تمهيد
تمثّل مسألة وحدات الخطاب و العلاقات بينها من أبرز المسائل الخلافيّة التي لا تخلو منها دراسة أو بحث ما في مجال لسانيات الخطاب أو النصّ . و إذا ما تجاوزنا قضيّة المُكوّن الخطابي أو النصّي و ما أثارته هي الأخرى من ســـــــجال و تقاطعات بين من يرى الجملة وحدةً أساسيّة مكوّنة للخطاب/النصّ و من يعدّ النسيج الخطابي / النصّي قائما على الأقوالles énoncés أو القضاياles propositions اعتبارا منه أنّنا نتخاطب في الواقع بالأقوال[1] لا بالجمل ، فإنّ طبيعة العلاقات التي تربط وحدات الخطاب لا تقلّ أهمّية عن مُكوّناته أحيانا . ولكم يبدو عسيرا حصر هذه العلاقات و بيان سماتها و خصائصها خاصّة و أنّ نسقيّة الخطاب تتجاوز ما هو لغوي نصّي لتتّسع إلى سياقات أخرى ثقافية و اجتماعـــــية و سياسيّة . وهي ميزة الخطاب ربّما في كونه نسقا تفاعليا مفتوحا وعلينا في كلّ مرّة إعادة رسم ملامحه و حصر سديمه .
كما لا بدّ من التذكير في مقدّمة هذا العرض بخياريْن :
أوّلهما أنّنا سوف لن نخوض السّجال المتعلّق بترجمة بعض المفاهيم من الأنقليزية أو الفرنسية إلى العربيّة و سنكتفي باستخدام المُتداول منها توقّيا من الخـــــــــــــلط و الانحراف عن مقاصد البحث ، إذ قد نجد على سبيل المثال من يُعرّب cohésion بـ : "السّبك " أو" الرّبط "أو "التماسك" أو "الاتّساق" في حين يُترجمون Cohérence إلى : " الحبك " أو "الانسجام" أو "الترابط" .
و تجاوزا لهذا التشتّت الاصطلاحي ارتأينا استخدام مصطلحيّ : "الاتّســـــــــــــاق و الانسجام " المُتداوليّن في أكثر البحوث المتعلّقة بلسانيات الخطاب و المُحكّمة علميا (أطروحة محمد الشاوش ، أعمال محمد الخطابي ، أعمال الندوات العربــــية و الدوليّة في مجال لسانيات النصّ و الخطاب : ندوة أغادير بالمغرب خاصة في دورتها الرابعة مارس 2014 ... ) .
ثانيهما أنّنا في دراستنا للمفهوميْن سوف لن نكتفي حصرا بالمساهمات الغربية بمختلف تفريعاتها و ألوانها بل سنسعى ما أمكن استحضار جهود النحو العربي توقّيا كذلك من الانبهار الأعمى و دون سقوط في التأصيل الفجّ و الإسقاط العقيم .
I ـ مقوّمات الخطاب و شروطه :
عندما نخرج من نظام الجملة و العلاقات التي تربط مكوّناتها إلى عــــــــالم النصّ و الخطاب، ندخل في نسق جديد من التوليفات أكثر تعقيدا ، كما نفقد الصرامة التي عهدناها في مستوى الوحدات الدّنيا للغة . و عندما تتّسع دائرة التحليل إلى مستوى النصّ / الخطاب يوشك الأمر أن يَسيح بحكم دخول متغيّرات جديدة إلى عالم الخطاب و من أبرزها : الدلالة و الاستعمال و المقام.
وبرغم انفلات الخطاب عن الضّبط و التحديد فقد دأب الباحثون كلّ في اختصاصة على محاولة شكم هذا الانفلات و الوقوف على بعض خاصياته الثابتة نسبيا و جدول توليفاته المُحتملة .
و إذ نبدأ بالمستوى الشكلي أي كيفيّة انتظام الوحدات داخل النصّ/ الخطاب نقرأ لجيرا غونو Gérard Genot [2] (1937) كيف يفسّر الانسجام و طريقة توليف الوحدات (الجمل أو الأقوال) وفق نسقيْن من التركيب :
ـ إمّا تركيب خطّي تتابعي Linéaire على هذا النحو : [قول 1] + [قول2]+[قول3] ....
