على شـاكلة الـبداية:
"فوق دارنا بومة" عـنوانُ مجموعةٍ قصصيةٍ للكاتب القاص ادريس خـالي، تضم بين دفّــتَـيْـهـا اثني عـشر نـصّـاً، من بين عناويـنها اخـتار الكاتبُ مـا به عنوانـاً تُــتَـداولُ في الـسوق الثقـافية وما إليه تنتسبُ.
اختيار عـنوان "فوق دارنا بومة" له الـعـديد من الدِّلالات، أساسُها مـا يوحي به من أمـريْــنِ / بُـعـديْـنِ:
- بُـعـدُ الـمـكان: إشـارة إلى الـجَـغرافـيا التي ستـشـكّـلُ تـربـةً لاستنباتِ نصوص الـمجموعة، ومعلوم أن الـمكانَ يرتبط بساكنيه وزمـانه ومـحرِّكـاته السوسيوثقافية.
- بُـعدُ الشخصية الورقية: وهي هـنا نكرة لا مـعـرفة، ولـهـا كـما للتنكير بُـعـد الـشـؤم في وجوه متقـلِّبةٍ و متعـدّدة.
"بـومـة" تـعنـي الشؤم في المِـخـيـال الثقافي الشعبي، وهذا مـا عـبّر عنه الـكـاتبُ القاصُّ نفسُـهُ على لسان أمِّـه: "كل ليل عندمـا تصدر البومة صـوتـها تـقول أمي إن شـؤمـاً سـيـقـع"(1).
"فــوق دارنــا بــومة"، و أيُّ دارٍ ؟، دار الـخـلاء؛ الذي تـحـاولُ الـصورةُ الـتعـبيرَ عـنه، فالـضـبابُ يـغـطّـي الـسـماءَ في فـضـاءٍ لا محـدود، من سـمـاته الـلاتوازن و الـلا استقـرار.
تـقنيات التجريب في مجموعة "فوق دارنا بومة".
أولا: اعتماد الترجمة الذاتية: في إشـارة إلى أن "المحلّي" هـو الـمعتمَـدُ في الحكي؛ من ذلك مـثلاً لا حـصراً: "التطواس هو إزالة أشجار و نباتات الغابة لجعلهـا صالحة للزراعة والتشجير المثمر" (2).
ثانيا: الـجرأة اللغوية و الحكاية: لـماذا كـلمة اللـغـويـة ..؟؛ لأن كـثـيـراً من المصطلحات وإنْ وردتْ في معاجمنا اللغويـــة، واعـتُـمِدتْ في أدبنا العربي القديم، سرعـانَ ما هُـمّشتْ اعـتـبـاراً لمنطق "حْـشُـومة"، أو بـنـاءً على "أن للغة أخـلاق" .. كـاتــبُـنا مـا انسـاق مـع هـكـذا مـيـول، ولا اقـتـنـع بهكـذا تـوجه، لذلك تجرأ لـغـوياً، في تساوق تـام مع الـجـرأة الـحكـائية، أو ما ينعت في سياقٍ آخر عند فيليب لوجون بــــ:"مـيـثـولوجيا المعيش" (3)؛ التي تقدم صورة عن الواقـع انـطلاقـاً من مختلف الـشـهادات الواقعية المقدمة عنه، أي انطلاقـا من الشهـادات المنتقـاة تـبعـا لاستيهـامـات التمثـل لدى الـجمهور وتـبـعاً لـحـاجيـاته (4)، فقـول الكاتب: "سلطانة تأكل التين وتفتح ساقـيْـها لـمن تـرضاه" (5) .. "سلطانة تطـوّست وجـاءتني والقمر يتبعـها، لم أستطـع حـرثـها، كان عقلي في حايط آخـر. كنت دخنتُ كثيراً من الكيف ذلك اليوم .. لذلك نام الكلب بن الكلب ..." (6) .. ثم قولــــه: "تتعجب سلطانة من أخي ومن أبي و منِّي .. هي لا تعرف أن أبي طـوّسَ الحايط كله لأجل إثبات ذاته. جدي كان مـيّــالاً إلى اللّْشينْ والنساء والنفحة واليهود. لذلك لم يكترث كثيراً عندما علم بالصدفة أن حلوفة كادت تقتل ابنه في الحايط دفاعا عن صغارهـا .." (7). كل هذه الأمثلة تكشف عـن الارتباط اللصيق بالمعيش اليومي في كلِّ تجلياتــه، حتى المُـمـتنــع والمحصّن ثقافيـاً.
ثالثا: استثمـار الـمرجع الثقافي / الرصيد المعرفي: الصفحة 15 ورد "مـا أصدقك أيـهـا الأب ! لا أريد أن أقتلك كـما فعـل شكري"، في هـذا تناص غير مباشر في شكل معكوس مــع عـلاقـة شكري مـــع أبيه، كـما أُشيرَ إليهـا في الخبز الحافي.
