيات التصوير العصبي، بأواخر التسعينيات كانت هناك القليل من العلامات الموضوعية عن الأحداث العقلية. (حتى اليوم، قابلية علماء الأعصاب على ربط أفكار ومشاعر الناس الخاصة، بإشارات أدمغتهم، لا تزال ضئيلة).
غير أن بعض الاعتراضات ليست سوى اندفاعات رجعية. العديد من علماء الدماغ يعتقدون بأن الإدراك والسلوك هما فقط القابلان للدراسة. واستُبعدت المشاعر باعتبارها مخلفات تطورية ـ ردود فعل بدائية تداخلت مع وظائف أكثر أهمية مثل الحساب التخطيط والفهم.
لم يكن سولمز هو الوحيد الذي ساءل هذا التوجه الفكري. أنطونيو داماسيو طبيب عصبي وأستاذ علم الأعصاب بجامعة جنوب كاليفورنيا. بدأ التفكير بجدية حول المشاعر بعد لقاءه بمريض يدعى إليوت. داماسيو سبق له أن شاهد العديد من المرضى الغريبين خلال دراساته عن كيفية تأثير الإصابة الدماغية في اللغة والذاكرة، لكن لم يحدث أن التقى بأحد يصعب فهمه وتشخيصه. فبعد عملية جراحية ناجحة لعلاج ورم بالدماغ، بدا على إثرها أن إليوت أستعيد بشكل كامل، غير أنه بدأ بأخذ قرارت مروّعة أدت لتخريب حياته. صار مهووسا بقرارات تافهة أدت لإهماله لمشاكل مهمة ليجد نفسه مطرودا من العمل. بدد أمواله على مخططات مالية سخيفة، وفقد مدخراته.
إليوت تفوّق على كل شخصية واختبار معرفي. ذكرياته وثقافته وخطابه، تأرجح كل ذلك بين العادي والممتاز. بالأخير، حط داماسيو بالكشف على الأمر: الورم دمر مناطق بالفصوص الجبهية لإيليوت وهي المسؤولة عن معالجة العواطف. فطالما أنه لم يعد قادرا على إدراك مشاعره، لم يعد بإمكانه إتخاذ قرارات ملائمة. داماسيو سيكتشف أناساً آخرين لديهم أضرار بنفس تلك المنطقة من الدماغ، يعانون من نفس المشكل. الكشوفات والتجارب التي تبعت ذلك، أدت بداماسيو لاستنتاج أن المشاعر ليست تطفلات عبثية تقتحم العقل، وإنما متأصلة بجوهر التفكير العقلاني.
بنفس الوقت، خلال التسعينييات، عالم المخ والأعصاب جاك بانسكيب يقوم باكتناه مشاعر الحيوانات. رأى بانسكيب أن بالإمكان اكتناه المشاعر الإنسانية والمشاكل العاطفية عبر دراسة الثدييات الأخرى ـ كيف ولّدت أدمغتهم مشاعر أقرب للغضب، للحزن والفرح الذي يصفه البشر، ماهي الخلايا والدوائر العصيبة المعنية. استخدام الحيوانات كنماذج (لدراسة) البشر هو أساس الطب الحيوي، ولكن، لوقت طويل تم تهميش وإلغاء أعمال بانسكيب لأنها تركز على الخبرات الداخلية للحيوانات، حقل من المفترض أنه متعذر البلوغ من جانب العلم. "معظم الناس لا يفهمون حقا الحدود التي وضعها العلماء لأنفسهم" يقول بانسكيب. "أحد الحدود الكبرى هو فكرة دراسة سلوك الحيوانات، ولكن لا نستطيع دراسة عقولهم لأنه متعلق ذاتي".
واظب بانسكيب، ليقوم بتحديد سبع مشاعر أساسية مشتركة بين الأجناس انطلاقا من الدجاج، للخنازير الغينية، للبشر، ورسم عمل الشبكات العصبية الخاصة بكل صنف. إستكشف التعلّق (العاطفي)، الرابطة المكثفة بين الأم وصغيرها، عبر مراقبة ما أقدم عليه جرو بعد إبعاده عن أمه. بدأ يئن، يبكي، ويسعى للبحث عنها، بعدها اكتفى فتوقف، وانطوى في قنوط. مزيج من الكآبة المثيرة للذعر وخمول، لاحظ أنه موقف شبيه نوعا ما بمشاعر شخص تحت قبضة الاكتئاب، وبدأ باستنباط كيف أن الأنظمة العصبية الخاصة بالتعلّق (العاطفي) قد تكون أيضا المسبب للاضطراب الاكتئابي. لم يكن فرويدياً، لكنه اقترب من فكرة مماثلة عن الاكتئاب ترتكز على الخوف من الانفصال والخسارة.