ـ أو تركيب تراتبي Hiérarchique متداخل الأبعاد و الأشكال : فيه ما هو قائم على التضمين (قول داخل آخر) وما هو قائم على التشجير و التفريع ... إلخ
و بناء على ما سبق يمكن أن نفهم أنّ بناء الخطاب هو في الحقيقة أبنية وما الخطيّة[3] التي ألفناها في مستوى الوحدات الصغرى إلاّ شكلٌ ممكن من جملة أشكال و أبنية أخرى . كما ندرك في نفس الوقت أنّ ما جعل من وحدات الخطاب سواء كانت جملا أو أقوالا كيانا متماسكا هو هذا التوليف القائم على محوريْن حسب عبارة الأستاذ الأزهر الزنّاد :
- محور التتابع أو الخطيّة في الخطاب
- محور الاندراج أو التركّب الداخلي في الجمل .
و لمزيد من التبسيط فإنّ ترتيب الجمل و طريقة انتظامها في المحور الأوّل هو ما عبّر عنه النحاة العرب بجملة الابتداء (جملة واردة في البداية ) و جملة الاستئناف (لاحقة على سابقتها) وقد أولوا أدوات الاستئناف اهتماما بالغا باعتبارها إحدى اللبنات البارزة في بناء الكلام و تماسكه .
أمّا المحور الثاني فهو في الحقيقة ما يتعلّق بدرجة تركيب الجملة من حيثُ عدد النّوى الأسناديّة المشتملة عليها و قد سمّاها النحاة العرب بالجملة الصّغرى و هذا النظام قائم على التراكب و التضمين أشبه بالدمية الروسيّة .
أمّا إذا تجاوزنا هذه الخصائص الشكليّة الأوّلية و التي قد لا يختلف فيها كثيرون بحكم حدود التوليفات المُحتملة و انطلقنا من النصّ كبنية تخاطبيّة مستعملة يطرح السؤال نفسه :
ما مقوّمات النصّ/ الخطاب ؟ وما هي شروط تحقّقه ؟
لا يمكن في الحقيقة وضع سقف نهائيّ لهذه الشروط لأنّها تتّسع و تضيق بحسب المناويل و المقاربات . فبعضهم اكتفى بثلاثة اعتبرها أساسية (Pier Marco Bertinetto 1947) وهي :
1- التحقّق و الإجراء : L'actualisation :
و المقصود به خروج اللغة من دائرة النّظام إلى دائرة الإنجاز و الاستعمال و هذه الدائرة الثانية هي التي تكشف عن الخصائص الطبيعية للغة أي في سياق إنجازها الفعلي و ليس في مستوى لغتها الواصفة أو الأمثلة النمطية [4] المقتطعة من سياقاتها .
2- تجذّر الكلام في المقام : L'ancrage dans le monde du discours :
هذا الشّرط يعود إلى كون الظاهرة اللغوية في مستوى النظام المُجرّد لا تكفي وحدها لتحقيق التخاطب و التواصل . وكمثال على ذلك : المُشـــــــيرات les déictiques و التي تنضوي تحتها في العربية أسماء الإشارة و الضمائر والظروف المكـــــــانية و الزمانية لا تكتسب دلالاتها الحقيقيّة أو إحالاتها إلاّ ضمن مقام مخصوص . فالمُشيرات بدون سياقاتها النصيّة و المقاميّة تظلّ جوفاء بلا معنى وخالية من كلّ قيمة تواصليّة . وبذلك يغدو المقام مقوّما أساسيا بدونه لا نستطيع تأويل و فهم هذه المُشيرات . و كمثال على ذلك نورد هذه الأقوال لتمييز الفرق في تأويل ظرف الزمان المُبهم "اليوم" في مقامات مختلفة :
(1) اليوم اكملت لكم دينكم
(2) اليوم ننطلق في الصمت الانتخابي
(3) نشر مقاله في صحيفة "اليوم"
3- الاتّساق و الانسجام : وهو شرط ثالث من شروط تحقق النصّ و الخــــــــــطاب و يتمثّل في مجموع العلاقات الشكلية والمعنويّة التي تشدّ النصّ و تجعل منه كيانا تامّا . وسوف نعود إلى تفكيك المفهوميْن و تفسيرهما بأكثر تفصيلا في القسم الثاني من العرض .
