كلما تدافقت الكتابات الشعرية مستثيرة في دفق حركي خصيب أسئلتها، يراود الشاعر توق ابتداع قصيدة القصائد، تلك القصيدة-الحلم، التي تكتمن في ثناياها كنه الشعر وحقيقته الجوهرية ، وتشد المتكثر منه إلى الواحد المتفرد المطلق، الذي لا كمال يرجى بعده، مباعدة بين المطلق والنسبي، اللازمني والزمني، اللامكاني والمكاني، "الصورة" والظل، الخفاء والتجلي، تلك القصيدة التي تقدح بأسئلتها شرارة شعرية القصائد، وتشرعها على أمدائها المتمادية التي لم ترتدها من قبل، موفرة لها ما تكون به مبنى ومعنى ذات جمالية وحداثة، تلك القصيدة التي تداني حدي ثنائية العدم والوجود، وتستوعي جدليتهما، وتومض في القصائد إيماضها الحواري، مختلقة جدلية صمت الدلالة وبوحها، التي تتنزل منزلة معادلها الرمزي الشعري.
بيد أن هذا التوق الذي قد يجنح إليه الشاعر، تنكشف سرابية حلمه ووهميته أمام تواصل القصائد الشعرية، واسترسالها الزمني، لأنه توق إلى التعالي بالشعر عن الزمن، والانصياع لمبدإ الهوية الثابتة، وتعليب الكثرة الشعرية في علبة المطلق المتفرد، بينما الشعر يذعن حتما للنسبي، ولمنطق الصيرورة الزمنية، وينشد حرية الاختلاف، وارتياد آفاق الكتابة الاحتمالية المشرعة على المغاير.
لهذا وذاك، يستحيل وجود قصيدة القصائد وجوهر الشعر وحقيقته المطلقة، ذلك أن الشعر يتوقف على الزمن المسترسل حيث يتخلق باستمرار، ويخلق اختلافاته الافتراضية، على أن توهم إمكانية ابتداع تلك القصيدة، قد يدعم الوعي الشعري بنبضات حية، تبعث الشاعر على استيعاء الشعر، واستيعاء حركيته الدائبة.
فكما يحفز الخيال الذات على التفكير في ذاتها، والبحث عن كينونتها وكينونة وعيها، وآفاقها الإبداعية الرحبة، يحفز وهم قصيدة القصائد الذات الشاعرة، على التفكير الشعري في الشعر وبالشعر، واستكناه كنه حركيته.
إنه وهم يجعل الكتابة مهووسة بالمختلف، الذي كلما أمسكته تاقت إلى ما يختلف عنه، توقا لا يقر له قرار، ذلك أن بغية الكتابة هنا بلوغ مبلغ قصيدة القصائد.
لذا فهو وهم يحدو جدليا بالكتابة إلى حقيقتها، أو إلى حركيتها المتساوقة مع حركية الزمن، فهي بينما تتوق إلى منحى كتابة مطلقة تشد المتكثر إلى فرادتها، وتتعالى عن الصيرورة الزمنية التاريخية، تنحو حتما منحى كتابة نسبية دائمة التخلق، تعتبر ما تبدعه مجرد وعد بما لم تبدعه، أو بما لم يوجد بعد.
إنه وهم يبعث الكاتب على استيعاء جدلية الثابت والمتحرك، التي تضعه في المفترق الصعب، بين قول الكتابة بأسبقية ماهيتها على وجودها، وقولها بأسبقية وجودها عن ماهيتها.
مما يجعله في المحصلة، وهو يستحضر قصيدة القصائد المفترضة، إزاء ثلاثة مسارب للكتابة الشعرية:
1. مسرب قصيدة النمذجة، التي تتشرنق في "مورفولوجية" شعرية سابقة من حيث "الماهية" عنها، وتفسر المتحرك بالثابت.
2.مسرب قصيدة الكتابة، التي تستخف بتلك "المورفولوجية" استخفافها بكل "ماهية" شعرية سابقة عنها، وتعيش الحركة الزمنية ملتحمة بآنيتها في استرسالها.
3.مسرب قصيدة القصائد، التي تلازم حيز المفترض، والمحتمل أوحيز الحلم والوهم، والتعالي عن الصيرورة الزمنية، محفزة سابقتها على الانبجاس، والنزوع إلى لعبة الاختلاف.
وتظل القصائد الشعرية على اختلاف منازعها، تهجس بهاجس بلوغ مبلغ قصيدة القصائد، وهي قصائد منها ما يتوهم تبوّء منزلة تلك القصيدة، ومنها ما يتوهم في استرسال الكتابة إمكانية تبوئها.
ويناظر الوهم هنا في علاقته الجدلية بالشعر العدم في علاقته الجدلية بالوجود، فكلاهما يتواجد مع ضديده تواجدا شرطيا يجعل الواحد شرط وجود الآخر.
حسبك على هذا التناظر التقابلات التالية:
أ. كما يستقيم العدم شرطا للوجود الكائني، يستقيم وهم قصيدة القصائد شرطا للوجود الشعري.
ب. وكما يقتضي العدم ضديده في الوجود المتجدد ليحد به، يقتضي الوهم الشعري ضديده في حقيقة شعرية نسبية ليحد بها.
ت. وكما يجلو العدم كينونة الوجود بقدر ما يعدم، يجلو وهم القصيدة كينونة الشعر بقدر ما يوهم.
فكل طرف من طرفي الثنائيتين يشترط الآخر، وينشرط به في الآن ذاته، إن هذا التقابل التشارطي يسم الكتابة الشعرية بوسم جدلية، تتخذ عدة أقنعة معجمية، تشكل مهما تعددت الرديف الرمزي لجدلية الوجود والعدم، ولعل من أمثلة تلك الأقنعة، الثنائيات الجدلية التالية:
- دلالة تقريرية، دلالة إيحائية.
- بنية سطحية، بنية عميقة.
- دلالة التصريح، دلالة التضمين.
- دلالة لازمة، دلالة متعدية.
- المدلول المباشر، المدلول غير المباشر.
- فراغ دلالي، كثافة دلالية.
- سواد الكتابة، بياض الكتابة.
- بوح الكتابة، صمت الكتابة.
إن الحركة الجدلية الدائبة لهاته الثنائيات التي تجلو في المحصلة ثنائية واحدة، تنشد إلى ما تجلوه الكتابة من معان قريبة المنال، وإلى ما تضمره في ثناياها من معاني المعاني - بتعبير عبد القاهر الجرجاني- المتنائية، وهي حركة تهجس برغبة ملحة طموح في كشف المفترض الشعري المتسامي، واختلاق قصيدة القصائد.
إنها رغبة يتقاسمها حسبما تومئ إليها الثنائيات: الشاعر والمتلقي، فكلاهما يقوم بعملية كيميائية لاختلاق تلك القصيدة، أو بلوغ مبلغها.
الأول، إكسيره الحلم، والثاني إكسيره كفاءته التأويلية، وطاقته الحدسية الاستبصارية.
وإن كانت عمليتهما المزدوجة لا تؤول إلى قصيدة القصائد - القصيدة السراب، وإنما تؤول إلى تركيبة إبداعية أو نقدية مغايرة، فإنها تضخ الحياة في أوصال الوعي الشعري وترفده بهاجس الاختلاف، كما ترفد الوعي الإجرائي، أوالتأويلي بهاجس الحوار، الذي يروم اشتراع أفق نقدي يُدب نشاط التزييح في الثابت، ويبث الحركة في الساكن.