يعدّ محمد العياشي من شعراء الألفية الثالثة، الذين اختاروا بوعي رزين الكتابة الشعرية الموزونة داخل نظام الشطرين. اختيار حرّ يليه الإبداع داخل هذا النمط الشعري، زيادة عن بحث مستمرّ لا انقطاع فيه عن صور وأساليب تجديدية في الكتابة الشعرية. مما يجعلنا بدون تردد وبكل قوة تصنيفه من شعراء الحساسية الجديدة، هذه الحساسية التي همها الأفق لا السفح.
بعد ديوانيه الأولين "منابع الأشواق" (2010) و"أطلسيات" (2012)، نتناول هنا في نصنا هذا، بفرح خفيف، آخر إصداراته الشعرية "وحيُ البيضاء" (2015). فيه نرفع الأصبع لنشير إلى المنابع الجمالية في الديوان، وخاصة –وهذا ما يهمنا هنا- جمالية المكان كدال جمالي/إيقاعي/جدلي داخل الديوان ككل. لكن قبل الخوض في هذا سنقف عند جماليات حقّ الوقوف عندها.
وقفة عند العنوان:
للمكان حضور مائز وبارز وأساس في ديوان "وحي البيضاء" للشاعر المغربي محمد العياشي، انطلاقا من العنوان ذاته.. هنا لنا وقفة موجزة تأملية خفيفة، قبل الولوج إلى حقول النصوص الشعرية الرحبة المُضرّج بها الديوان. كلمة "وحيُ" تستوقف القارئ وأول مطالعة للديوان.. ما دلالة الوحي هنا؟ ولماذا الوحي وليس الإلهام؟ وأي علاقة بين كلمتي الوحي والبيضاء (المدينة)؟ بمعنى آخر أي علاقة بين الوحي والمدينة؟
سبق وكتبنا ذات مرة أن الشعر وحي الشعراء، وأن الشعر الحديث لم يعد يُرى بمفهوم الإلهام. فالإلهام هو نتاج التأثر بعامل خارجي، خارج الذات، بينما شاعر اليوم يكتب انطلاقا من الباطن، من الذات، الذات الشاعرة عينها. هذا هو الوحي المقصود. ليست البيضاء عامل خارجي هنا، بل هي ساكن الشاعر، إنها داخله، وليست خارجه. ليست ملهمته بل جزء من وحيه الشعري. إن الشاعر إنما ينطلق من ذاته التي تعدّ المدينة جزءً منها لما يقع له من صراعات داخلية نتاج تصادمه وأسوارها الإسمنتية.
على مستوى اللغة:
إن الشعر هنا، في الديوان، يلاعب اللغة بشكل باهر وماهر، يلاعبها لتصير مِطواعة له، لا هو يُطاوعها. هو من يختار اللفظة لا هي من تختار نفسها. هو من يختار البحر لا البحر يفرض نفسه عليه.
فطبيعة اللغة الموظفة من قبل الشاعر في قصائد الديوان، تتأرجح في شعرية باذخة، بين الصفر في البلاغة إلى أقصى البلاغة، في تركيبة شعرية رزينة داخل قالب عمودي مضبوط لا تخلله أي شائبة في الوزن أو الاستثناء الزائد. مما يوحي أن النصوص كُتِبت بشكل عفوي وتأملي في آن في تضاد بنائي قليل الحدوث. فالعفوية في الكتابة هي ذلك السهل الممتنع في الشعر.. إنها نوعٌ من المغامرة على مقياس قولة الصوفي "لا يركب من لا يغامر". إنها نوعٌ من كتابة الوحي.
حضور الذات:
للذات حضور وافر في الديوان، فالشاعر يسائل نفسه أو يحدثها أو عنها يتحدث في معظم القصائد داخل الديوان.. الذات هنا ليست نوعا من الأنانية أو النرجسية الفائضة عن اللزوم، بل هي نتاج صدمة بنفس الشاعر وهو يلج أسوار المدينة ويلاقي أسمنتها المسلح.