أمّا درسلير و بوغروند Dressler et Beaugrande في كتابهما "مقدّمة في لسانيات النصّ" 1980 فقد ضبط سبعة شروط قياسيّة للنصّية sept standard وهي :
الاتّساق : cohesion
الانسجام : coherence
القصديّة : intentioneality
المقبوليّة : acceptability
الإفادة : informativity
المقاميّة : situationality
التناصّ : intetextuality
في حين نجد ميشال شارول[5] Michel Charolles قد ضيّق القائمة و حصرها في أربعة شروط أو مقوّمات فقط وهي :
التكرار : récurrence : وهو شرط من شروط الاتّساق داخل النصّ و ضامن للترابط بين الجمل و يتمثّل في إعادة كلّ جملة لعنصر من العناصر الموجود في جملة سابقة لها مثل الضمائر أو الإشارة ... إلخ
مثال : [جدّت جريمة في بوسنسون الأسبوع الماضي ، عجوز عُثر عليها مخنوقة داخل بيت الاستحمام ، كان الاغتيال بشعاً ]
التدرّج :progression : قاعدة التدرّج تقتضي أن تكون كلّ جملة لاحقة مُحقّقة لفائض قيمة دلالي و جديد عن سابقتها وهو شكل من أشكال التجدّد الدلالي و بدونه تضعف القيمة الإخباريّة للنصّ و تتقلّص الإفادة .
عدم التناقض : non – contradiction وهو شرط منطقي من شروط التــــــناسق و الانسجام ويقوم على قاعدة منطقيّة وهي قاعدة الثالث المرفوع le tiers exclu تقول بكونه لا يمكن الجمع بين قضيّة ونقيضها : [p] و[non p] بناء على كون القضيّة الواحدة لا يمكن أن تكون صحيحة و خاطئة في نفس الوقت : (p a ~ p) و إذا ما تحدّثنا عن النصّ فإنّ متتالية متكوّنة من جملتيْن لا يمكن أن تُناقض إحداهما الأخرى بأيّ شكل من الأشكال : فقول من قبيل : [يوم الخميس القادم سنقوم بتمرين فُجائيّ (الأستاذ مخاطبا تلاميذه)] هو قول مخالف للمنطق الطبيعي و لا يقبله العقل .
وقد تناول الباحثون مسألة عدم التناقض بكثير من التفصيل و قسّموا التناقض إلى :
التناقض التلفّظي : Contradictions énonciatives من قبيل :[ سأل الأستاذ التـــلميذ : إلياس ! ما اسمُك ؟ ]
التناقض الاقتضائي Contradictions inférentielles et présuppositionnelles :
مثل : [عمّتي أرملة في الخمسين من عمرها (1) ، خرج زوجها اليوم ليصلح آلة الخياطة(2)] . فالعلاقة الاقتضائية بين الجملتين (1) و (2) فاسدة بحكم غياب الانسجام الدلالي بين "أرملة و زوجها " .
التناقض في العوالم و التمثّلات : les contradictions du
monde (s) et de representation :
وهو تناقض يتجاوز الحقل اللغوي لينفتح على مجالات أخرى متصلة بدائرة الاعتقاد والتمثلات الطبيعية و الاجتماعية و غيرها والمثال المأثور الذي يستشهدون به هو :
[بيار يحلم بكونه ألمانيّا ، و لا أحد يعلم بذلك ]
والمثال الثاني : [جرى أوسكار سريعا داخل مترو الأنفاق و ركض بتهوّر حتّى اصطدم بشجرة ] هنا العالم النصّي غير مطابق للعالم الطبيعي ولتمثلات السامع إذ يفترض أنّه لا وجود لأشجار داخل مترو الأنفاق .
