مقدمة:
تنطلق قراءتي لديوان "كية لحروف" للزجال يوسف الطاهري، من المنطلقات النظرية التالية:
- "أن أدبية اللغة الأدبية تتأكد بقدر اتساع المسافة بين الدال والمدلول"، (المرايا المحدبة، ص: 302)، بمعنى أنها تقوم على إٍرجاء وتأجيل الدلالة على نحو لا نهائي، أو بمعنى آخر لا وجود لمعنى محدد للنص، "فهناك دائما لعب للدوال واندياح للمعنى ...إلى غير نهاية وبلا حدود. ومن ثم تنتفي قابليته للتفسير النهائي" (نفسه ص: 334)
- "أن كل قراءة هي إساءة قراءة – بتعبير الناقد الأمريكي "فنسنت ليتش" – بمعنى " لا وجود لقراءة موثوقة أو معتمدة أو نهائية" فاصلة، أو بمعنى آخر كل قراءة هي عملية مؤقتة لها تاريخها الخاص ومحكومة به، لذلك فكل قراءة هي "قراءة صحيحة إلى أن تفكك القراءة نفسها، أو تجيء قراءة أخرى تفككها لتصبح إساءة قراءة" (نفسه ص: 314)
- "النص (الأدبي) –بتعبير الناقد المصري عز الدين إسماعيل – يوجد بقارئه الذي يحل محل الكاتب في كل قراءة ويتعدد بتعدد قراءه." بمعنى أن النص الأدبي يصبح بمثابة "مفترق طرق" (بتعبير رولان بارت) حيث تتقاطع اللغة على نحو متجدد ومستمر مع ذلك المخزون اللانهائي من المقتطفات والتكرار والأصداء والإشارات. وهكذا يجوز القول إن النص الأدبي يُكتَب وينكتب في الوقت ذاته عبر المؤلف نفسه. عندئذ يصير النص بالضرورة مهرجانا أو كرنافالا بتعبير باختين يختلط فيه كل شيء: الثقافة العليا والثقافة الدنيا، الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية. أي يصبح النص بينصا. يكون القارئ والحالة هذه حرا في دخول النص من أي اتجاه، دون أن يكترث بالضرورة بقصد المؤلف ومراده الذي يصبح عندئذ مجرد ضيف على نصه.
1- تصفية حساب:
بعد هذا التقديم لو شئنا أن نقوم بمقارنة بين لوحة الغلاف لديوان الزجل الذي أصدره الزجال سنة 2010، بعنوان "يا ما غدا العيد"، ولوحة الغلاف لديوانه "كية لحروف" موضوع هذه القراءة، لاكتشفنا ما يلي:
- أن لوحة الديوان الأول (وهي للرسام محمد بركاني) تظهر أشخاصا بخصائص خِلقية كاملة، في أوضاع وفضاء يوحي بمأساة الاعتقال والتعذيب داخل السجون. أما لوحة الديوان الثاني فهي رسم للأطفال (صاحبته ابنة الزجال الصغيرة)، بما يتسم به من براءة وعفوية لا تكترث بالتفاصيل. والرسم عبارة عن أشخاص أقرب إلى التجريد دون ملامح محددة ولا فضاء واضح. ومن المعروف أن رسم الأطفال ومقدار التفاصيل فيه يستخدم في علم النفس مؤشرا لتقدير النمو العقلي للأطفال، فبقدر ما تزيد التفاصيل بقدر ما يُحكَم بتطور مستوى النمو العقلي لديهم.
