فاتحة الموضوع
لَقَدْ شهدتْ بلدان جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى خلال القرن المنصرم عدة تغيرات وتحولات لعل أبرزها تتمثل في نتائج مرحلة الحكم الاستعماري التي أيقظت حركات النضال والاستقلال ، فتعددت الجهود المبذولة لبناء دول المنطقة بعد هذه المرحلة المظلمة .
لِذَلِكَ ، فإن عدة دول أفريقية قد شهدت قلاقل كبرى نتيجة لحكم الحزب الواحد ، والانقلابات العسكرية، والإمبريالية الجديدة ، وحركات النضال من أجل الديموقراطية والتعددية . عالج المفسرون والمفكرون والعلماء والقادة السياسيون أسباب فشل المجتمعات الأفريقية مقارنة بالنمو السريع الذي شهدته عدة آفاق وأمصار في آسيا وأمريكا اللاتينية ، كما تعقبوا حركات النضال التي تطالب بالديموقراطية ، وحكم القانون وحقوق الإنسان ، واهتموا بقضايا المرأة المسلمة ، حيث بذلت جهود كثيرة لتمكينها من المساهمة الفعالة في بناء مجتمعها . وقد تم تجاوز الممارسات المجحفة التي كانت مهيمنة في ثمانينيات القرن الماضي ، إذ كان يتم تهميش المرأة المسلمة في دول جنوب الصحراء الكبرى التي مازال فيها تاريخ النساء المسلمات يشوبه كثير من الغموض والتعقيد ، وقلة التدوين ، وانعدام الموضوعية ، وحرية التعبير .
حَاوَلَ عدة مفسرين (( وضعيين )) positivists / تجريبين ودارسات في المجال النسوي تسليط الأضواء على الظروف التي تعيشها المرأة المسلمة في بلدان جنوب الصحراء الكبرى ، وتحدوا صعوبات الحصول على المعلومات والعينات الكافية ، وإنجاز الدراسات المتخصصة . نجدهم يقدمون بعض التقديرات الأولية من خلال نماذج محددة :
1 _ دراسات نسائية أفريقية : تعالج النماذج القومية التي تهتم بالهوية الأفريقية ، والنموذج الذي يجمع ما بين التنمية والاعتمادية ، والنموذج الماركسي ، ومدخل إلى النظرية الثقافية ....(Zeleza 1997, 94, Mama 1997 ) .
2 _ كتابات بعض القوميين الأفارقة التي اهتمت بمحاربة مخلفات الاستعمار .
3 _ كتابات تاريخية ألفها موظفو الاستعمار وخادماتهم المثقفات
بدعوى أن المستعمرات الأفريقية لا تاريخ لها يذكر .
لَمْ تَهْتَمّْ هذه الدراسات بإبراز أنواع الظلم الذي كانت تتعرض له النساء المسلمات في بلدان جنوب الصحراء الكبرى ، ولم تعالج موازين القوى بينهن وبين الرجال ، والتراتب الطبقي إلا لِمَاماً .
مِنَ اْلْمُؤَكَّدِ أن بعض مؤرخي التنمية الاقتصادية قد اهتموا بمسألة المظالم الاقتصادية ، لكنهم تجاهلوا الطبقة والمجتمع والتفرقة بين الرجال والنساء ، كما
تجاهلت بعض الكتابات التاريخية المداخل التحليلية لموضوع الجنس أو النوع
تجاهلا تاما . أما النظرية الثقافية ، فقد ارتكزت على المقاربة المتخصصة والدقة التحليلية بالنسبة لقضايا المرأة المسلمة في بلدان جنوب الصحراء .
تَؤَكِّدُ مجموعة من مفكري ومفسري وباحثات بلدان جنوب الصحراء الكبرى على ضرورة استعادة تاريخ النساء المسلمات في مرحلة ما قبل الاستعمار الغربي ، وتحليل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والطبقية ، وموازين القوى الاجتماعية بين الجنسين التي تكمن في عمق المجتمع المحلي ، وتحول دون تقدم النساء المسلمات في هذه الأمصار والديار .
يَعْتَقِدُ بعض المؤلفين والمؤلفات أن منهجيات الكتابات التاريخية النسوية الأفريقية التي تشترك مع منهجيات الكتابات التاريخية والثقافة الأفريقية الفرعية لا تهتم بجمع وحفظ المصادر المكتوبة بقدر ما تهتم بالتاريخ الشفهي الذي يعد مصدرا حيويا ومحوريا لاستعادة التاريخ الأفريقي . نجد في بعض المناطق أن المصادر المكتوبة تبدأ من عهد الاستعمار الغربي فقط ، وجلُّها هو من إنجاز موظفين استعماريين غربيين ، ولا ترصد خبرات حياة الناس المحليين التي طمسها الاستعمار وأربابه ، علاوة عن تجاهلها لحياة النساء الأفريقيات . أما الكتابة النسوية فتميل إلى تمجيد المناهج الشفهية ، ومعارضة التحيز في المنهجيات ، كما أنها تناصر الجماعات النسوية المقهورة تاريخيا ، وتجمع المعلومات عنهن من بعض الوثائق التي خلفها الاستعمار ، خاصة سجلات المحاكم .
يَرْتَكِزُ عدد من المفكرين والمفسرين المعاصرين وثلة من المبدعات المتميزات في بلدان جنوب الصحراء على مصطلح (( النسوية الإسلامية)) Muslim feminism بغية تحديد حركات المرأة المسلمة في هذه الأصقاع والبقاع ، وتحقيق بعض الأهداف التنظيمية والتدبيريه في هذا المنحى .
تَنْخَرِط النساء الأفريقيات المسلمات عادة في الأنشطة المتعلقة بجنسهن ضمن حركة ( النسوية المسلمة ) Muslim feminism ، لكنهن يستخدمن في مشروعهن التحرري مداخل ومنهجيات العلوم الاجتماعية ، ورغم أنهن يعتمدن على العلوم الاجتماعية النقدية لكي لا يقلدن بعض التحيزات الأوروبية والغربية ، إلا أنهن يتأثرن كثيرا بالعلوم العلمانية ، ويستعملن لغة واصفة علمانية في تحليلهن للأيديولوجيات التي تتحكم في جنسهن ، كما يستندن إلى خطابات العلوم الاجتماعية النابعة من الأيديولوجيات الماركسية والليبرالية والأفريقية / القومية ، أو يقمن بالمزج بين هذه الأيديولوجيات المتنوعة . ورغم ذلك ، فإن للدين الإسلامي قيمة متفردة في أعمالهن التحليلية و حركتهن (( النسوية المسلمة )) التي تنتشر في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى .
يَتَعَاطَفُ كثير من المفكرين والمفسرين والمبدعات والباحثات في هذه الربوع مع النساء المسلمات اللواتي يقمن بعمل تنويري ، ولا ينظرن إلى الإسلام كمشروع أيديولوجي ، أو يعتمدن على استمرارية ثقافية جوهرية تنبع من التقاليد الخطابية الإسلامية لتحقيق التغير الاجتماعي والتجديد . يرى الطرفان أن الدين يلعب دورا كبيرا في تشكيل حياة الناس ، لكنهما لا يقران بقدرة الخطاب الديني الإسلامي على خلق التحولات والتجديدات الاجتماعية في المجتمعات العلمانية ، ولا يبدو من خلال كتاباتهما ما إذا كانا يعتبران الإسلام نقيضا للعلمانية أم لا ؟ . إن هذا الدين يمثل مكونا جوهريا للإنتاج الثقافي والحضاري الذي يحتل مجالا خاصا عند سكان بلدان جنوب الصحراء الكبرى .
يُمَثِّلُ مصطلح ( الإسلام ) مقولة روحانية وحضارية ، وتراثا خطابيا جاهزا بكل مكوناته وعناصره . وغالبا ما تتجلى حركة (( النسوية الإسلامية )) على شكل مشروع مرتبط ب(( الإسلام السياسي )) ، لأنها تعد عنصرا مهما في الصراع على السلطة ، وتأكيد الذات والهوية .
تَعْتَمِدُ الباحثات في مجال (( النسوية الإسلامية )) الأفريقية على النظرية والتطبيق لتحقيق حرية النساء من حيث القيم والنقاط المرتبطة بالثقافة الإسلامية .