التعالق : relation :
هذا المبدأ الرابع يقوم على شرط يتمثّل في كون الانسجام بين مقطعيْن نصّييْن يقتضي بالضرورة ترابطا بين الأحداث أو الأشياء التي يُحيل عليها في العالم الخارجي . ففي عالم مُتصوّر M لا يكون الترابط بين حالتيْن أو حدثيْن P و q
إلاّ إذا نشأت بينهما علاقة من قبيل : السببيّة ، الشرط ، النتيجة ، المقابلة ...إلخ
مثال :
(1) مريم مريضة "p"
(2) ستلدُ مريم بعد أسبوع "q"
(3) بعض المثقفين يكرهون الأغاني الشعبيّة "r"
إذا ما تموقعنا في العالم الطبيعي أو المُتصوّر M يُمكننا بناء علاقة انسجام بين المثال (1) و (2) من قبيل السببية أو الرغمية أو المقابلة مثل :
مريم مريضة رغم أنّها ستلد الأسبوع القادم
لأنّها ستلد الأسبوع القادم مريم مريضة
في حين تستحيل أية علاقة بين المثاليْن (1) و (2) مع المثال (3) و لا يُمكننا التوسّل بأيّ رابط نحوي أو معنوي لإنشاء علاقة من نوع ما بين "r" وبقية الأمثلة .
II ـ في مسألة الخلاف بين الاتّساق و الانسجام
تُعدّ مسألة الاتّساق و الانسجام من أهمّ النقاط الخلافيّة في الدراسات اللسانية المعنية بالنصّ و الخطاب . و الخلاف لا يشمل الفروقات المفهومية فحسب بل أيضا مكوّنات و طبيعة كلّ منهما . و ممّا يزيد الأمر التباسا هو اشتراك المفهوميْن في نفس السابقة المُعجميّة le préfixe "cohé" الذي يعني الجمع و الربط وهو ما جعل بعض الدارسين يعدّهما مفهوما واحد .
وبالعودة إلى معجم لاروس نجد تعريف الاتّساق بكون "خاصيّة مجموعة مترابطة الأجزاء" و نفس التعريف تقريبا يُعطى للانسجام cohérence "هو خاصية لما هو منسجم ، مثل الانسجام الداخلي و المنطقي لخطاب ما ، لفعل أو فكرة ما" . أمّا طبيعة الكلمتيْن فغالبا ما تعتبر المعاجم اللغوية "الانسجام" مصطلحا تعليميّا didactique و يعني " الترابط ، الاتّحاد ، وصل شيء بآخر..." في حين يقترن مصطلح "الاتّساق cohésion" بالمجال الفيزيائي و يعني "الالتزام ، القوّة التي بها تتّحد الأجسام في ما بينها ... إلخ"
و في رأينا يبدأ التمييز الاصطلاحي و المفهومي مع المعاجم المُختصّة و سنكتفي بمثاليْن :
المعجم الموسوعي للتداوليّة [6] : حيث يرد هذا التعريف للانسجام :
"يُحيل الانسجام على خصائص النصّ أو الخطاب التي تضمن قابليّته للتأويل . و كي يكون النصّ منسجما ليس من الضّروري أن تُشير خصائصه الشكليّة ،صراحة ، إلى العلاقات بين الأقوال ، فهذه العلاقات يمكن الحصول عليها عن طريق الاستدلال إمّا بمقدّمة ضمنيّة أو بفرضيّة سياقيّة و إمّا بخُطاطة أعمال منمّطة (سكريبت أو خطـّة أو سيناريو)"
ما نفهمه من التعريف الحالي أنّ سمة الانسجام لا تُحدّدها العلاقات الشكليّة النصيّة بالضرورة و إنّما السياق أو الموضع (ديكرو) أو الاستلزامات الخطابية (غرايس ) أو السكريبت أو الخطاطة (أبيلسون و شانك[7])وكمثال على ذلك عندما ننظر في الجملتيْن التاليتيْن :
(1) كانت مريم جائعةً
(2) فتحت دليل ميشلان
لا يُمكن أن نتمثّل أيّ انسجام بين الجملتيْن إلاّ إذا علمنا مثلا أنّ "دليل ميشلان" يحتوي معلومات عن المطاعم . وهذا هوالاستلزام الخطابي أو الموضع الضروري لبناء العلاقة المنطقية بين الجملتيْن . وانطلاقا من ذلك نفهم أنّ مريم فتحت الدليل لتختار مطعما لتلبية حاجتها من الطعام و ليس لتسكّن جوعها مثلا من ورق الدّليل .
ويبرز مفهوم الخطاطة او السكريبت كإحدى مقوّمات الانسجام مثل في المقاطع النصيّة التي يتخلّلها الحذف أو المسكوت عنه كما في المثال التالي :
(1) دخلت مريم إلى المطعم ، طلبت طبقا من السمك ، خرجت تحت وابل المطر المتهاطل .