- أن هناك انتقالا من الديوان الأول إلى الثاني من التشخيص إلى التجريد (هل هذا الانتقال بين اللوحتين تم عن قصد أم تم بمحض الصدفة؟ لا يُهم الجواب بقدر ما يُهم ما تمت ملاحظته)، يوازي ذلك الانتقال بين اللوحتين انتقال على مستوى الخطاب والمعجم واختيار العبارة بصورة تشبه تصفية حساب مع الخطاب الإيديولوجي المباشر. أي أن الديوان الثاني يبرز إرادة حقيقية في القطيعة مع الخطاب الإيديولوجي المباشر السائد في الديوان الأول، المتميز باستعمال أسماء شخصيات تاريخية، وأسماء أماكن، وبتفاصيل أكثر عن المواضيع المطروقة، والمتميز كذلك بالإيقاع المعتمِد على الموروث الشعبي في مجال القصيدة الزجلية...كما يبرز إرادة واضحة في الارتقاء إلى مستوى من التجريد والصفاء. وعن إثبات هذا الانتقال أو بالأحرى تصفية الحساب سأقدم شواهد من الديوانين:
1) في الديوان الأول ذكر لأسماء شخصيات كان لها دور من الأدوار في مرحلة من مراحل التاريخ السياسي أو الديني أو الأدبي، الرسمي أو الأسطوري، أمثال: كرينة ص: 18، لينين ص: 26، بلقيس، النبي سليمان ص: 31، شهريار ص:34، المهدي (بن بركة) ص: 70، اليعقوبي وباكورة ص: 75.كما جاء فيه (الديوان الأول) ذكر أسماء أماكن مثل: الدار البيضاء، اليونان، بركان، كابول، الفرات، السيلون. ولأحداث تاريخية معروفة في تاريخ الحركات الاحتجاجية بالمغرب مثل: 20 يونيو، سنة 1965 (حكا لي طير البيضا)، بل هناك ذكر لاسم أحد صواريخ صدام حسين والمقصود صاروخ العباس، وذكر لاسم أحد المذاهب السياسية: الاشتراكية.
أما إذا قرأت ديوان "كية لحروف" المحتفى به، فلن تجد اسما لأي شخصية ولا لأي مكان. هناك مجرد إشارة إلى حدث سياسي يمكن أن نتأولها بأنها تعني عشرين فبراير وذلك في الصفحة 25، من النص "الجر الغضبان"، إذ نقرأ ما يلي:
"والشمس
وقفت ف صباح العشرين
نورها ضاوي
يكطر بالزين"
1) "الشايط م لكلام":
وهناك مؤشرات كثيرة على مستوى المعجم المستخدم من شأنها أن تؤكد وجود تلك النقلة، لا يتسع هذا المقام لسرها كلها ولكن يمكن أن نكتفي بالإشارة إلى ميل في الديوان الثاني نحو المتح والاستمداد من معجم الطبيعة والمعجم الصوفي المغربي (الجذبة) بدرجات متفاوتة. ما يثير الانتباه في هذه النقلة هو وجود هاجس متواتر ومتكرر في ديوان "كية لحروف" يتعلق بإرادة ثابتة في صقل العبارة وتهذيب لغتها وتشذيبها وجعلها صافية بلورية تخلو من أي عنصر يربطها بواقع محدد أو تاريخ محكي أو اسم رسخته الذاكرة الشعبية. والشواهد التالية قد تفيد في تبيان ذلك:
- نقرأ في ص 15 من النص "شافوني ف الحرف":
• وضيت الكلمة قبالة الناس
• شافوني في الحرف
• في الروح اللي ساكناه"
- نقرأ في ص 27 من النص "الحرف تاج الروح" (العنوان له دلالة تؤكد ما نلاحظه):
• "مضيت لفهامة قبل لفجر"
- وفي ص28 من النص نفسه نقرأ:
• "كنت نغزل الحرف على هواها
• نوضيه من وسخ البراني
• نلبسو معنى يواتيه
• نسوك لو ونكحل عينيه"
• " والروح تلبسو تاج
• تكودو مع دروب الجدبة"
- نقرا في ص 42 من المقطع 4 من النص "خمسين عام و انا عند راس الشاهد" ما يليك
• " وقلت يا الناس
• بغيت نجدب في الخلى وحداني
• بغيت نصبن لساني
• من حروف غدرتها لمعاني"
- نقرأ في ص 56 من النص "علاش نواطي الهم":
• "غادي نوضي لكلام
• غادي نرفس حروفو
• نطهر حشاه
• ونصبن شقاه
• من الكية اللي كاوياه"
- ونقرأ في ص 80 من النص "وشوفني بعيني" بما يؤكد هذه القطيعة:
"انا صليت (صلاة الجنازة) وتحيت بالسلام
على راس الشايط ف لكلام"
تتواتر الكلمات والعبارات في هذه الشواهد بما يعني الإرادة الثابتة في قول الكلام الصادق الذي لا زيف فيه، ولكن تثبت من جهة أخرى رغبة حقيقية في الرقي بالخطاب إلى منزلة عالية من التجريد والرمزية. ولذلك تتكرر كلمات من مثل "نوضي" بما قد تدل عليه من معان ملتبسة: الطهارة، الإضاءة، كذلك استعمال كلمة "مضيت" بمعنى الصقل، واستعمال كلمة لم يسبق إلى استعمالها أحد مثل "نصبن لساني" تأكيدا للرغبة في أن يكون كلامه على أقصى درجات النقاوة والنظافة واللمعان، والتخلي على نحو مطلق عن "الشايط ف لكلام"، وعن الكلام الموزون على إيقاع القصائد القديمة مثل قصيدة "الباسبور لخضر" التي يظهر أثرها واضحا في الديوان الأول "يا ما غدا العيد".