باحثون آخرون، مثل إليزابيث فيلبس وجو لودو (بلحيته وقيثارته) قاموا بوصف الطريقة التي من خلالها تؤثر المشاعر في التعلم والذاكرة، مركزين حول كيفية قيام الدماغ بكشف وتحليل وتذكر التهديدات.
معا، تؤكد هذه المشاريع البحثية بأن دراسة المشاعر ليست فقط أمر ممكنا بمنهج الطب العصبي، بل أساسية. كعلماء، مثل داماسيو وبانسكيب، قاموا بنشر كتب مؤثرة بالتسعينييات، سولمز اكتشف أنه لم يكن لوحده.
صمود أفكار فرويد :
أكثر من عقد بعد ذلك، دراسة المشاعر صارت ميدانا رئيسيا بعلوم الدماغ. حتى بالنسبة لدراسة الوعي، الذي لطالما أعتُبر استحالة تخمينية، يجتذب اليوم منهج الباحثين. لكن باعتبارهم إحيائيين يهيمون بهذه الحقول، هم بحاجة لفرضيات ـ توجيهية للاختبار والصقل، مفاهيم مدروسة جيداً وأسئلة تمهد الطريق نحو تجارب مفيدة. يمكنهم أن يقوموا بما هو أسوأ من النظر لفرويد بغرض الاستلهام، يشير إريك كاندل من جامعة كولومبيا، الحائز على جائزة نوبل، والخبير فيما يتعلق بالتعلم والذاكرة وأحد أكثر الأصوات احتراماً بمجال علم الأعصاب "المُحرِج، كما يبدو، أن فرويد يظل رؤية متماسكة وثقافية مُرضية للعقل"، يقول كاندل. "لا يمكنك أن تحضى بعلم ذو معنى للدماغ، دون علم ذو معنى للعقل".
بالرغم من أن عدة تفاصيل بنظريات فرويد خاطئة، إلا أن بعضا من أبرز أفكاره قد أثبتت صحتها. واحدة من ملاحظاته الرائدة تتعلق بنطاق وتأثير الفكر اللاواعي. وضع فرويد اللاوعي بعرش المملكة العقلية، لكن المشكل الشخصي أدى بعلماء الدماغ لتجاهل المعطى الوفير للمعالجة النفسية اللاواعية، لما يقارب القرن. كيف بإمكانهم قياس أنشطة عقلية لموضوعات غير مدركة حتى من قبلهم أنفسهم؟ فلم يتم، إلى غاية 1980، حتى بدأ الباحثون بفك هذا اللغز.
بدارسة صارت الآن أسطورة، طلب العالم المعرفي بنجامين ليبت من المشاركين أن يقوموا بالضغط على زر عندما يرغبون بذلك، في حين يقوم هو برصد النشاط الكهربائي في أدمغتهم. فاستطاع أن يلاحظ أن مناطق التحكم بالحركة في الدماغ تنشط بربع من الثانية قبل أن يقول المشاركون أنهم قرروا الضغط على الزر. بعض الأجزاء اللاوعية بالدماغ قررت مسبقا، قبل أن يقوم العقل الواعي بذلك.
ومنذ ذلك الحين، أثبتت آلاف الدراسات على أن الناس يقومون بمعالجة المعلومات، خصوصا البيانات الاجتماعية مثل تصرفات الآخرين، بطريقة لاواعية. إننا كذلك نقوم باتخاذ عدة قرارات دون تدخل كبير من جانب الفكر الواعي (الموضوعي). إن لم يكن بالشيء الهيّن، ففرويد استخف بقوة ورفعة الفكر اللاوعي، يقول عالم النفس الاجتماعي ثيموتي ويلسن من جامعة فرجينيا. طبيعة الفكر اللاواعي المنبثق من التجارب المعاصرة يختلف اختلافا جذريا عما سبق وافترضه فرويد قبل سنوات : يبدو أقرب لوسيلة سريعة وفعالة لمعالجة البيانات الضخمة وأبعد قليلا عن النطاق الخاص بالأوهام والبواعث. لكن فرويد كان مصيبا بوضعه بمركز العلم النفساني.