إن الأمر يتعلق بذاتٍ –ذات الشاعر- تنزع إلى رؤية ما يشغلها، والحكم عليه بناءً على رؤيتها الخاصة. الحكم هنا، هو حكم شاعر آتٍ من مروجٍ فسيحة وجبال الأطلس إلى ناطحات إسمنتية وحدائق جرداء.. إنه نوع من الصدمة المُولّدة للقلق.. القلق هنا وجودي.. قلق متسائل ودافع بالقوة إلى البحث.
تتمثل الذاتية أو خطاب الذات في الديوان عبر ضميرين، ولو بدوا متناقضين في سياقاتهما إلا أنهما يصبان في ذات الاتجاه وهو "حديث الأنا". الحديث عن ضمير المتكلم (أنا) وضمير المخاطب (أنت ونحن).. حينما يستعمل الشاعر ضمير المتكلم يكون في حديث مع الذات بشكل مباشر، إلا أنه يهرب إلى شكل بليغ في هذا الحديث إلى استعمال ضمير المخاطب بنوعيه المفرد والجماعة نيابة عن "أنا"، مما يضفي على الديوان بعدا جماليا وجوديا يحضر فيه الأنا الذات وأنا الآخر صورة الذات.
-لا تحتفل إلا بوحدتك التي//صخبت بعقر رحابها الأطيافُ
(...)
أصبوا إلى زمني الذي أمضيته//عبثا فعاب زماني الأسلافُ (ص7).
-تطيح بك الأيام غير رحيمة//فتمسي ضليلا كالخليع المذمم
متى ما تزر مستنجدا لك صاحبا//رماك بلفظ كالمواسي مكلّمِ (ص16).
-أيها الهائمون في هذه الأرض إلى ما وأنتمو في هيامِ
أخبروني يابارك الله فيكم//أخبروني أعندكم من مرامي (ص29).
جمالية المكان وحضور المدينة:
1- تحوي قصائد الديوان مُعجما لغويا مكانيا فائضا، فنجد حضورا لمعجم المدينة والأطلس بشكل وافر. موظفا إياه الشاعر داخل قالب شعري باذخ. (الأطلس، المدينة، البيضاء، المقهى، الجبل الغاب...إلخ). لسنا هنا بصدد إحداث قراءة أو مقاربة إحصائية جافة، بل المُبتغى هو إظهار جمالية المكان في المجموعة الشعري التي نتناولها في نصنا هذا. والظاهر، كما يقول الناقد المغربي عبد الدين حمروش، أن المكان يعدّ إحداثية، إلى جانب الزمان، في تمثّل الحياة المادية وتمثيلها. ولأن للمكان كل تلك الأهمية، فقد صار نموذجا يحتذي حتى في تصور الأمور الذهنية، أي ما يخرج عن النطاق العياني المباشر. ولذلك، صار للمكان بعده الثقافي-الأخلاقي في تقييم كثير من مواقف الحياة ومتغيراتها الاجتماعية... إضافة إلى الأهمية، التي يكتسبها المكان، كإحداثية أصيلة في تمثل العالم ماديا كان أو غير مادي، فإن حضوره بصورة لافتة في نصوص شعرية، يكسبه معنى آخر حصيلة عملية كيميائية تتفاعل فيها عدة عناصر لغوية وبلاغية وثقافية.
حضور المكان في الديوان مرتبط بصدمة المدينة التي أصابت الشاعر وحنينه إلى الأصل أو ما نسميه الوحشة إلى الأطلس، نقرأ في النص الذي ذيّل به الديوان للصديق الناقد "محمد عدناني": وفي غمرة هذه الوحشة التي حاقَت بمحمد العياشي في الدار البيضاء، التفت إلى الربيع الذي حل ليعيد الشاعر إلى أجواء الأطلس، عـِلماً أن البيضاء تحديدا والمدينة عموما تغْبَن حق الربيع كما تغبن حق باقي الفصول. ففي قسم مهم من الديوان عودة إلى أحضان الطبيعة استحضارا لا مُعاينة، وإلا ما كان ليشُكّ في زهور المدينة التي لا مذاق لها، وقد قادته خبرته بأحوال الطبيعة وتفاعل مكوناتها إلى اكتشاف ذلك. وهو ما عبر عنه في قوله:
إذا لم تكن تلك الأقاحي نديّةً//يعمّ شذاها لا أراها أقاحيا
فما أنا والقحوان إن كان جامدا//ولم يبق إلا شكله المتباهيا.