2) ديوان "كية لحروف" إعادة صياغة لديوان "يا ما غدا العيد":
بعد هذه الملاحظات يحق لنا المجازفة بالقول إن ديوان "كية لحروف" هو إعادة صياغة للديوان الأول "يا ما غدا العيد"، لاسيما أن القضايا والهواجس نفسها التي تؤثث الديوان الأول تظهر بعبارات أكثر صقلا في الديوان الثاني. ويمكن أن نلخص هذه القضايا في أربعة محاور على نحو ما يلي:
a) الوضع الذاتي المتأزم: الهم، الوحدة والإحساس باليتم.
b) حلم التغيير المحبط، ص53، (ولكن رغم الشعور بالإحباط أمام عدم تحقق هذا الحلم بقيام " الثورة العمال طليعة التغيير"، فالشاعر متشبث به رغم تغير الزمان وتغير الرفاق. وذلك ما يعبر عنه في النص "شافوني في الحرف" من الديوان بقوله:
"غادي نورد عطش لكلام
ب عروس أحلام
شلا معاول
مكوْدَة ليام ورابطة لحزام" صص: 16-17)
c) تغول السلطة الحاكمة (ص 60، من نص "سر عيشة والقايد ولفقيه")
d) ضياع رفاق الدرب أو انسياقهم مع إغواءات السلطة،
(وشوفني بعيني "اللي عشقو لحكام" ص80)
e) خطر الحركات الفاشية الإسلاموية الذي عبر عنه في الديوان الأول بشكل مباشر بكلمة الإرهاب، بينما عبر عنه في الثاني ب"كمشة بارود ملفوف ف حزام وكلام" (سبعوه سبع ليالي) ص69-70-71...
ويمكن في ضوء هذا التأويل أن نجد ضربا من التوازي بين بعض النصوص في الديوانين مثل: النص "برارج يا الطير الولهان" في ديوان "يا ما غدا العيد" قد يتوازى مع النص" الجر الغضبان" في ديوان "كية لحروف".
ولئن كانت هذه القضايا تظهر بنسب متفاوتة في ديوان "كية لحروف"، فإن الوضع المتأزم للذات الشاعرة يأخذ نصيبا وافرا منها (وحين أقول الذات الشاعرة لا أقصد بأي حال الزجال صاحب توقيع الديوان، لأن الشاعر حين يبدع يكون أكثر من نفسه). وذلك ما يمكن الاستدلال عليه من خلال مجموعة من المؤشرات منها:
- استعمال كلمة "الهم" "لهموم" "القنط" ما يزيد على 14 مرة، بحيث لا يكاد يخلو نص من نصوص الديوان من استعمالها. ولعل أعلى درجات التعبير عن الهم نجدها في المقطع الخامس من النص " خمسين عام وأنا عند راس الشاهد" ص43:
"والقنط الراكد في حشايا
تكور وطلع نادر
لابس هيادر"
لاحظوا حركة التحول لهذا القنط الأعظم حيث يتكوم في الأحشاء مثل ثعبان أسطوري حتى يصير مثل "النادر" (تل من التبن المضغوط"، ثم يتحول هذا ال"نادر" إلى "بوجلود" أو "سونة" بملابسه الطوطمية. ثم نجد في موضع آخر من النص نفسه (ص46) العبارة التالية:
"هم تقمط وثقال" بما يؤدي المعنى نفسَه.