يُقَدِّم عدة مفكرين ومفسرين ومبدعات ودارسات في بلدان جنوب الصحراء في هذا الصدد الروايات والخطابات المستمدة من القرآن وتفسيراته ، وخطابات الشريعة الإسلامية ، والفقه الإسلامي ، والفلسفة الإسلامية، علاوة على النظريات الأخلاقية والتاريخ الإسلامي ، كما أن بعض الحركات (( النسوية الإسلامية )) تستمد مقولاتها التحليلية من العلوم الاجتماعية الحديثة ، وهو أمر يختلف باختلاف حنكة المرأة المسلمة المحللة. وأحيانا تستخدم النساء المسلمات المحللات العلوم الاجتماعية كأداة دعم للروايات الإسلامية الرئيسية ، وأحيانا أخرى تبذلن محاولات جادة لتبني أخلاقيات الحوار والنظرة العالمية النقدية.
تَتِمُّ تعبئة هذه الخطابات للتحقق من قضايا قهر النساء المسلمات في بلدان جنوب الصحراء وعملهن وحقوقهن وواجباتهن ، والسياسات المتعلقة بهن ودورهن في نظام الأسرة ، وغير ذلك من القضايا المتشعبة . وغالبا ما تعتنق النساء المسلمات الأفريقيات الروايات الإسلامية لكي يدافعن من خلالها عن مطالبهن باعتبارها حقوقا للمرأة ، وفرعا من القيم المتعارف عليها في التعاليم الإسلامية. لكن كثيرا من (( النسويات الإسلامية )) يكتشفن تناقضا بين الكلام المنمق المتعلق بحقوق النساء والتطبيق العملي .
تُنَاضِلُ كثير من الناشطات والباحثات في مجال (( النسوية الإسلامية )) لاسترداد حقوق النساء التي كفلها لهن الإسلام ، وتخليصهن من تسلط التفسيرات السائدة للعقيدة ، وهي تفسيرات متحيزة للرجال .
دَرَسَ ريتشارد روبرتس سجلات المحاكم الموجودة في وسط أفريقيا ، والمتعلقة بمرحلة الاستعمار ، واستخرج منها بحثا نجد فيه حكايات متنوعة عن أحوال النساء المسلمات اللاتي لجأن للمحاكم في تلك المرحلة طلبا لحلول لمشكلاتهن .
إِنَّ سِجِلاَّتِ القضاة ، وفتاوى العلماء المسلمين ، والمفسرين الراسخين ، ورجال الدين المنتشرين في بلدان جنوب الصحراء تقدم لنا معلومات هائلة ، كما أن ثقافة المنطقة ما زالت تشكل مجالا بكرا لم تتناوله البحوث الأكاديمية بالدراسة والتحليل . أما مجموعات المكتبات الخاصة التي اكتشفت في مالي وحوض نهر النيجر فتزودنا هي الأخرى بمادة غنية تصلح للدراسات العلمية المتعمقة ، ويمكنها أن تلقي الضوء على أحوال النساء قبل القرن الماضي وما بعده من فترات تاريخية متعاقبة .
المنظمات النسوية الإسلامية والتاريخ الاجتماعي الثقافي وأشياء أخرى .
تطمح معظم النساء الأفريقيات المسلمات إلى إعادة كتابة تاريخهن الذاتي ، بغض النظر عن كونهن عالمات ، أو ناشطات في المجال العام ، أو منتميات إلى أي اتجاه أيديولوجي خاص ، ويرجع هذا الطموح إلى أن التاريخ المعتاد (تاريخ الذكور) يستبعد النساء في معظم الأحوال . وقد ظهر في السنوات الأخيرة تيار مستمر من الكتابات والمقالات التي توثق دور ومكان النساء الأفريقيات في العصور الماضية ، مما حرك الجدل حول هذا الموضوع ببطء .
أوضحت دراسات بويد، ولاست، وهيوستون أن بعض النساء قد لعبن دورا معتبرا في التعليم والحياة العامة في Boyd and Last 1985, Huston ) ) في نهاية
القرن التاسع عشر، وأن هذه الأدوار قد امتدت بشكل أو بآخر إلى القرن العشرين
1999)). وأهم الأدوار التي لعبتها النساء هي أدوار المعلمات والقائدات في الجمعيات الأخوية الروحية المعروفة في غرب أفريقيا 1864 م التي تعد قدوة
يحتذى بها ، وهي ابنة الشيخ عثمان دان فوديو، - باسم (الطريقات)، وأبرز رموزهن نانا أسماء ( 1793) قائدة خلافة سوكوتو بشمال نيجيريا. ومن المتفق عليه الآن أن نساء البلاد المتحدثة بلغة الهاوسا ما زلن يدرسن كتاباتها ، ويستلهمنها في الوقت الحاضر. توجد العديد من الكتابات التي تناولت السيرة الذاتية لأسماء ، بما في ذلك ترجمة أعمالها إلى ونانا أسماء هي أبرز بنات الشيخ ، ورغم أن بعض بناته الأخريات نشطن كما يرى (Boyd and Mack ) في اللغة الإنجليزية (1984 ) ، وفي الشؤون الدينية ، إلا أن ما تركنه من كتابات أقل مما تركته نانا أسماء . وقد تكونت حول نانا أسماء جمعية لها تأثيرها ، وهي جمعية حج النساء المعروفة باسم "يان تارو" (المتشاركات)، والتي مازالت موجودة حتى الآن . نشرت أسماء وشقيقاتها تعليم النساء في المناطق الريفية من خلال جمعية يان تارو. وقد كان تعليم النساء، خاصة تعليمهن تعاليم الدين ، من القضايا التي دافع عنها الشيخ عثمان دان فوديو بقوة ، ولم يكن ما فعلته نانا أسماء وشقيقاتها عام 1936أمرا استثنائيا، فقد سجل في موريتانيا أن خديجة ، وهي سيدة تنتمي لجماعة أهل العقل، قد قامت بتعليم عبد القادر، قائد أهم علماء المنطقة ، عام 1982، وهو الشيخ - ثورة تورودو. وفي شرق أفريقيا مثلا، علمت بيبي زوادي بنت حمد بن سعيد ( 1854م )، المشهور بترجمته للقرآن إلى اللغة السواحيلية. - عبد الله صالح الفارسي (1912 ) .
أوضح كل من دونبار وهيوستون أن نساء شمال نيجيريا ظللن يتمتعن طوال القرن العشرين بالسلطة في الشبكات الواسعة للطرق الصوفية بما فيها من مجالس العلم وممارسات التقوى، مثل الطريقة الصوفية التيجانية والطريقة الصوفية القادرية.
وكثيرا ما وصلت النساء داخل الطرق الصوفية إلى رتبة (( المقدَّمة )) التي تتمتع (Dunbar 2002, 400, Huston 1999, 47 ) بصلاحية إدخال الآخرين في الطريقة. استمرت الكثيرات من النساء في القيام بدور القيادة في حلقات الدرس في المنازل ، وكن يعلمن النساء ، وأحيانا الرجال . يقدم مقال دونبار الشامل عرضا ممتازا للأدوار الإيجابية والأنشطة التي اضطلعت بها النساء في عدة مناطق من البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في جزء كبير من القرن العشرين . فعلى سبيل المثال، حافظت حاجة ليا إيسياكو وحاجة عايشة محمود على تقليد إعطاء دروس خصوصية للطالبات والطلبة في المنازل في كانو في ثمانينيات القرن العشرين. وقد عرفت حاجة ماريا ماي تفسيري، التي تعيش في كانو أيضا، بتفسيرها للقرآن، وأدارت مدرسة إسلامية للنساء المتزوجات والأطفال، كما كان لها جمهور عام كبير. وقد أذيعت تلاوتها للقرآن وتفسيراتها له في الراديو أولا، ثم ظهرت بعد ذلك في التليفزيون. أما حاجة لارابا كارابا فقد صارت زعيمة للطريقة القادرية الصوفية، وأدارت المختصات الاجتماعيات، مثل حاجة حوا آدامو البرنامج الاجتماعي الذي تقدمه الجمعية التطوعية المعروفة باسم جمعية دعم الإسلام للعامة. ومنذ عدة عقود، دأبت عايشة ليمو، وهي بريطانية مسلمة تعيش الآن بصفة دائمة في شمال نيجيريا على تقديم كتابات عن مختلف نواحي الإسلام ، وقد صدرت كتاباتها في مجلدات ضخمة. ونجحت عايشة ليمو في توضيح معاناة النساء اللائي يعشن في مجتمعات مسلمة ، وحاجتهن إلى التعليم . وتعمل عايشة ليمو وزميلاتها في شبكات تجمع ما بين الاتجاهات التقليدية والإصلاحية، ولهن تأثير على الساحة الأفريقية بأسرها، إذ تمكنّ من الوصول إلى جماعات نسائية في أماكن بعيدة مثل جنوب أفريقيا. ومن التقاليد الموجودة في الجزء الجنوبي من قارة أفريقيا، لا سيما في جنوب أفريقيا، إعطاء النساء دروسا خصوصية في الموضوعات الدينية. ومن الحقائق التاريخية المهمة أن أول مسجد بني في مدينة ( كيب تاون ) بجنوب أفريقيا كان منحة من امرأة تعرف باسم سارتجي فان دي كاب. وفي القرن العشرين صارت العديد من منظمات النساء المسلمات في جنوب أفريقيا جزءا من عماد المجتمع المدني في الفترة التي كان فيها الأثر المدمر للتفرقة العنصرية على أشده.