فرضية فرويدية أخرى تكشف بالعلم الراهن أن عقولنا بطبيعتها متعارضة، ساحة الصراع بين البواعث الغريزية وميكانيزمات الكبت. وبدلا من المفردات الفرويدية الخاصة بالهو والأنا، يستخدم الإحيائيون أوصاف تشريحية عصبية : الدوافع المتعلقة باللذة والمكافأة تنشأ انطلاقا من دوائر بالجهاز الحوفي، مركز الانفعال، يتوازى بشكل متداعي مع الهو. لحاء الفص الجبهي الخاص بالتحكم الذاتي والسيطرة على الاستجابات الاعتيادية، يعتبر نوعا ما شكلاً من الأنا. المسألة لا تتعلق باختلاف اصطلاحي، الهو بالنسبة لفرويد منطقة فوضوية ألهمت الهمجي، سلوك لامتوقع، في حين أن الجهاز الحوفي منظم بإحكام، أصل ردود الفعل الانفعالية التابثة. غير أن الصورة الكبرى ـ العقل في حرب مع نفسه ـ هي بالأساس نفسها (بالجهتين)، يقول برادلي بيترسون، رئيس قسم طب الأطفال النفسي والمشرف على أبحاث التصوير بالرنين المغناطيسي بجامعة كولومبيا. والذي تلقى تكويناً باعتباره محللا نفسيا.
عمل فرويد على تنقيح أفكاره عدة مرات، وحتى بالنسبة لأبرز رؤاه الاستبصارية فقد توقع الكشوفات العلمية بشكل تقريبي فقط. زيادة على أنه كان، ببساطة، مخطأً. على سبيل المثال، فيما يتعلق بنظرياته حول تفسير الحياة الذهنية للرضيع. "الرجل يقترف باستمرار ليس فقط أخطاء، بل أخطاء غريبة"، يقول ماثيو إرديليي، عالم نفس معرفي بكلية بروكلين والمهتم بالتحليل النفسي لفترة مطولة. "غير أنه أيضا قدِم بأفكار لن يقوم أحد آخر إطلاقا بالقدوم بمثلها'. أفكار تستحق المزيد من الاهتمام.
وتكمن الصعوبة في تصنيف تلك التي تستحق، واختبارها بطريقة تقدم أجوبة ملموسة.
تُبيّن هيلين مايبرغ عالمة أعصاب من مدرسة الطب بجامعة إيموري وباحثة حول مرض الاكتئاب، بأن عملها حول الاكتئاب يسعى لوصف نفس المفاهيم الشاملة التي استدعاها فرويد، بما يتضمنه ذلك من روابط بين الدوائر العصبية والأمزجة المضطربة. "التحليل يمتلك نسيجا غنيا من الكلمات والمفاهيم" مقارنة بطب الأعصاب، تقول مايبرغ. "الأمور التي تطرق لها فرويد هي الأمور التي يفكر فيها كل شخص واعٍ بسطح هذا الكوكب". لقد طورت علاج الاكتئاب العميق بالتحفيز العميق للدماغ، تقنية يتم فيها تحفيز مواقع معينة بدقة في الدماغ بالكهرباء، لكنها تعترف بأنها لا تزال عاجزة عن تفسير لما تتحسن حالة بعض المرضى بصورة ملحوظة بينما آخرين لا. ربما من منظور تحليلي نفسي سيتم تفسير هذا اللغز ـ أي الدينامكيات السيكولوجية الخفية التي تسمح لبعض المرضى بالانفلات من الاكتئاب، مقابل مرضى آخرين يقبعون محاصرين في البؤس على الرغم من (إحداث) التغيير في أدمغتهم.
لربما يلقي التحليل النفسي العصبي الضوء على لغز آخر : أصول مرض فقدان الشهية. عالمة الأعصاب سامانثا بروكس من مركز الطب الحيوي بأوبسالا في السويد، تدرس كيف يسيطر فقدان الشهية على رغبات المرضى بالأكل. تقوم بفحص الدوائر العصبية التي تربط الأنظمة المثبطة في الفص الجبهي بأنظمة المكافأة العميقة في الدماغ. غير أنها تقول بأن هذه المقاربة الاختزالية لا تفسر بشكل كامل كيف باستطاعة شخص ما يعاني من فقدان الشهية أن يقوم بتثبيط الإحساسات الجسدية للمتعة والألم. يشير التحليل النفسي إلى أن الجواب يكمن في التفاعل بين الإحساسات الجسدية والانفعالية، وبين القلق. أفكار بروكس تُختَبر حاليا عبر صور الدماغ.