2- ارتبط الشعر بالمدينة منذ عهد الإنسان بها في انتقاله الأول من البدو إلى الحضر. وفي عالمنا العربي عرف الأدب العربي شعراء من أزمنة متفارقة كتبوا حول علاقتهم بالمدينة، وفي مجمل تلك الكتابات كان الطابع السائد هو طابع الغربة، هذه ميسون بنت بحدل، شاعرة بدوية تزوجها معاوية بن أبي سفيان، ونقلها إلى حاضرة الشام، فثقلت عليها الغربة، وأكثرت من الحنين والوجد إلى حالتها الأولى، وضاقت نفسها أكثر لما تسرى عليها معاوية، فقالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه**أحب إليّ من قصر منيف
(....)
أما في العهد القريب هذا عبد المعطي حجازي (1925-مصر)، يكتب في قصيدته الشهير "أنا والمدينة":
الحارس الغبيّ لا يعي حكايتي/ لقد طردت اليوم/ من غرفتي/ وصرت ضائعا بدون اسم/ هذا أنا،/ وهذه مدينتي !
مما يتضح إجمالا هو أن العلاقة الرابط بين الشاعر والمدينة هي دائما علاقة غربة واغتراب، علاقة هجر وهجرة. وها هو شاعرنا محمد العياشي يكتب في ديوانه "وحي البيضاء".
لقد راعني طفل أثار اغترابه//عن الأم والإخوانِ والدهرُ جائر
يسافر لا يدري إل أين في الدجى// وهل يحمل الأعباءَ طفل مسافر. (ص20)
هذا الاغتراب ولّد عند الشاعر شكلا من الوحدة، هذه الوحدة لا يكسرها سوى رجوعه لذاته، وجلوسه وإياها، كأن المدينة تبتلع فينا الآخر، تبتلع تلك العلاقة الاجتماعية القائمة على الأنا والأنا الأخر. لا يكسّرها إلا الشعر. فالشعر عودة إلى الذات ومسامرتها ومجالستها. وها هو الشاعر يقول في موضعين:
إذا جلستُ بأقصى الركن منفردا//فلا تظنننّي في الركْن منفردا (ص33)
إذا ما تراني اليوم وحدي بمقعدي//أعاقر كأس الشاي دون خليل (ص37)
على العموم تحتلّ المدينة في الشعر المغربي مكانة بارزة واستعمال مفاهيمي واضحا ومتعددَ الوضع. من جدلية بين الأنا والمدينة، إلى الغربة والهجر، والصراع، والنقيض. غير أن ما يميّز الديوان أكثر هو حضور الأطلس الذي يصاحب الشاعر ويصطحبه معه أينما كتب. الأطلس يسكن الشاعر، إنه مُنْكَتبه الدائم، بل رؤيته التي يرى بها الغد فسيحا كحقوله، والأفق أبعد كقمة الجبل. لهذا خصص له الشاعر شقا كاملا في الديوان. غير أن الأطلس هنا حاضر شعرا عبر صور شعرية جمالية بعيدة عن ما تناوله في ديوانه السابق أطلسيات. حاضر عبر الشوق والحنين. فنقرأ في قصيدة "حنين إلى الجبل":
يا أيها الرجل المشتاق ما بك في//هذا العباب من الفولاذ والحجر
أما تزال بك الأشواق واقدة//أم انطفت في بحور القحط والكدر
بحر من الصخر والفولاذ ملتطم//وأنت فيه بلا رأي ولا وزَر
أين الجبال وأين الغاب قد كُسِيت//من الثلوج بأضراب من الأزر (ص67).