يستفيد الباحث كثيرا من بعض الموضوعات التي ترشده إلى المصادر التي تساعده على دراسة أحوال النساء المسلمات في البلاد الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى . ورغم أن هذه الموضوعات ليست جامعة مانعة، إلا أنها توفر روايات متميزة ومركبة تساعد على فهم حياة النساء . نعالج هنا ثلاثة من هذه الموضوعات:
1_ التلبس بالأرواح .
2 _ قانون الأسرة / قانون الأحوال الشخصية .
3_ المنظمات النسائية .
التلبس بالأرواح : باسم ( البوري ) في غرب أفريقيا وباسم ( الزار ) في شمال شرق أفريقيا، وهو ظاهرة شائعة في المجتمعات المحلية للمسلمين، خاصة بين النساء . ورغم أن التفسيرات المتمسكة بالكتابات المقدسة والإصلاحية تدينه لما يمارس فيه من أفعال تناقض التعاليم الدينية المتعارف عليها ، إلا أن بعض التفسيرات الإسلامية التقليدية لصحيح الدين لا تنفيه بشكل مطلق. والسبب في هذا أن الكثير من الاتجاهات الأيديولوجية توافق على أن الكون يكتنفه السحر . بعبارة أخرى، لا تتعارض كثير من الخطابات الإسلامية التقليدية مع أفكار الأرواح والجن والمعجزات ، رغم أن التفسيرات الأحدث للإسلام التي تعتمد على الكتابات المقدسة تقلل من أهمية هذه الأفكار والممارسات ، وإن صعب عليها إنكارها مطلقا. فمثلا، أدان قادة الجهاد في سكوتو ( البوري ) باعتباره منافيا للإسلام ، بينما أبدى الأمير عباس في وقت لاحق تسامحا مع هذه الممارسات ، كما يتساءل العلماء عما إذا كان التلبس بالأرواح والطقوس المرتبطة به يبطن أكثر مما يظهر عن ما تحاول النساء كسبه من ورائه. هل تتبع النساء هذه الاستراتيجيات الموسعة للتعبير عن طموحاتهن الفردية ؟ هل يتبعن هذه الطرق ليتفاوضن من خلال صفقات تجعل لهن مخرجا من أعباء أحوالهن المنزلية ؟ وتساءل آخرون عما إذا كان التلبس بالأرواح يقدم للنساء شيئا من الراحة أو يخفف عنهن هيمنة النظام الأبوي ؟
أوضحت الأبحاث الحديثة أن ( البوري ) يوفر للنساء المتزوجات فرصة ليحتفلن ويرقصن ويعزفن الموسيقى في حِمى منازلهن . كما أن نساء الأقرباء، سواء من أسرة وأرحام النساء المصابات أو قريبات أزواجهن يقدمن الهدايا للمرأة المصابة تعويضا لها عما أصابها ، وهو ما يخلق ظرفا يجعلهن يحظين بمستويات مختلفة من الاهتمام بالنسبة لمن حولهن . يعد ( التلبس بالأرواح ) في بعض مناطق البلدان الأفريقية الواقعة في الركن الشمالي الشرقي من جنوب الصحراء الكبرى جزءا متمما لواجبات الدين القويم ، كما يلعب دورا حركيا في الحياة المؤسسية للنساء ، حيث يجري الفصل بين الرجال والنساء .
والحقيقة أن بعض العلماء قد جادلوا في أن النساء (Dunbar 2000 ) اللائي يرتبطن بأعمال اقتصادية واجتماعية وسياسية، وبالأعراف الدينية لا يعتبرن أن ( التلبس بالأرواح ) يحتوي على ممارسات تتعارض مع الدين ، لكنهن غالبا ما يرين في هذه الممارسات طقوسا مكملة تلعب دورا يشبه الطقوس الصوفية ، حيث تؤكد إلى حد بعيد على ذكر الله ( الذكر)، فقد ورد عن كينيون (( إن الزار والذكر يلبيان احتياجات طقوسية وانفعالية واجتماعية مماثلة ، فهما يرضيان رغبات متشابهة لأفراد فئتين لا تجتمعان ... إذ يختلفان في طرق أدائهما وتنظيمهما )) (Kenyon 1991,p 42 ) . إن ما يمارس فيهما من طقوس ، لا لا يجعلهما يختلفان في المبادئ أو المعتقدات الأساسية )) .
قانون الأسرة / قانون الأحوال الشخصية للمسلمين : يوفر هذا القانون مصدرا ثريا آخر لدراسة أحوال النساء المسلمات ، وسيفيد هذا المجال من إجراء مزيد من الدراسات عن هذا القانون . لم تنجز كثير من الدراسات المركبة عن هذا القانون ، ما عدا بعض الدراسات المسحية العامة التي أنجزها ج. ن. د. آندرسون، وسبنسر تريمنجهام، وجوزيف شاخت في مطلع القرن العشرين عن الشريعة الإسلامية في أفريقيا ، والدراسة التي أجراها آلان كريستيلو عن الشريعة الإسلامية في الجزائر والسنغال في فترة . يختلف قانون الشريعة (Christelow الاحتلال الكولونيالي ) عن الدراسات القليلة التي فحصت حالة القانون عام (1992 ) النسائية الإسلامية المتعلقة بالقانون العرفي الأفريقي ، وكثيرا ما طبقت في أفريقيا أشكال مختلفة مزجت بين هذين القانونين .