مقاربة التحليل النفسي العصبي، تدمج التقارير الشخصية بالقياسات الموضوعية، حتى يتم التمكن من اكتناه لغز عظيم بطب الأعصاب المعاصر : الغرض من الاكتشاف الحديث لـ"وضع الشبكة الافتراضي". هذه الشبكة من المناطق العصبية التي تظل نشطة خلال تجوال العقل، أحلام اليقظة، الترابطات الحرة وحالات الإستقراء الحالمة الأخرى. تبدو أساسية، تحجز ما يقارب ال80% من طاقة الدماغ المستهلكة. لكن ما سبب وجودها؟ ولأجل ماذا؟ تظل مفتوحة على الأسئلة.
من منظور تحليلي نفسي، هذه الصورة لدماغ منشغل بأنشطة استقرائية، تبدو مألوفة بشكل لافت، تقول ماجي زيلنر، التي تشترك مع سولمز وأيضا المديرة التنفيذية لمؤسسة التحليل النفسي العصبي ومقرها نيويورك. بالنموذج التحليلي، عقولنا تنقِّح باستمرار بناءً على أفكار حول أنفسنا وتجاربنا. تحت سطح الوعي تُمتص عقولنا عبر اجترار مستمر للذكريات والأحاسيس، والأحلام، والمخاوف، والأوهام الخاصة بالمستقبل. مولِّّدة كل المادة الخام التي يصب فيها "العلاج بالكلام". تقترح زيلنر أن نشاط وضع الشبكة الافتراضي ربما هو المقابل البيولوجي لهذا التشغيل المتواصل للمونولوج الداخلي ـ أي أنها الظاهرة العصبية التي تقبع خلف هذه الحالة العقلية. بالغالب يتعلق الأمر بمجرد حدس حتى هذه النقطة، تقول، غير أن (هذا الحدس) بإمكانه أن يفتح الطريق نحو منظور جديد لهذا اللغز العصبي.
حركة متنامية :
يقضي سولمز معظم وقته بجنوب إفريقيا، حيث يشغل كرسي علم النفس العصبي بجامعة كيب تاون، يدرس الأحلام، الإصابات الدماغية ومواضيع ذات صلة، ويعالج الإصابات الدماغية للمرضى. يسافر بانتظام لنيويورك، حيث معهد أرنولد فايفر للتحليل النفسي العصبي الذي يحتضن محاضرات عامة لتقديم أعمال البيولوجيا العصبية : بانسكيب حول بحثه بخصوص المشاعر، اجتهادات مايبرغ في ما يخص علاج الاكتئاب. سولمز أنهى للتو إعادة ترجمة كل الطبعات ال24 لكتابات فرويد النفسية، مشروع بدأ سنة 1990، ليُنشر أواخر سنة 2014.
التحليل النفسي العصبي الآن حركة ثقافية متنامية في حد ذاتها. لديها منظمتان دوليتان لتقديم منح صغيرة للباحثين الشباب وتستضيف سنوياً مؤتمرا عالميا. في العالم الموسَّع لعلم الأعصاب، فرويد لم يعد متجاهلاً أو مُتَفَقاً على تجنبه، بل كثيرا ما ينظر له على أساس نه مؤلِّف لفرضيات مهمة تثير تساؤلات ونقاشات جديرة بالاهتمام.
ربما ابتعاث فرويد له كذلك تأثير أكثر عمقا. ففِكر التحليل النفسي فِكر إنساني بجوهره. يُكرّم التجربة الفريدة للفرد الإنساني ـ شيء يتم تجاهله بالمنهج الطبي المعاصر في مقاربته للعقل. سولمز وبانسكيب، حاليا بجامعة واشنطن، يلقيان باللوم على الجودة الرديئة للعلاجات النفسية عموما الخاصة بالعقلية الاختزالية. يقولان بأن مقاربة مستلهمة من التحليل النفسي العصبي توفر مجالا أفضل.