أما الإحساس بالوحدة فتشهد به كثير من المقاطع في الديوان منها:
- "يتيم
قلت راح ليتيم بلا سلاح" ص 21
- "خمسين عام يا الناس
وانا وحدي كاعد
عند راس الشاهد" ص 32
- "وقالو علاش تخلويت" ص79
- "وحدي لقيت الليل" ص88
- "وحدي لقيت الخوف" ص 88
- "بغيت نجدب ف لخلى وحداني" ص42
2-الشوف الخادع:
عنوان النص الثاني من الديوان موضوع القراءة "شافوني في الحرف" ص 15، مدعاة لاستحضار نصوص سابقة من تراث الزجل المغربي منها نص عبد الرحمان المجدوب:
" شافوني اكحل مْهَلَّفْ قالو ما في دخيرة [ مهلف: لابس سلهاما مرقعا]
وانا ك لكتاب المألف فيه منافع كثيـــرة"
الشوف هنا مصدر للوهم، إذ هو عاجز عن رؤية الحقيقة.
ومن هذه النصوص، الأغنية المعروفة لعبد الهادي بلخياط:
"شافوني الناس بالصنارة
دازو قالو ليا مبروك
ظنوني صياد مهارة"
هنا أيضا الشوف مصدر للوهم.
ومن هذه النصوص أيضا "شافوا السلطان في القمرة" وهو ليس نصا مكتوبا بل هو نص شفوي تحكيه الذاكرة الشفوية للمغربة عن فترة الاستعمار الفرنسي ونفي الملك محمد الخامس. وتدل هذه الرواية الشفوية على حالة من الهوس الجماعي الذي يرى فيه ما لا يرى في الواقع بل ما يكمن في الدواخل والنفوس من رغبات.
من هذه الشواهد يصير الشوف أو الرؤية نوعا من العمى. بيد أن النص "شافوني في الحرف" من ديوان "كية لحروف" يجعل من الحرف مرآة تعكس صورة ذات الشاعر فهل ذلك ممكن؟
الحرف في الديوان له مرادفات هي الكلام، اللسان، وقد نجد أحيانا عبارات تجتمع فيها هذه المرادفات الثلاثة. ولكن ألا يصبح الشعر أو الزجل كلاما عاديا إذا تحول إلى مرآة يتطابق فيها معنى المؤلف بمعنى القارئ وينتفي فيها كل سر؟ ولكن نصوص الديوان من خلال صياغتها الرمزية تظهر عكس ذلك فهي في سعي دائم لتأجيل دلالاتها. ومن ذلك نستنتج أن العبارة "شافوني في الحرف" تظهر غير ما تبطن بالرغم من أننا نجد نوعا من التأكيد على هذه الرغبة في الشفافية القصوى فبي عنوان آخر هو "وشوفني بعيني" ص 79. أما النص في الديوان الذي يشي باستحالة هذا التطابق بين قصد المعنى ومعنى القصد، هو النص الأخير في الديوان: "شكون يقرا دموعي" الذي يفهم منه ألا أحد يمكن أن يعرف معاناة ذات الشاعر فهو وحده الذي عانى من الليل بمعانيه المتعددة (السلطة الغاشمة، الاعتقال...) ووحده الذي عانى الخوف بمعانيه المتسعة (التعذيب، الاعتقال، العزلة...). لا حظوا أنه في الحرف الذي ينبغي أن يقرأ استعملت كلمة "الشوف" وفي الدموع التي ينبغي أن ترى استعملت كلمة "القراءة".
ولئن كان رولان بارت يميز بين نوعين من النصوص: بين النصوص التي تقرأ فتستهلك مرة واحدة دون العودة إليها، وبين النصوص التي تكتب أي التي تعاد كتابها من خلال القراءات المتجددة. فإني أرجو لهذا الديوان الجديد أن يكون من النوع الثاني.
الهوامش والمراجع:
1- ديوان "كية لحروف"، يوسف الطاهري، 2016، بركان، مطبعة نجمة الشرق.
2- ديوان "يا ما غدا العيد"، يوسف الطاهري، 2010، بركان، مطبعة تريفة.
3- " المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيك"، د. عبد العزيز حمودة، 1998، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد: 232.