تكتسب السمة الأبوية للشريعة الإسلامية التقليدية نبرة أقوى عندما تمتزج بالأعراف والممارسات الأفريقية . لذلك يلزم إجراء دراسات لاستكشاف كيف تؤثر فاعلية النساء وهوياتهن وممارساتهن على تشكيل قانون الأسرة للمسلمين ؟ وكيف تناقش النساء أحوال معيشتهن ؟
قام كريستلو بدراسة رائدة عن النساء في كانو بنيجيريا في مطلع القرن العشرين تحوي رؤية متميزة لهذا الموضوع ، حيث أوضح أن التغيرات التي طرأت على القوانين التي تتعامل مع مسألة الرق في مرحلة الاستعمار قد أدت إلى افتداء بعض الرجال لكثير من الإماء بدفع مبالغ مالية لأسيادهن ، وهي هبة لم يستطع أسيادهن رفضها. بدا هذا للوهلة الأولى نتيجة مفيد ، ولكن ما حدث غالبا هو أن الرجال الذين
افتدوا النساء بدفع مبلغ مالي لملاكهن كانوا أطرافا ثالثةChristelow ) 1999 , p 1343) سرعان ما تزوجوا بمن افتدوهن بأموالهم ، وكثيرا ما تحولت هذه الزيجات إلى شكل شرعي من التسري بالجواري . من المفارقات أن بعض النساء كن يقتنين الإماء أيضا ، فاقتناء الإماء قد مكن النساء من التحكم في القوة الإنجابية خارج نطاق الزواج ، حيث إن الشريعة الإسلامية تقضي بأن أطفال الأَمَة هم ملك يمين سيدتها . وقد أدى تملك النساء للإماء إلى إعطائهن قوة مكنتهن من ترأس وحدة منزلية قادرة على البقاء اقتصاديا. ومن التناقضات الظاهرية أيضا أن السياسات القانونية الاستعمارية فيما يخص تحرير العبيد قد باءت بالخسارة على النساء الثريات اللاتي فقدن قوتهن ومكانتهن ، لأنهن لم يعد بوسعهن التمسك بإمائهن طالما تقدم أي شخص آخر وعرض دفع فدية لتحريرهن . لقد خسرت النساء أكثر من غيرهن بسبب عملية افتداء الإماء ، فالإماء اللاتي افتدين صرن الآن جزءا من الأسرة الممتدة لأزواجهن . توضح دراسة كريستلو أيضا أن العنف ضد النساء قد ازداد في إطار التعقيدات التي اكتنفت هذه الوحدات الأسرية الجديدة. ومن الدراسات المكملة لدراسة كريستلو، وإن كانت من مدخل مختلف، وعن فترة لاحقة في نهايات القرن العشرين، دراسة سوزان .(Hirsch ) الدراسة الأنثروبولوجية الكبيرة التي أجرتها سوزان هيرش عن محاكم القاضي في كينيا عام (1998 ) ، وهي دراسة تفحص مسار القضايا التي رفعتها بعض النساء التماسا للعدالة أمام محاكم القاضي التقليدية في منطقة مومباسا. وقد سمحت نظرة الباحثة الأنثروبولوجية لسوزان هيرش بفحص كل من ممارسات القضاة وأشكال الخطابات القضائية التي دارت حول القضايا المرفوعة، وهي خطابات أسست فيها النساء اللاتي رفعن الالتماسات رواياتهن بطريقة فعالة. وقد كشفت عمليات الفحص المعمقة التي أجريت على حياة واهتمامات النساء المتحدثات باللغة السواحلية ، وفهم النساء المسلمات لذواتهن ، وآرائهن عن العلاقات بين الرجال والنساء ، وعن الرجال والمجتمع . تتعلق القضايا التي درستها سوزان هيرش بمسائل قانون الأسرة ، وهي دراسة مهمة جدا ، لأنها تساعدنا على فهم تطبيق الشريعة الإسلامية على مستوى القاعدة الشعبية ، فقد أوضحت هذه الدراسة أن النساء المسلمات اللاتي يعشن على الساحل الشرقي لأفريقيا لسن راضيات عن تحمل النظام الأبوي في صمت ، على عكس الفكرة النمطية الشائعة عن الشريعة الإسلامية فيما يخص العلاقات بين الرجال والنساء . لقد وجدت دراسة سوزان هيرش نموذجا للأدوار التي تلعبها النساء ، حيث يتفاوضن ويتجادلن ويتداولن التعقيدات القانونية للشريعة الإسلامية عن خلفية المشهد المرتبط بأشكال الدبلوماسية الاجتماعية التي قد يمارسنها بدهاء ، وأحيانا بطرائق أقل دهاء . كما تتناول هذه الدراسة الإصلاحات المذهبية وتفسيرات أوضاع النساء في الإسلام ، إلى جانب إبرازها للطرائق التي تغير الممارسة العملية المتصلة بفهم القوانين وتطبيقاتها، خاصة الطرائق الخلاقة التي يفسر بها القضاة تلك القوانين ويطبقونها. وما زالت بعض الدراسات تنجز حاليا عن كيفية تطبيق القضاة لقانون الأسرة في محاكم الأحوال الشخصية الزنجبارية المعاصرة .
تعالج دراسات كريستلو وهيرش بشكل مختصر موضوع قانون الأسرة المسلمة الذي بحث جيدا في بلدان آسيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط ، لكنه أهمل في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى . لقد أوكل الحكم الاستعماري بطريق غير مباشر حكم الجماعات العرقية إلى زعماء القبائل والقانون العرفي . وكثيرا ما عوملت الشريعة الإسلامية على أنها شيء مختلف عن القانون العرفي ، إلا أن رد فعل الاستعمار اختلف عن هذا فيما يخص القانون الذي يحكم المسلمين وفقا للسلطة الاستعمارية المسؤولة ولطبيعة الأرض . فلم يبق من الشريعة الإسلامية إلا ما يعرف باسم قانون الأحوال الشخصية للمسلمين الذي يعالج مسائل الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال . وقد صار قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في كثير من البلدان جزءا من النظام القانوني بعد انتهاء الاستعمار . وفي الأماكن التي لا يوجد فيها قانون أحوال شخصية للمسلمين، ناضلت طوائف المسلمين نضالا سياسيا من أجل انتزاع اعتراف الدولة بقانون الأسرة الخاص بهم وتطبيقه من خلال محاكم الدولة ، وحيث إن قانون الأحوال الشخصية للمسلمين مغروس في نظم القانون الأبوية ، فغالبا ما يتعارض مع مواثيق حقوق الإنسان وطموحات النساء المسلمات الحضريات الحديثات. ينظر إلى قانون الأحوال الشخصية للمسلمين على أنه يؤيد قهر النساء ويجعلهن خاضعات لسلطة الذكور . وغالبا ما يكون المطالبون بتطبيق قانون الأحوال الشخصية للمسلمين وإبقائه في ثوب تقليدي هم رجال الدين ، أما المعارضون لهذا الشكل من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين فهم النساء والرجال والمسلمون الذين يقترحون تفسيرات تقدمية للشريعة الإسلامية تراعي المساواة بين الجنسين . وهكذا أصبح قانون الأسرة ساحة للنزاع بين التفسيرات التقليدية للإسلام والتفسيرات التقدمية والنسوية للقانون . ورغم الصعوبات الواضحة يرى المسلمون من مختلف الطوائف أن تطبيق قانون الأحوال الشخصية للمسلمين القائم على أساس الدين هو عبارة عن صراع كبير بشأن الهوية في إطار الدولة القومية العلمانية .
واجهت الدول الأفريقية ، التي قامت بعد رحيل الاستعمار بدرجات مختلفة من النجاح ، قضية التعددية القانونية لكي تفسح مجالا لتطبيق للشريعة الإسلامية والقانون العرفي في نظام قانوني مركزي وعلماني موروث عن عهد الاستعمار ، وحيث إن كثيرا من السياسات المتركزة في يد الدولة التي تميل إلى النظام الأبوي، فلم تول انتباها كافيا لآثار القوانين الأبوية على النساء والأسرة والأطفال في ظروف اجتماعية تختلف اختلافا شديدا عن الظروف التي سنت فيها هذه القوانين . تقع أحيانا الحكومات والصفوة الحاكمة ما بين أمرين أحلاهما مر : إذ تريد التمتع بالحساسية تجاه احتياجات الطوائف الدينية ، وفي الوقت نفسه ترغب أيضا في دفع قيم حقوق الإنسان الحديثة قدما ، وغالبا ما تحجم عن الدفع بقضايا النساء نحو إصلاحات قانونية خوفا من إيذاء مشاعر صفوة رجال الدين والمتمسكين بالأعراف التقليدية.
لقد أحرزت المنظمات غير الحكومية وبعض الجماعات الإصلاحية للمسلمين بعض النجاح في رفع الوعي بأهمية قانون الأحوال الشخصية للمسلمين والحاجة إلى إصلاحه. وقد عملت المجموعة عبر القومية المسماة النساء اللاتي يعشن تحت القوانين الإسلامية الكثير لخلق الوعي بما في هذه القوانين من تمييز ضد النساء، وشاركن مشاركة فعالة في عمليات قانونية لدفع هذا التمييز عن أنفسهن . لكن النساء المسلمات العاديات غالبا ما يقعن في الحيرة بين هذه المنازعات المتقلبة والمشحونة، فهن يرغبن في الإخلاص للإسلام ، لكنهن لا يرغبن أيضا في أن يقعن ضحايا للقوانين الأبوية القمعية.
لا تملك في الغالب هؤلاء النساء نصيبا من التعليم والأدوات يمكنهن من تلبية اهتماماتهن بشكل صحيح ، فيقعن في دائرة الصبر على المثابرة . يتضح في المناطق التي سادتها اتجاهات الإحياء الإسلامي ، مثل شمال نيجيريا والنيجر وتنزانيا وأوغندا وأجزاء من مالي أن سياسات الهوية قد استغلت ورقة سياسات المساواة بين الجنسين، وهي ورقة رابحة.