الاكتئاب مثال ممتاز. النظرية السائدة بمبحث الطب الحيوي آلية : الاكتئاب مجرد مشكلة بيوكيميائية، بشكل أساسي لا يختلف عن السكري أو داء المفاصل. تؤدي هذه المقاربة لإنتاج دزينة أدوية تعبث بالسيروتونين ومواد كيمائية أخرى بالدماغ ـ عقاقير كهذه، بالنسبة لأكثر من نصف عدد المرضى، غير ذات فعالية. "الصيدلة ألقت بملايين ملايين الدولارات هباء ولم تأتي أبدا بمفهوم جديد"، يقول بانسكيب.
كمعظم الأطباء النفسيين، هو وسولمز يريان بأن منطلق البداية يتم من الواقع الوجودي للاكتئاب ـ العطب الروحي، اليأس والضياع. سؤالهما الجوهري : لما الاكتئاب شعور سيء؟ بناءً على عقود من أبحاث بانسكيب، الفرضية هي أن بؤس الاكتئاب، يرتبط باختلالات ميكانيزميات الدماغ التي تكفل الارتباط العاطفي. بالنسبة للثدييات، حيث تولد صغارها عاجزة، الارتباط يُعتَبر قضية حياة أو موت : الصغير الفضولي الذي يتجول بعيدا لن يستمر طويلا بالعيش اعتمادا على نفسه. عندما يتم كل شيء على ما يرام، الألم الرهيب الناتج عن الانفصال هو تحذير، ضمان الصغير أن بكاءه سيجعله قريبا (من أمه). عندما تنفصل الأم عن الصغير، يقنط ويتصرف بعدوانية لامبالية، بالنهاية ينهار ممتنعا عن المحاولة، ليضيع أكثر.
عندما تكون هذه الأنظمة الحساسة عرضة للعطب بشكل مستمر ـ ربما المبالغة برد الفعل نحو الخسارة ليست مهددة للحياة، تكون النتيجة حزنا مخيفا وانهيارا دون اكتراث. لدى الإنسان، نسمي ذلك إكتئابا. "ألم الفقدان واليأس عملية بيولوجية متطورة لسبب" يقول سولمز. "تشعر بإحساس سيء لدى الانفصال عن من يهتمون بك لأنها الطريقة الطبيعية التي تجعلك تدرك أنك متحّد. ولن تفهم الإكتئاب طالما لا تدرك ذلك". هذه المقاربة تركز على الدوائر العصبية المعنية بالإرتباط، والحساسة للمركبات الأفيونية وأخرى ذات صلة. جرو حزين من الممكن التخفيف عنه عن طريق المورفيين وعقاقير مماثلة، التي تبدل الكيمياء العصبية بالدوائر المرتبطة بالكرب والخسارة. بناء على هذه الفكرة، مورفيين مشتق غير مسبب للإدمان يسمى بوبرينورفين (يوصَف غالبا لعلاج الألم أو إدمان الأفيون) يتم حاليا اختباره بالشخصيات الانتحارية مع نتائج أولية جيدة. "إن الأمر لا يتعلق بتدميرنا للاكتئاب، إنما نحن على حافة عصر جديد كليا"، يقول سولمز.
برؤية كل من سولمز وبانسكيب المستقبلية، فإن الاكتئاب قد يمزج عدة علاجات مختلفة ـ أحيانا من خلال التحليل النفسي ـ مع عقاقير مصممة بعناية لاستهداف الدوائر العصبية المتعلقة باستجابة عاطفية مدرَكة جيداً.
شئنا أم أبينا، فرويد مُنِح حقه بالعلم الحديث، هذا المنظور الإنساني قد يكون الإسهام الأكبر والمستمر بالنسبة لحركة التحليل النفسي العصبي. ذلك ما ألهم سولمز خلال محاولاته فهم الوقائع الذهنية لمرضاه العصبيين. "أكثر ما يثير الاهتمام بخصوص الدماغ، مقارنة بالأعضاء الأخرى، أنه ليس مجرد مادة إنه موضوع"، يقول سولمز. "حتى أُدرِك حقيقة أن له تأثيرا كبيرا، ذلك حقا كان حافزي الواعي في حياتي العلمية". يجب أن ندرك حقيقة أن الدماغ هو كذلك عقل، إنه يفكر، يعايش، يعاني. بكلمة مختصرة : إنه نحن.
The Second Coming of Sigmund Freud, by Kat McGowan
* Discover magazine