ففي المثال التالي نجد تفاصيل محذوفة من قبيل : الجلوس إلى الطاولة ، النظر في دليل المأكولات ، اختيار الأكلة ، الأكل ، دفع الثمن ... إلخ . و كأنّه ثمة تعاقد ضمني بين المُخاطب و المتلقّي على سدّ الفراغات أو المحذوفات انطلاقا من خطاطة نمطيّة معروفة و مألوفة في عالم المطاعم .
في نفس المعجم يرد تعريف الاتّساق cohésion كالتالي : "إذا كان الانسجام البُعد التداوليّ للخطاب فإنّ الاتّساق بُعده اللساني و الدّلالي : والخطابُ يكون مُتّسقا حقّاً إذا وُجدت علاقات قضويّة بين الأقوال التي تُكوّنه . فالخطاب الذي يعقد علاقات زمانيّة و غرضيّة و إحاليّة يكون إذن متّسقا . ولكن في المقابل من المُمكن جدّا أن يكون الخطابُ منسجما دون أن يكون مُتّسقا "
ما نفهمه من التحديد السابق أنّ الاتّساق يتّصل أساسا بالخصائص الداخليّة المُحايثة للنصّ و الانسجام أشمل ويمكن أن يمتدّ إلى قرائن مفارقة للنصّ كالسياق و الــــمقام و دائرة الاعتقاد و العالم الخارجي و العالم المُتصوّر ... إلخ
النتيجة الثانية هو أنّ الانسجام لا يشترط الاتّساق إذ يمكن أن تتشكّل العلاقة بين الجمل دون روابط نصيّة أو لغويّة ظاهرة مثال :
(1) كم الساعة ؟
(2) منذ قليل مرّ ساعي البريد
المثالان قد ينعقدان ضمن علاقة ما دون أن نحتاج إلى واسمات الربط لأنّ مُحدّد الانسجام كامن في دائرة التأويل .
معجم تحليل الخطاب [8] :
وقد اعتمد المؤلفون التعريف التاريخي في الأوّل لمصطلح الانسجام و الاتســــــاق و ربطوا بداية ظهوره بـ : "ق . قيوم" من علماء اللسان ثمّ أصبح شديد الالتصاق بلسانيات الخطاب . كما رأوا أنّه من "صميم تعريف النصّ لا ينفصل في اللسانيات النصيّة عن مفهوم الاتّساق الذي كثيرا ما يختلط به "
أمّا الحدّ الثاني فكان نسقيّا إذ اكتف المؤلفون بعرض المفهوم انطلاقا من ثلاثة أنساق نظرية منضوية ضمن لسانيات الخطاب وهي :
* أعمال هاليداي و رقية حسن (1976) :" الاتّساق يدلّ على مجموع الوسائل اللسانيّة الرابطة بين عناصر الجملة و بين الجمل و التي تسمح لملفوظ شفوي أو كتابي بأن يبدو في شكل نصّ ... والروابط التناسقية المسؤولة عن أثر هذا النحو من التناسق : عائدات ضميريّة و محدّدة ، إحالة مشتركة ، عائد بلاغي و روابط ، تعاقب الأزمنة الفعليّة ، اقتضاء ، إسماء (nomination) ... إلخ و لا ينفصل الاتّساق في نحو النصّ عن مفهوم التدرّج الأغراضي . "
* تعريف ر. دي بوغراند للانسجام انطلاقا من مقابله الاتّساق و يرى أنّ "النصيّة القائمة على الشكل " يُقابلها الانسجام باعتباره نصية قائمة على الإعلام[9] . فالاتّساق في نظره مظهر للنحويّة في حين أنّ الانسجام مظهر للمقـــــــــــــــبولية . " فالانسجام ليس خاصية لسانية صرفة للنصوص وهو ينتج عن حكم معرفة الذوات بالمقام و على معارفها المعجمية و الموسوعية .
* تعريف د . سلكتا (1975) : وهو تعريف اهتمّ بمنزلة المفهوم إذ خصّ اللسانيات النصيّة بمفهوم الاتّساق باعتباره "يتحدّد لسانيا في مستوى التنظيم الداخلي و المُجرّد للنصّ" ووضع مفهوم الانسجام ضمن المفاهيم المركزيّة للسانيات الخطاب "باعتباره من صنف المُمارسات الخطابيّة فهو من قبيل تحليل الخطاب مُراع لجنس الخطاب ."