تزداد أعداد النساء اللاتي يروجن للشريعة الإسلامية ، خاصة قانون الأسرة المسلمة باعتباره قانون الله ، ويجادلن في أن هذا القانون محصن ضد الإصلاح أو التغيير . أما دعاة الإصلاح الذين تتركز جهودهم على المناداة بإصلاح الدين الإسلامي فغالبا ما يتعرضون للتهميش ، ويعاملون بشك ، ويتهمون بالدعوة لتحويل المجتمعات المسلمة إلى النمط الغربي . لكن هذه النزاعات والحروب البلاغية غالبا ما تكون أعراضا لمشكلات مزمنة وسياسية أكبر ، إذ تنشب في مواطن فشلت الدول والحكومات فيها فشلا ذريعا فلم تستطع إقامة حكم رشيد فعال . تبدو العدالة في بعض محاكم قانون الأسرة الإسلامية المتخصصة غالبا سريعة وزهيدة التكلفة ، لكن تعوزها الإجراءات المضبوطة ، وبمقارنتها بالمحاكم العلمانية نجد أن معظمها يملك بنية أساسية هشة ، حيث إن القضاة العاملين فيها ينقصهم التدريب الملائم والتعليم القانوني . لا نجد في هذه البلدان التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية في المحاكم العلمانية أن القضاة بدورهم يستأنسون كثيرا بالشريعة الإسلامية بدرجة تمكنهم من تطبيقها تطبيقا صحيحا ، بل إن قانون الأسرة غير مجمع ولا مصنف بطريقة مضبوطة ، بحيث يشكل نظاما قانونيا ، كما أن حالة الأحوال القضائية تظهر فظيعة في بلدان مثل تنزانيا وأوغندا وأجزاء من وسط أفريقيا وقرى موزمبيق ، فكثيرا ما يطبق قانون الأسرة للمسلمين على مستوى محاكم الصلح الإسلامية غير الرسمية. وغالبا ما تعاني النساء من تطبيق القانون بطرائق خشنة وأبوية لم يطلها الإصلاح .
لقد بالغت محافظات شمال نيجيريا ذات الأغلبية المسلمة وحكومات الدولة في الأخذ بقانون الأسرة ، وشرعت عقوبات إسلامية لذنوب جنائية مثل السرقة ، وتعاطي الكحوليات ، وممارسة الجنس خارج نطاق الزواج . وحيث إن المسلمين حين يطبقون الشريعة دون تعديلات غالبا ما يقدمون قضية النظام الأبوي على ما عداها ، فلا عجب إذا صارت النساء المسلمات في نيجيريا أهدافا وضحايا في نفس الوقت للقوانين الجنائية المعتمدة على الشريعة.
اهتمت وسائل الإعلام بحالتين شهيرتين وقعتا في شمال نيجيريا، حيث تم الحكم على امرأة بالرجم حتى الموت بتهمة الخيانة الزوجية ، وقد ألغت محكمة الاستئناف هذا الحكم فيما بعد ، ومازالت الأخرى تنتظر حكم الاستئناف . ويتبدى الظلم الصارخ في هذه الحالات ، حتى بمعايير الشريعة الإسلامية ، مما أثار اشمئزاز بعض دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في نيجيريا ، إلى حد أنهم أبدوا استعدادهم لمراجعة طبيعة تطبيقها . وغني عن الذكر أن مسألة قانون الأسرة في بلد مثل نيجيريا يعد جزءا من صراع واسع النطاق بالنسبة للقوة والسلطة بين الجماعات العِرقية والدينية. تعد سجلات المحاكم مصادر ممتازة لاكتشاف نوع القضايا التي استدعت تدخل الدولة أو قرارات القضاء عبر الزمن . ورغم أن هذه السجلات لا تقدم إلا مستوى واحدا من مستويات الرؤية بالنسبة للمسألة المطروحة للبحث ، إلا أنه يمكن استخدامها بأكبر قدر ممكن من الكفاءة إذا تمت مقارنتها بمصادر أخرى. ولو تمكن الباحثون والباحثات من التنقيب بشكل فعال عن سجلات المحاكم لصارت هذه السجلات مصدرا لا يقدر بثمن للكشف عن خفايا التاريخ ، خاصة تاريخ النساء. ورغم صعوبة العثور على سجلات المحاكم التي ترجع إلى فترة ما قبل الاستعمار ، توجد مصادر غزيرة ترجع إلى فترة الاستعمار وما بعده ، ومن هذه المصادر ( مجلس الأمير للصلح القضائي ) في شمال نيجيريا ، وهو مصدر يمكن أن يلقي بعض الضوء على هذا الموضوع . نجد في إصدارات (Christelow ) مجموعة مهمة تحتوي على حالات مختارة من أحكام الأمير عباس عام 1994، وتوجد أيضا في شرق أفريقيا سجلات محاكم ترجع إلى الحكم العماني لمنطقة الساحل الشرقي لأفريقيا ، وما تلاه من حكم بريطاني، وهي محفوظة بشكل جيد في أرشيف زنجبار، وتستحق اهتمام الباحثات والباحثين، الذين يقع على عاتقهم مهمة استخدام هذا الأرشيف ليستخرجوا منه التاريخ الاجتماعي والثقافي لهذه الفترة . ولا شك أن هذه السجلات ستلقي أضواء على مكانة النساء في هذه المجتمعات، ومعدلات الزواج والطلاق، وتوزيع الممتلكات ، وغير ذلك كثير. وقد تبنت المحاكم الأفريقية الحديثة تقاليد حفظ السجلات القانونية ، لكن بسبب ضعف الإدارة وغياب الموارد الكافية، غالبا ما لا تصدر هذه السجلات بانتظام ، أو تصدر وبها شيء من النقص .
منظمات النساء المسلمات: تأثرت القارة الأفريقية تدريجيا بحركة تمكين النساء، وازدهرت المنظمات النسائية في المجتمع المدني هناك ، حيث يرجع تاريخها إلى منتصف القرن العشرين، مع ارتفاع مد حركات التحرر الوطني ، كما أن معظم الأحزاب السياسية تتوفر على جناح نسائي . وهذه الأجنحة النسائية إما أنها اندمجت عبر الزمن في الأحزاب أو استمرت في الضغط من الهامش من أجل إصلاح موازين القوى بين الرجال والنساء في مجتمعاتها ، كما أن نهوض اتجاهات الإحياء والإصلاح الديني بين المسلمين في مناطق كانت تميل بحكم تقاليدها إلى طرق الإخوان الصوفيين قد جلب معه أشكالا محددة من المنظمات النسائية. فمثلا، تم إدخال النساء في رتب اتحاد الجمعيات الإسلامية الموالي للإصلاح الذي نهض في السنغال . أما في البلدان الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية فقد واصلت النساء المسلمات العمل لتحقيق طموحاتهن الثقافية والسياسية من خلال جمعيات علمانية ، مثل جمعية النساء النيجيريات التي أنشئت في عام 1975 بالنيجر. وهذه الهيئة هي التي دعت إلى إصلاح قوانين الأسرة للمسلمين، لكن الجماعات الإسلامية، لا سيما جماعات المعارضة ، كبحت حركتها. وقد ظل الجدل الحار دائرا في النيجر حول الاقتراحات التي قدمت تشريعات تخص قانون الأسرة للمسلمين حتى وقت قريب . وفي عام 1985 م، شهدت نيجيريا مولد ( اتحاد جمعيات النساء المسلمات ) ، حيث قامت النساء برد الاعتبار والاعتداد بذواتهن . يتناول هذا الاتحاد بشكل جماعي القضايا التي تواجهها النساء المسلمات في حياتهن اليومية ، كما ظهر النشاط اتحاد جمعيات النساء المسلمات في مجال قضايا السياسة العامة التي تؤثر على حياة النساء . وقد حدث شيء من التوتر بين اتحاد جمعيات النساء المسلمات والمجلس القومي للجمعيات النسائية ، وهو مجلس علماني يهتم بقضايا الإرث ، كما أن اتحاد جمعيات النساء المسلمات قد عارض التشريعات التي لا تساير الشريعة ، وقدم حلولا لبعض المشكلات الاجتماعية المزمنة بالاعتماد على تعاليم الإسلام ، ودعا إلى إنشاء محاكم شرعية في الولايات الجنوبية لخدمة المسلمين الذين يتبعون القانون العرفي مرغمين في غياب قانون إسلامي .
