يعد مصطلح الإلهام من المصطلحات التي شاعت منذ القدم في ميراثنا البلاغي والنقدي للشعر، وهو سرّ من أسرار الكتابة الشعرية، ابتداء فإن البحث في المطلب اللغوي لهذا المفهوم نجده ينحدر من جذر "لَهُمَ" بمعنى: ابتلع مرة واحدة، وأوحي إليه، لقّنه إياه ووفقه له، ورجل لَهُوم رَغيب الرأي عظيم الكفاية، وبالتالي فهذا المصدر يدل على إلقاء في النفس أمر فيستجيب له، هكذا نخلص إلى أن الإلهام هو الإلقاء في النفس والرأي الراجح والكفاية عند الشخص، كما أن المصطلح له علاقة بعدة مصطلحات أهمها: الحدس، الموهبة، النفس الإنسانية، الصدفة الشعرية، التخييل، القلق المبدع، الطبع، الإبداع وغيرها من المفاهيم التي تدور حول فلك الشعر والإبداع عموما، فالشاعر مُلهم لأنه يرى ويُوهب ما ليس لغيره من الناس، ومن خصائص هذا المفهوم، ارتباطه بالشعور والأحاسيس وعدم القدرة على التحكم فيه، فهو قوة قاهرة تحلّ على الشاعر ويستجيب لها، وغالبا ما تأتي في لحظة الصفاء، أو أثناء الإلقاء على سرير النوم، أو موقف أزمة الناتجة من مصادر الحياة المختلفة، إن الإلهام يُغيب الشاعر عن ذاته لحظة ويحظر في فكرة يتعقبها للقبض عليها، وقد عجز الباحثون والمحللون كشف جوهر هذه الظاهرة رغم تطور أساليب البحث العلمي، خاصة مبحث علم النفس، لكون المفهوم يتجاوز حدود العقل والذاكرة، وكل ما هو مادي وواقعي، ومرتبط بعالم الحلم والغيبيات.
عند تتبع مفهوم الإلهام تاريخيا أو رصد الخلق الشعري، نجد تَمَيُّز الشعراء وصل بعرب الجاهلية لربط الشعر بالأسطورة وقوى علوية غيبية، أو غير طبيعية التي تنزل على الشاعر لكي تلهمه ما يقول فيما يشبه الوحي، يؤكد وامرؤ القيس هذا المنحى والصلة ما بين الجن وشياطين الشعر وبين الإلهام فيقول: تخبرني الجن أشعارها فما شئت من شعرهن اصطفيت، لذلك ساد الاعتقاد أن الشياطين هي التي تلهم الشعر، ولكل شاعر شيطان يأتي به من واد عبقر بل، أطلقوا أسماء على شيطان مشاهير الشعراء، على ما ذهب الجاحظ والثعالبي وغيرهما، وأحظر ابن شهيد الأندلسي هذا المعتقد في رسالته المتخيّلة، التوابع والزوابع/ شجرة الفكاهة (امرؤ القيس شيطانه عتبة بن نوفل أو لافظ بن لاحظ، والنابغة الدبياني هادر بن ماهر، وطرفة بن العبد عنتر بن العجلان، أبو تمام عتاب بن حبناء، والبحتري طوق بن مالك، أبو نواس حسن الدنان والمتنبي حارثة بن المغلس...)، وهو اعتقاد جاء لتصوير شعورهم بما في الشعر من قوة الإبداع وجمالية في لتصوير، يصعب على الإنسان العادي صياغته، وهذا أمر يرجع إلى غريزة متأصلة في الإنسان تظهر عليه عند حاجة الإبداع، فالشعراء حسب ابن جني أمراء الكلام، وهو كذلك شعور لما في الشعر من تمرّد وغرابة وخروج عن المألوف، لكن الأمر لا يعدو أن يكون كون دواخال الإنسان العميقة تحمل روحا، تمكنه من معرفة ذاته أو تحويل البسيط إلى الجميل، وهذا ما يفسر ما يقع للمتصوفة في الحضرة، بمعنى الانتقال من الإنسانية البهيمية إلى الإنسانية النورانية، والسمو بالنفس عبر الترقي في المقامات، لذلك فالتأمل عند الشاعر يحصل عندما يغيب عن ذاته غيابا ظرفيا ويحضر في فكرة معينة عن طريق الإلهام أو أفكار تأخذ طابع الحدس والمخزون النصي أحيانا أخرى، فالإلهام في أخر المطاف يوقظ الشاعر ويسمو به في عالم الإبداع حينما يظفر به، وصفة الخلق الأدبي عند الأدباء لا تشمل كل البشر، بل هي صفة استثنائية، يتصف بها المبدع الذي يتصف بطاقة الإلهام والخلق على غير مثال، لذا نسمع العبقري (يقال نسبة لواد عبقر)، والفحل(نتيجة الطبيعة البدوية) والنبوغ (لكون القبيلة في العصر الجاهلي لا تفرح إلا لثلاث: فرس تنتج وولد يولد وشاعر ينبغ).
على هذا النحو تحدث أفلاطون في جمهوريته، على أن "الشاعر امرؤ ملهما يتكلم الإله خلاله"، إن الموهبة التي نملكها ليست فنا، ولكنها إلهاما قبل ذلك، عبارة عن مغناطيس يجدب طينة من الناس هم الشعراء أو الفنان عموما، وزكى هذا الطرح سقراط إذ رأى "أن الشعراء لا يكتبون الشعر لأنهم حكماء بل، لأن لديهم طبيعة قادرة على أن تبعث فيهم حماسة". لكن إذا كان الأمر كذلك عند أفلاطون وسقراط، فإن أرسطو يذهب خلاف ذلك ويعتبر الشعر صناعة لها قوانينها الخاصة.