هذا الحدّ كما رأينا لم يهتمّ بالمفهوم في حدّ ذاته بقدر ما عني بمنزلته بين لسانيات النصّ ولسانيات الخطاب .
III- مظاهر الاتّساق و أدواته :
خصّت الباحثة الهنديّة الأصل رقيّة حسن و زوجها ميخائيل هاليداي مسألة الاتّساق بكتاب عنوانه : "الاتّساق في اللغة الأنقليزية" والصادر بلندن سنة 1976 . ويتألف الكتاب من مدخل و سبعة فصول شملت ستّةٌ منها مظاهر الاتّساق التالية : الإحـــالة و الاستبدال ، الحذف ، الوصل ، والاتّساق المعجمي و معنى الاتّساق . و جاء الفصل الأخير في شكل تطبيقات على نصوص متنوعة باستخدام المفاهيم المدروسة.
في مقدّمة الكتاب يعتبر المؤلفان الاتّساق مكوّنا أساسيا لنصيّة النصّ أي به يكتسب النصّ ملامحه كما عدّا الاتّساق مكوّنا من مكوّنات النظام إذا انحصر داخل الجمـلة و كأنّهما يقرّان بأنّ نفس الروابط المُحقٌقة للانسجام داخل الجملة هي نفسها في مستوى النصّ سوى أنّ الاتّساق الأوّل نظامي و الثاني إجرائي . وهذه الفكرة تناولها الدكتور محمد الشاوش بالنقد و كشف عن أوجه التناقض و التهافت الغرض من ذلك "توجيه النظرية وجهة مقرّرة سلفا " على حدّ قوله .
وينزّل الباحث المغربي محمد الخطابي عمل المؤلّفيْن ضمن اللسانيات الوصفيّة بناء على مبرّريْن :
- الأوّل متعلّق بنعت الباحثيْن عملهما بأنّه وصفيّ
- والثاني كتمييز عن اللسانيات النظرية (تشومسكي) والتي لا تنطلق من المُدوّنة الموصوفة بل من الافتراض أساسا في سبيل بناء قواعد كليّة لوصف أكبر عدد ممكن من اللغات الطبيعيّة .
ينطلق الباحثان من كون كلّ متتالية من الجمل تُشكّل نصّا بشرط أن تنعقد بين الجمل علاقات تتمّ بين عنصر و آخر . و يُصنّف المؤلّفان العلاقات إلى نوعيْن :
علاقات قبليّة و علاقات بعديّة كما يوضّحها الرسم التّالي :
لمتابعة القراءة يرجى تحميل كامل المقال من هنا
[1] القول أو التلفّظ يختلف عن الجملة باعتباره حاملا لعلامات لسانيّة دالّة على حضور المتكلّم / المُخاطب أثناء الكلام أي كلّ مظاهر الذاتيّة في الخطاب .
[2] باحث فرنسي درس الثانوية بتونس بمعهد كارنو و اهتمّ باللسانيات و النحو الإيطالي و من أبرز أعماله : Grammaire et Récit - Essai de Linguistique textuelle, Nanterre, Publidix, 1984.
[3] - نقصد بالخطيّة جريان اللغة على محور الزّمن في مستوى الوحدات الدنيا كالصوتم و اللفظم و اللصيغم ... إلخ
[4] نقصد بها الجمل الواردة في كتب النحاة على سبيل التمثيل و الاستشهاد من قبيل : "ضرب رجل زيدا " سيبويه
[5] CHAROLLES M., 1995, "Cohésion, cohérence et pertinence du discours", Travaux de Linguistique, 29, 125-151.
[6] Dictionnaire Encyclopdique De Pragmatique: Jacque Moeschler et Anne Reboul,
P: 500,506
[7] Cambridge university Press 1977Schank R.C &Abelson :"scripts , plans and knowledge" .
[8] "معجم تحليل الخطاب " لباتريك شارودو و دومينيك منغنو ترجمة : عبد القادر المهيري و حمادي صمود . مراجعة صلاح الدين الشريف ، المركز الوطني للترجمة ، دار سيناترا ، تونس 2008 ، صفحة 100، 101
[9] ترجمها الدكتور محمد الشاوش بـ : نقل المعلومات l'information