توجد في شرق أفريقيا عدة مؤسسات تركز على قضايا النساء ، مثل مشروع البحث والتوثيق في مجال النساء الذي يهدف إلى تحسين أوضاع النساء في تنزانيا ، وهو متفرع عن معهد دراسات التنمية ، وصار وحدة مستقلة عام 1982 م. وهي واحدة من أكثر شبكات البحوث تأثيرا في القارة الأفريقية ، والجمعية الأفريقية للنساء الأفريقيات للبحوث والتنمية التي تملك فروعا في مناطق مختلفة ، وتقدم دعما قيما لجماعات نساء القاعدة الشعبية ، وتهتم بالقضايا المتعلقة بالسياسة.
نَجِدُ في جنوب أفريقيا عددا من جماعات النساء المسلمات يمثلن مصالح مختلفة ، كما أن هناك (مكتب الجندر للجنسين ) التابع لحركة الشبان المسلمين، وهو مكتب صغير الحجم ، إلا أنه ربما كان أكثر جماعات المسلمين التقدمية تأثيرا على مستوى العمل خارج مقر الجماعة والتأثير على القضايا السياسية . من أهم الأدوار التي تلعبها هذه الوحدات المتخصصة في البحوث تقديم معلومات إحصائية قيمة ودراسات مسحية تغطي كل نطاق المسائل المتعلقة بصحة المرأة المسلمة ، ومشكلة الفقر والتعليم والمشاركة السياسية وإمكانية حصول هذه المرأة على فرص لتكوين الثروات . ..
لا يمكن تناول دراسات النساء المسلمات في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى بمعزل عن الطبقات المركبة للتاريخ الثقافي أو القوى الاقتصادية والسياسية التي تجتاح المنطقة.
عند أعتاب الداعية المفسر في بلدان جنوب الصحراء الكبرى
ذَاعَ صيت شيخ الإسلام إبراهيم نياس الكولاخي في الآفاق من خلال أعماله المتميزة المتعلقة بخدمة الإسلام في هذه الربوع الاستوائية من القارة السمراء . ألَّفَ كتاب ( في رياض التفسير للقرآن الكريم ) الذي حققه الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله التجاني الموريتاني ، ونشرته دار اليمامة التونسية . يمثل هذا العمل إضافة واضحة للتفاسير السابقة نظرا لما عرف به صاحبه من علم واسع شهد له به كل من عرفه واستمع إليه مدرسا ومحاضرا ومناظرا وخطيبا مفوها يشد إليه الأسماع والأنظار، فقد كان من كبار علماء الإسلام والدعاة إلى الله في العصر الحديث ، جاب العالم الإسلامي مشرقا ومغربا ، وقادته رحلاته في الدعوة إلى الصين والهند وبلاد الاتحاد السوفياتي ، والبلدان الأوربية ، وأمريكا حيثما يوجد مسلمون من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
يُعَدّ هذا المفكر والعلامة الموسوعي أحد نجوم المؤتمرات والملتقيات وتجمعات العلماء والدعاة ، والعضو البارز في الهيئات العلمية الإسلامية ومجامع البحوث الإسلامية في مكة المكرمة ، والعضو في المجلس التأسيسي لرابطة علماء العالم الإسلامي التي ضمت مجموعة من كبار علماء ودعاة العالم الإسلامي في بداية النصف الثاني من القرن الماضي ؛ كالشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ، ومحمد حسنين مخلوف ، وأبي الحسن الندوي ، وعلال الفاسي ، ومحمود شيت خطاب ، وأمجد الزهاوي وغيرهم من الأسماء الكبيرة . كان الشيخ إبراهيم نياس نجما وعلما وداعية مفوها يقدمونه ليلقي على مسامعهم الخطب البليغة بجامع الأزهر الشريف ، وفي جل اجتماعات المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، وفي اجتماعات المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، لأنه كان يمثل صوت الإسلام المدوي بالحق والمنور بالبصيرة ونور الله الذي سبح في بحوره وإشراقاته الربانية ، والمحبة الصادقة للذات المحمدية التي تماهى فيها ، فعبر عن معانيها في دواوينه الشعرية المتعددة التي نظمها في مدح والتعلق بخير البرية .
إِنَّ أَتْبَاع سيدي أحمد التجاني قد بلغ تعدادهم ما يقارب أربع مائة مليون ، وكان شيخ الإسلام إبراهيم نياس يتعهدهم بالتوجيه والإرشاد . وقد دخل في الإسلام على يديه كثير منهم ، وحيثما حل وارتحل ترك أطيب الأثر وأجمله ، وهو ما يبرز إخلاصه وعلمه وفهمه وبصيرته ، ومهابة ومحبة الناس له .
انكب الشيخ العلامة على تأليف الكتب العديدة في نصرة إفريقيا ( إفريقيا للإفريقيين ) ، والرد على المطران لفيفري في هجائه للإسلام عام 1959م بعمل شعري موسوم ب (( تيسيير الوصول إلى حضرة الرسول )) الذي يتكون من 2982 بيتا ، و (( النور الرباني في مدح سيدي أحمد التيجاني )) الذي يعد إنجازا لغويا متميزا ، وقد تجاوزت مؤلفاته العشرين بين نثر وشعر بلغة عربية مبينة تمكن منها مثل أهلها أو أكثر، وإنه ليذكرنا بأولئك العلماء الأعلام المسلمين من غير العرب الذين عاشوا في بلاد ما وراء النهرين ، وخدموا الإسلام وثقافته العربية الإسلامية ؛ كالغزالي والزمخشري والرازي والبخاري ومسلم والترمذي ، فكان رحمه الله أمة بمفرده ، وما لا تزال آثاره بادية للعيان ممثلة في تلك الصفوة من المخلصين والتلاميذ الأوفياء الذين يقتفون خطاه ، ويدعون الله بإخلاص وروحانية خاصة بالإسلام الإفريقي الصوفي التيجاني .
لَقَدْ انْتَشَرَتْ الطبعة الأولى من كتاب (( رياض التفسير للقرآن الكريم)) ، و تعد بالآلاف ، والطلب على إعادة طبع هذا التفسير ملح . ذكر ابنه الشيخ قريشي نياس أن هنالك من بادر في نيجيريا إلى ترجمة هذا التفسير إلى اللغة المحلية تعميما للفائدة واستجابة للتعلق الشديد في تلك الربوع بالشيخ إبراهيم نياس .
يَتَكَوَّن كتاب (( رياض التفسير للقرآن الكريم )) في الأصل من دروس قد تم استنساخها من أشرطة صوتية تبدو فيها التلقائية والسجية ، فهو يقرب القارئ من آيات الكتاب العزيز ، وهي طريقة تضارع ما نجده عند الدعاة والمفسرين في العصر الحديث كالشيخ محمد متولي الشعراوي ، كما أنها تضم عدة خواطر كانت ترد على الشيخ إبراهيم نياس وهو مستغرق في ابتهالات وسبحات روحية إشراقية وفتوحات إلهية ، لكن ذلك يظل مقيدا بظاهر الشريعة ولا يحيد عنها ، لذلك جاء هذا التفسير مليئا بالتحقيقات اللغوية البيانية العربية فضلا عن إيراد دقائق المسائل العلمية العقدية الأصولية والفقهية ومقاصد الشريعة الإسلامية .
يُعَد هذا الكتاب سفرا نفيسا لن يلبث أن يأخذ مكانه بين التفاسير التي سيجد فيها القراء ضالتهم المنشودة ، كما سينكب عليه الباحثون لضبط الخصوصيات والإضافات التي تشهد لمؤلفه بسعة علمه واطلاعه ، ورفيع ذوقه ، وقوة روحانيته ، وصلته بربه ، لذلك فإن ما فيه من فتوحات وإشراقات لن تزيدها الأيام إلا نورانية ونفاذا إلى القلوب
نَشَرَ زميلنا الدكتور محمد مسعود جبران على صفحات مجلة (جوهر الإسلام) التونسية العدد 2السنة الرابعة (نوفمبر 1981) من الصفحة 77 إلى الصفحة 88 ، قائلا : (( في هذا اللقاء يسرنا أن نقدم شخصية علمية فذة وشكلا رائعا للفكرة والتنظيم اللذين هما من سمات الدعوة الإسلامية منذ عهد النبوة الأزهر يشرفنا أن نلتقي بالعلامة الداعية الغيور الحاج إبراهيم نياس وبالدعوة المعطاءة التي ينهض بها في إفريقيا السمراء ، وفي بلده المسلم السنغال الذي يشهد اليوم تحولا خطيرا إلى الإسلام بفضل هؤلاء الدعاة الجادين الذين تجردوا للدعوة وأعطوا نفوسهم ونفائسهم في سبيل الله لقد أجابني سماحة شيخ الإسلام حياه الله إجابة مستفيضة تكلم فيها قلبه العامر ودبج حرارتها قلمه السيال حتى بلغت ردوده الكريمة قريبا من كراسة خفيفة انقل هنا بعضها وأدع الباقي إلى فرصة أخرى مواتية. لست أنسى ذلك اليوم الذي حظيت فيه بمقابلته وسجلت خلاله عدسة الذاكرة صورة موحية معبرة أكبرت الشيخ في نفسي ، وولدت عندي يومئذ التفاؤل بالحركة والبشر برجالها. لست أنساه يوم أن جاء يمشي وقد لبس لباسه الوطني الأبيض الثمين ، والعطر يعبق من أردانه ، وفي يده عصاه المنحنية ، وهو يتهادى ببسط جسمه وعلمه والأجانب يفسحون له الطريق مأخوذون بجلاله وألقه ... )) .