أما في العصر الحديث، فقد اتصل الإلهام بعلم النفس في مذهب فرويد، الذي رأى أن الشعر كالأحلام، وسيلة من الوسائل التي تُعبر عن الرغبات المكبوتة في اللاشعور، إنما يكمن الفرق في أن الأحلام تحقق الرغبات في المنام وتنتهي، بينما الشاعر يحقق رغباته في الإبداع، إذ ترمز كل كلمة إلى رغبات مختلفة، ممّا يجعل الشاعر يطمئن ويسمو بالنفس، لذا فالشعر والفن عموما متنفس يملأ النفس عن طريق الإلهام بالأحاسيس والانفعالات للتنفيس، فيخفف ثقل العواطف والشعور، فالإنتاج الفني دائما يظل مرتبطا بمحفز أو مستفز للاشعور لتتحقق الكتابة، وهو ما جعل شكسبير يقول: "إنما المجنون والعاشق والشاعر من نسيج خيال واحد".
إن أدوات وطرق تحقيق الشاعر للإلهام المفضي للإبداع متعددة نذكر منها: الـتأمل، العزلة، السكون، ثم التأثر بمختلف أحداث ومعاناة الحياة (الحب، اليأس، المرض، الموت...) فدخول عالم الإلهام يوجب ارتياد المجهول لكي يكون معلوما في الكتابة الشعرية (اللغة المادية المقروءة وشذرات الصور الشعرية)، فالإلهام إذن، مرتبط بالطبع والسليقة عند الشاعر ومحله القلب، بينما الصنعة مرتبطة بالحِرْفة (إلغاء دور الإلهام) ومحلها العقل، فالشاعر الحقيقي هو القادر على التحليق والتعبير عن عواطفنا ومكنوناتنا ومشاعرنا، لذلك جاء لفظ الشعر من الشعور، والشعر لفظ مشاكس دال على حالة إشراق باطنية وإلهام لفظة أكثر شكاسة، منها يلج الشاعر إلى عالم يظل في حاجة إليه لفتح باب الإبداع، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرد العرب الشعر إلى الجذر اللغوي "شعر"، الذي يعني الفطنة وإدراك ما لم يدركه البشر العاديون أو يشعرون به، وهو ما جعل إليوت يقول: ما فائدة أن تعرف الشعر، إنه الكل في روح شخصية واحدة متفردة"، الشعر غير موجود إلا في ذاته ولذاته، تماما مثل ما تفعل الترجمة بنصها إذا تظل أبدا دون النص الأصل ومبتغى الكاتب الأول، ومنه يمكن تأويل قول ابن طباطبة "أفضل الشعر أكذبه"، فهو ينتج في عالم الإلهام وينزل به الشاعر إلى الحياة الدنيا عبر لغة مادية هي الكلمات، وفق العرض والطلب، فالشعر مخاض يكمن في فترة ولحظة الإلهام عند الشاعر، وهو اقتحام عالم مدهش سري مفاجئ، يلهم عالما بكرا خارج زمانه، ثم يهبط به إلى العالم الواقعي في قصائد محكمة البناء، وفي هذا المنوال يقول عبد الكريم بنثابت: "الفنان الحر رسول حمل رسالة سماوية بطريق الموهبة والإلهام لأدائها إلى بني قومه، بل إلى الإنسانية جمعاء..." (حديث مصباح ص 16). لذا فالشاعر الحقيقي من يستطيع الكشف عن ما ألم به في عالمه الخاص للقارئ، وهنا مركز الاختلاف بين الشعراء، فمنهم من يستطيع أن يجعل من البسيط شيئا عظيما ومنهم غير ذلك.
يقول إلياس أبو شيكة:
اجرح القلب واسق شعـــرك منـــــه فــــدم القلب خمـرة الأقــلام
مصدر الصدق في الشعور هو القلب وفي القلــب مهبــط الإلـهـام
وإذا أنـــت لم تعــــذب وتغـــمـــس قلمــا في حـــــــــرارة الآلام
فقوافيك زخــــرف وبـــــــــريـــق كعظام في مـــدفن من رخام
صحيح أن الشاعر في حاجة أبدية إلى شرارة لبركة الإبداع ولبركان نفسيته، لكن يبقى السؤال ماذا أن لم يوجد للشاعر إلهام أو غاب عنه ردحا من الزمن، هل يظل في انتظاره وما هو مصيره؟ الإلهام هنا هو القدرة على خلق تجربة نصية جديدة من خلال المخزون النصي والتجربة الواقعية، بجمالية اللغة أي خلق إيقاع متميز يوازن بين دواخل الإنسان وإيقاع العالم المضطرب المحيط بالشاعر، فالشاعر هو ذاك الباحث دائما عن السّر، قد يرد خائبا وقلقا من عالمه الخاص، مما يجعل خلق القصيدة يكون بين منزلتين اللاوعي في الإقبال على الإلهام والوعي في الكتابة.
جملة القول، إن الشعراء منذ الأزل شغلوا مكانة متميزة، وكوّنوا طبقة متفردة في المجتمع، وظلوا محط إعجاب العامة والحكام، أو مصدر خوف ورعب، فهم من ناحية بشر ومن ناحية أخرى جن يُلهَمون المعاني، وقد تجرأ بعضهم بإدعاء النبوة (الشاعر المتنبي)، والإلهام، إذن، مسألة مركزية في البحث عن أسرار الخلق الشعري، والغاية في المحصلة هي تفسير الوجود من حولنا والوصول إلى الجمال.
محمد موزون: باحث ـ المغرب