في نفس المنحى يستـثـمرُ الـقـاصُّ شخصياتٍ مـعروفــةً، بـحَـمولتـها الثقافية وأبعـادهـا الاجتماعية (المرحوم السلاوي / المجاطي / زفـزاف / محمود درويش / أحمد السنوسي).
يسـتـغلُّ في بنـاءِ الـحـكايـةِ أيضـاً، فـي نـوعٍ من التنـاسق الـموضوعي مـقـاطـع أغـنيات: لجـاك بريل في قصة برج الصحراء (8)، ثم مقـطـع "أراسـي وُ مــــادازْ عليك وُبــاقي" للمرحوم السلاوي (9).
رابعاً: الاحتفاء الباذخ بالمرأة: احـتفاء لا يعني تقديسهـا أو تنزيـهـها؛ إنمـا في كونهـا تـعـمّـرُ أجسـادَ قـصَصِه، فــمـعظمُ النصوصِ إن لم أزعـم جميعَـها تــوظف الـمرأة.
فــي "بـرج الصحـراء" اسم (فتاة الـبُـوسْطِـيـرْ) الصورة الفوتوغرافية المعلقة على جدار الكونطوار + (طامو و كريطة) في قصة "دوارنا" + (فتيحة) في "ما يشبه القصة" +(الزوجة ثم فوزية) في "حذاء اللوحة" + (سلطانة) في "فوق دارنا بومة"+ (أمينة) في "ليلة قتل الراديو" + ...
خامساً: اعتماد أسلوب السخرية: منتقداً بهـا واقـعاً نحياه، واقعـاً يصوّره العنوان "فوق دارنا بومة"،واقـعـاً مشؤومـاً:
ففي قصة "ليلة قتل الراديو" ورد: "كعادتك على الساعة الثامنة مساء أدرت مفتاح الراديـو وكالمعتاد لم تكن الأخبار سوى تدشينات واستقبالات رسمية في البلد. ضغطت على نفسك وانتظرت الملف الدولي. لم يكن بدوره غير أخبار تجويـع وقتل وشرعية دولية مشبوهة .. الخطابات الوطنية والدولية الآتية من الرباط مملة ومكرورة. و بـعـد 1956 لا شيء يتبدل في البلد عدا ألوان الملابس وخرائط الوجوه. مد مخزني ولا جزر .. جزر مدني ولا مد" (10).
ثم قـول الكاتب في قصة أخرى: "انتظرت أن يأتي رجال المطافئ وينتهي المشهد المؤلم لكن لا أحد قدم (كما العادة)، وبقيت ألسنة اللهيب الأحمر تنهش أعضائي ..." (11).
على صورة الـخـتم:
يستطيـع الـكاتبُ - وادريس خالي من خلال مجموعته "فوق دارنا بومة نموذجـاً - أن يُسمِــع صوتَـه للعالم كلّما حفر في أعـماق الخاص والمختـلِـف، من خلال تفكيك تضاريس بِـيئة منسية؛ فيكــون دليلاً للمقيم والغـائب، مجيباً عن تلك الأسئلة الهاربة؛ التي تبدو دون شأنٍ و بلا قيمةٍ عـند غير المبدع.
إنـه مـثال للعبور نحو الـعالمية من خلال الارتباط الحميم والصادق بالمحلية والخصوصية والهوية، بكل إيجابياتها وسلبياتهـا، و بكل و شومهـا وندوبـها (21).
............. الـهـامش .............
(1): "فوق دارنا بومة"، الطبعة الأولى: 2011م، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ص: 11.
(2): نفسه، ص: 15.
(3) : Ph. Lejeune : « peut- on innover en autobiographie ? » op. cit. p 99
(4): البوح والكتابة، دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي، الطبعة الثانية 2001، مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، ص: 169.
(5): نفسه، ص: 14.
(6): نفسه، ص: 15.
(7): نفسه، ص: 14.
(8) : Ami remplois mon verre
Encore un et je va
Encore un et je vais …
(9): قصة "زد أربعة الله يـخْـليك"، من المجموعة، صص: 82 و 85.
(10): الفِـقرة الأولى من قصة: "ليلة قتل الراديو"، مجموعة "فوق دارنا بومة"، ص: 77.
(11): قصة: "زد أربعة الله يـخْـليك"، مجموعة "فوق دارنا بومة"، ص: 81.
(12): وردت القولة ضمن مقال "محمد شكري / من الهامش إلى القمة" لنجيب العوفي، مجلة "طنجة الأدبية"، أبريل 2011م، العدد: 34، ص: 34.