يُتَابِع الشيخ إبراهيم نياس حديثة قائلا : (( لم أحصل على عدة إجازات من الوالد وغيره من كبار العلماء أثناء فترة الدرس ، حيث شرعت في حمل الرسالة وتحمل المسؤولية أستاذا في الشريعة وعلومها وفي اللغة العربية أيضا وآدابها ، واشتغلت بالوعظ والإرشاد وتربية الشباب المسلم وتهيئتهم للقيادة ، كما جابهت دعاة التبشير وعملاءه منذ الوهلة الأولى . وكانت قلة الإطارات الإسلامية عندنا في الثلاثينيات تضطرني للعمل في عدة جبهات ، فلم أعرف الراحة أبدا ، ولم يكن لي إليها سبيل ، ولم تشغلني هذه الشواغل كلها عن البحث والتأليف وقرض الشعر في مدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي مواضيع إسلامية أخرى .
لَقًد تَلَقَّيْتُ تربية إسلامية صرفة ، وتفرغت للدعوة إلى الله ، وواصلت الجهاد منذ نصف قرن ، ولم أزل . وقد استجابت لدعوتي ألوف مؤلفة من السنغاليين وملايين الأفارقة التي تربطنا بهم عقيدة التوحيد كمسلمين سنيين وأشعريين أو على مذهب الإمام مالك بن انس رضي الله عنه.
أما المسلمون في السنغال فهم الأغلبية الساحقة من السكان ، إذ يبلغون 95% من السكان على الأقل والنسبة الباقية هم المسيحيون والوثنيون وعددهم في تناقص مستمر ، حيث إنهم يدخلون في الإسلام باستمرار حتى الفرنسيون المسيحيون منهم فآخر من استجاب لدعوتي فتاة فرنسية أسلمت في الشهر الماضي فقط .
أرجو أن يوفق الله مسلمي السنغال وغيرهم لتوحيد صفوفهم والاجتماع تحت راية القرآن ، والتعاون بإخلاص حتى يترجموا كميتهم هذه إلى كيفية وقيمة مشرفة وما ذلك على الله بعزيز .
س: تمر العقيدة الإسلامية اليوم بمرحلة خطيرة تتجلى في مواجهة الإيديولوجية الغربية ، فما هي الانعكاسات المادية والمعنوية على بلادكم بالذات؟
ج: إن الغزو الفكري الغربي خطر محدق ، وعملية الهدم تهدد العالم الإسلامي كافة ، ولا شك أن هذا الغزو الفكري هو ركيزة ما يسمى بالاستعمار الجديد ، كما أن الاستعمار في شكله القديم كان يعتمد على هذا الغزو الفكري قبل أن يعتمد على جيوشه ، فكذلك الاستعمار الجديد ظل معتمدا في غيبة الجيوش على الغزو الفكري ، مما خلق تضليلا وتشويها وفتنة ، ولا مفر من الاعتراف بأن آثار هذه الجهود التي تبذل لخلخلة العقيدة الإسلامية قد بدأت آثارها تظهر في البلاد الإسلامية بما فيها السنغال ، ولا يناقض ذلك كون عدد المسلمين في ازدياد مطرد ؛ لأن هدف العدو ليس نقل المسلمين عن دينهم لاستحالة ذلك كما ثبت بالتجربة ، وإنما الهدف تشويه الحقائق الإسلامية والعمل على إنشاء أجيال مقطوعة الجذور ، مضطربة التفكير ، مفتونة بالقيم والتقاليد والتصورات الغربية . وهذا المنحدر الخطر جدير بأن يقذف بالشباب يوما ما إلى هاوية الانخداع عن الإسلام .
يؤسفني أن أقول أن المواجهة ما زالت ضعيفة ، فالدعاة المسلمون لا ينقصهم الإيمان ولكن تنقصهم المادة والتضامن ، بينما نرى الوطن الإسلامي وقد امتلأ بوسائل التضليل من أفلام وكتب ومجلات وجرائد ومحاضرين أجانب وبعثات تعمل باسم التبشير ، وهي لا ترعى لديننا أخلاقا ولاذمة.
وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على استقلال إفريقيا حان الوقت أن تتضح المعالم ، وأن يتحدد موقف الأمم المسلمة عقيدة ونظاما.
س: اتخذت الحركة الإسلامية المعاصرة طابعين للعمل إما طابعا ثوريا كحركة النوريين ونواب صفوي ، وإما طابعا تربويا كجمعية العلماء الجزائريين ، فما هو الطابع الذي اتخذته مؤسساتكم الإسلامية للعمل ، وما هي البرامج التي تسلكونها للنهوض به ، وهل لذلك أثرا في القارة السمراء؟
ج: الطابع التربوي هو الغالب عندنا فنحن نهتم بالدعوة إلى الإسلام في ينابيعه وأصوله ، وندعو غير المسلمين ليدخلوا في دين الله ، ونربي المسلم حتى يستمر سيره إلى الله ، وليزداد إيمانا مع إيمانه ، ونبذل كل الجهد لنشر لغة القرآن ، ونوسع الدائرة فندعو الشعوب بواسطة لغاتها التي نفسر بها معاني القرآن ، ونبين بها محاسن الإسلام ، ونسعى لحماية العقيدة بالتصدي للشبهات التي يحاول المبشرون وأشباههم إثارتها ، ونجتهد في تنظيم الصفوف وجمع الكلمة ، ونستعين على أداء هذه الرسالة الكبيرة بالمدرسة ، وبحلقة الدرس ، والوعظ ، وبالحديث العام ، والمحاضرة ، والإذاعات ، والصحف ، والعلاقات التي نكونها مع الإطارات المثقفة ثقافة أجنبية ، ومع رجال الإدارة والحكم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين .
إن الهدف واحد وهو خدمة الدعوة ، وتفادي العزلة والانطواء ، لكننا نعتقد أن لكل جبهة طريقتها في تنفيذ برامجها التي تستوحيها من عقيدتها ومن الملابسات والظروف ، فإما أن تكون ثورة وإما أن تكون إصلاحا ، إلا أن الواقع هو أننا لا نفرض على المسلمين إلا ما فرضه الله سبحانه ، فهم يتلقون الدعوة باعتبارهم مسلمين ثم يدخلون معترك الحياة كأفراد ، والأصل أن ينير لهم الإسلام طريقهم .
لقد وفقت للعمل من خلال هذه الخطة في معظم الأقطار الإفريقية ، ولي فيها كلها آثار بارزة يسر بها كل مسلم ، ويغتاظ منها العدو ويكاد يتميز من الغيظ .
س: حضرة الأستاذ هل لكم أن تعرفوا القراء بتأليفكم ؟
ج: ألفت باللغة العربية كتبا كثيرة بعضها مطبوع ، وأكثرها لم يزل مخطوطا ، وما طبع (( رفع الملام في أحكام تتعلق بالصلاة )) ، ويحوي عدة مباحث في أصول الفقه ، و (( تحفة أهل الحاضرة في المناسك والحجة البالغة )) في الدفاع عن القرآن و(( كاشف الإلباس في التصوف وعلم السلوك)) و (( إفريقيا للإفريقيين )) في الرد على رئيس أساقفة دكار لفيفر ، و(( روح الأدب في المواعظ والأخلاق )) و(( تحفة الأطفال في الصرف )) و(( سبيل السلام )) ، وهو بحث حول مقام إبراهيم عندما أريد نقله منذ سنوات و(( نجوم الهدى )) وهو كتاب تحدثت فيه عن أفضلية رسول الله صلى الله عليه وسلم و(( إفادة المريد )) و(( تنبيه الأذكياء )) في التصوف أيضا وديوان شعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن آلاف الأبيات الخ.
س: في الختام –فضيلة الداعية- ندع لكم المجال لإسداء نصيحة من خلال تجاربكم للمنخرطين في ميدان الدعوة الإسلامية ؟
ج: على الداعية المسلم أن يكون دائم التلاوة والتأمل للقرآن الكريم ، وحريصا على دراسة سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنه إذا فعل ذلك سيجد في نفسه طاقات هائلة ، ويكون صاحب بصيرة مستنيرة يهتدى بها في طريق الدعوة ، كما يجب عليه أن يكون واسع الاطلاع بالنسبة لمعارف عصره ومشاكل الوقت ، وأن يكون سخيا في مواهبه غير منتظر من الخلق شيئا ، لأنه من حملة ميراث النبوة ، وألا يستخفه شيء من منهجه الواضح الثابت . فالانتصارات من فضل الله ، وعليه حيالها بالشكر والتواضع والانكسارات ، ولا ييأس أبدا.
نموذجان لأوضاع المسلمين في بلدان جنوب الصحراء
أولا ) إثيوبيا :
يحتل القرآن الكريم عند المسلمين والشّعب الإثيوبي مكانة كبيرة ، حيث إنّ التعليم القرآني يحظى بأهمية قصوى، فجنب كلّ مسجد توجد مدرسة قرآنيّة. وعن ترجمة المصحف الشّريف إلى اللغات المحلية في إثيوبيا صرّح المستشار الثقافي الإيراني قائلا : (( إنَّ الدول الأفريقيَّة لا تتحدَّث لغة واحدة ، فالمسلمون هناك يتحدثون اللغة الأمهريَّة ، وقد تمّت ترجمة القرآن الكريم إلى هذه اللغة قبل سبع سنوات . إنّ المسلمين يهتمّون كثيراً بالذّكر والدّعاء ، وقد تمت ترجمة بعض الأدعية أيضاً )) . يتعدد حجم النّشاطات المتّصلة بنشر الثقافة القرآنيّة وغيرها من العلوم ، والمساهمة في تعزيز المناخ الإسلاميّ في المجتمع المحلي .
يشترط في الذي ينوي التبرّع لدعم بناء المساجد أن تكون إلى جانبها مدارس قرآنيّة. تعدّ إثيوبيا من الدّول المهمّة على مستوى القارّة السّمراء ، فهي من الدّول الّتي لم تكن مستعمرة في تاريخها. وأشار أحد المسؤولين الثقافيّين المسلمين في إثيوبيا، إلى أنَّ عدد السكّان هناك يناهز 83 مليون نسمة، ويشكّل المسلمون نسبة 50% من السكّان، ويتحدّثون اللّغة الأمهريّة، كما أنّ الخطّ الأمهري له جذور في الخطّ العبريّ، والبلاد عرفها المسلمون منذ عهد الرّسول الأكرم(ص)...
يعد الإسلام الدّين الثّاني الأكثر انتشاراً في إثيوبيا بعد المسيحيّة ، كما يعد المسلمون الأغلبيّة في مناطق "الأوجادين" "وهرر" و"عفار"، وغيرها من المقاطعات ، وينشطون في شتّى المجالات، ويساهمون مساهمة فعّالة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعرفيّة.
ثانيا ) سيراليون :
حصلت سيراليون على استقلالها في 12 ذي القعدة سنة 1380 هـ ، وكان المسلمون في سيراليون لا يزيدون على 25% من إجمالي السكان سنة 1300هـ ، ولكن نسبتهم قد بدأت في الارتفاع وبسرعة كبيرة رغم جهود المنصرين المحمومة لفتن المسلمين عن دينهم حتى وصلت الآن أكثر من 80 % من إجمالي السكان ، وذلك لنظرة السكان للإسلام على أنه دين الحضارة والرقي والطهارة ، في حين أن النصرانية التي عدت قرينًا للاستعمار والظلم والامتهان مع التشابه الكبير بين الوثنية والنصرانية ، وبدأت القبائل تتسابق للدخول في الإسلام ، وبناء المساجد والجوامع إذ إن كل قبيلة تبني مساجدها لنفسها ومسجدها الخاص في العاصمة فريتاون .
والمسلمون يرسلون أولادهم إلى كتاتيب تحفيظ القرآن المنتشرة في جميع أرجاء سيراليون ، ويقوم المعلمون بتقسيم الدراسة إلى مراحل :
1ـ مرحلة تلاوة القرآن بالنظر وحفظ بعض قصار السور ويمنح بعدها الطالب لقب [ألفا].
2ـ مرحلة التفرغ للعلم بتعلم تفسير القرآن وترجمة معانيه ودراسة بعض الكتب الفقهية المالكية وتستغرق هذه المرحلة ربما عشر سنوات، يمنح بعدها الطالب لقب [فودي] ، ويتم ذلك في احتفال كبير يحضره أعيان القبيلة وعلماؤها ، حيث تلّف على رأس الخريج عمامة [فودي] ثم يرفع كرسيه على الأعناق وهو جالس عليه ليطاف به في البلدة في احتفال رائع وبهيج .
يعد المسلمون بسيراليون المسجد بيتهم الأول ومكانهم الأسمى في جميع شؤونه حياتهم ،ى ففيه تحل المشكلات ويعقد النكاح ويكون الطلاق ويعلن عن الاجتماعات، وتوزع الزكاة ويجهز الموتى، وكل قبيلة تتولى الإنفاق على مساجدها، ولكن ما زالت هناك بعض الخرافات موجودة بالبلاد ، فمثلاً إمام المسجد يقوم بكتابة الحجب والتمائم للمرض والمحتاجين ، وهذا الأمر منتشرًا بمعظم بلاد القارة الأفريقية .
يوجد بدولة سيراليون أكثر من ثلاثين مجموعة قبلية من أهمها [التمني] و[الماندي] و[الفولاني] و[السوسو] و[الليمبا] و[الفالي] و[الجالينا] إلى غير ذلك، بالإضافة إلى مجموعة [الكريول] النصرانية المستوردة من الخارج لتتولى مقاليد الحكم، وكانت هذه القبائل قبل إسلامها تتقاتل فيما بينها فلما أسلمت غدا النزاع بين المسلمين والوثنيين فمثلاً خرّب المسلمون في قبيلتي الفولاني والماندينج طبول الوثنيين فنشبت بينهما قتال عنيفً وعد المسلمون هذا القتال جهادًا في سبيل الله وقاد المسلمون المعلم [حوري] الذي انتصر على الوثنيين واحتل مدنهم [كارينا] و[فالابا] و[كابالا] وأصبحت تلك المدن بعد ذلك كلها مسلمة .
يتضح من خلال ما سلف أن مشكلات المسلمين الآن بسيراليون تتمثل فيما يلي :
1 ـ العصبية القبلية المورثة عن القديم ، فلما جاء الإنجليز زادوا من أوراها واشتعالها ووسعوها .
2ـ التطبع بطبائع الإنجليز في الحياة العادية لوجود أعداد كبيرة منهم داخل سيراليون خاصة بالعاصمة [فيري تاون].
3 ـ مقاليد الحكم في يد أعداء الإسلام سواءً من الصليبيين أو أعوانهم من المسلمين أصحاب الأهواء والمصالح .
4ـ الحلف المكون من الصليبيين والوثنيين وأصحاب الأهواء من المسلمين ضد المسلمين الملتزمين . وهذا الحلف يشكل خطورة كبيرة ما دام لا يحمل صفة التعصب الصليبي، ونجد مثال ذلك ما حدث أثناء التمرد الكبير سنة 1322هـ/ 2000م ضد الرئيس [أحمد تيجان كبا] المسلم ، حيث دافع الإنجليز عن هذا الرئيس بقوة وقمعوا المتمردين الراغبين في الإطاحة بالرئيس وأجبروهم على الاعتراف برئاسته
5 ـ المستوى الاقتصادي لكثير من المسلمين المتدنين : ينتشر الفقر بين ظهرانيهم نظرا لسيطرة النصارى بمساعدة من أسيادهم بالخارج على ثروات البلاد