قصة خريف يحكيها رجل قتلته الوحدة وشاخ قبل الأوان
انسكبت مني الحياة منذ أعوام وتركتني ظلا أسعى
الـــــغُـــــربــــــة:
قدم عبد الله العروي في مؤلفه "الغربة"، نموذجا روائيا مستجدا ومميزا في الواقع الروائي المغربي، حيث رسم من خلاله رؤية فريدة للرواية كما تصورها النقاد المعاصرون في العالم الغربي. وقد عُد مؤلفه من بين كتب قلائل بادرت إلى تبني النموذج الجديد هذا في العالم العربي. وكان ذلك السبق في خريف سنة 1956، أي بالتزامن مع الاستقلال السياسي للمغرب. وقد ساهم هذا المعطى التاريخي بشكل كبير في تحديد الوجهة الرئيسة ورسم المسار العام الذي ستسير وفقه أجواء الرواية وأحداثها رفقة شخصيات اختارها عبد الله العروي لتكون عناصر فاعلة ومحركات لتلك الأحداث التي تبدو للقارئ في بادئ الأمر غير ذات حمولة وافية، ومع القراءة الواعية والمتعمقة يندمج متتبعي أحداث الرواية تدريجيا في جوها العام، كونها - أي الرواية- تحمل في طياتها أبعادا مختلفة تعالج مواضيع آنية متعلقة بالزمان والمكان ( خمسينيات القرن الماضي // استقلال المغرب)، مما جعل الكتاب يصدح بمواضيع شتى، ويتصدى لقضايا ذات أبعاد واسعة مرتبطة بجوانب ثقافية، سياسية، مجتمعاتية و اقتصادية لمغرب الخمسينات كما كان يتصوره عبد الله العروي وفق نظرة ثاقبة لكاتب ليس بالعادي؛ حيث إننا في حديثنا عن د.العروي فنحن نذكر المفكر، والناقد المؤرخ والفيلسوف: هذه الجوانب الثلاثة ساهمت في انبثاق رؤية وحدوية فريدة لكاتب مميز عن واقع متبدل وخاضع لصيرورة مكثفة وفق أحداث كبرى شهدتها البلاد في العصر موضوع الرواية وشهدها الفيلسوف الروائي بمنظوره الثاقب وبطريقته الخاصة، لتكون روايتنا هاته نتاج مخاض عسير لا يتصدى له سوى كاتب كبير كعبد الله العروي الذي نجح في رصد الأحداث بكل دقة، وعمد إلى طبع روايته هاته بطابعه الفكري الخاص عن طريق تعليقات تمس في الجوهر آراء، وأفكار، وتصرفات شخصيات القصة.
إن واجب عدم إغفال العلاقة الوثيقة القائمة بين أحداث الرواية والواقع الآني المساير لتاريخ كتابتها يحتم علينا استكناه أوجه هذا الربط وشروط تلك العلاقة. فأحداث ''الغربة'' نِتاج مخيلة عبد الله العروي، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال مطابقة الواقع بشكل كامل، أو لنقل بطريقة ''نَقلية''، حيث إن هذا الأمر يعد ضربا من أضرب التوثيق، ووجها من أوجه الكتابة التاريخية التي لطالما اقتحمها عبد الله العروي باعتباره باحثا تاريخيا. غير أن جنس المؤلف الذي راق للعروي فتح بابه لا يساعفه في قصد ذلك المسلك ولا اتباعه. وعليه، كان لزاما على كاتبنا إيجاد صيغة توالفية توافق مابين الواقع والمتخيل، وتمزج مابين الكائن والممكن، وهو الأمر الذي حققه بالسير على هُدى القولة التي صَدَّرَ بها مؤلفه: ''التاريخ رواية واقع، والرواية تاريخ متوقع'' (ل: أندريه جيد). حيث وظف العروي الثنائية التقابلية السابقة (الواقع// الخيال - الكائن//الممكن) في إطار بحث سبل دحر الفاسد من الكائن، والدفع بالصالح من الممكن إلى عالم الحقيقة بعدما كان مُستقره في عالم التخيل والرغبة والإرادة. و بتحقق هاته الأخيرة يكون الكاتب قد حقق الجزء الأكبر من رغبته الأساسية ومقصد العام الذي زج به إلى ولوج عالم الكتابة من الأساس.
وكما ذكرنا آنفا، يكون من الصعب على القارئ المتحين الذي يُجري قراءة سريعة فهم الأطوار الرئيسية للقصة، وبلوغ الدلالات العامة وتلك الخاصة للأحداث، وكذا استكناه المقاصد الأساسية للمؤلف في علاقتها، دوما، بشخصيات الرواية وبالإطار الذي تسير وفقه هاته الشخصيات.
فالمستعجل من القراء قد يرى في الرواية مجرد سرد لقصة شخص راكم المعاناة والهموم وملَ الحياة والانتظار من خلال أفكار "تيئيسية" تمضي في إطار تقليداوي ينشد الحداثة. ونحن في قرائتنا هاته سنحاول، بإذن الله، استكناه المقاصد التي يرمي إليها الكاتب على هَدْيِ الإطار القَصَصِي للرواية وتبعا لأحداثها.. مع التركيز على البطل الأول للرواية (إدريس) الذي يُسَيرها وفق نظرته الخاصة.
--- إدريــــــس: الباحث عن كمال الإحساس
نجد لإدريس أوصاف عدة في الرواية، حيث حاول عبد الله العروي تنوير القراء بأكبر عدد ممكن من التحديدات المختلفة لبطل روايته، خصوصا النفسية منها.. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى البُعد النفسي الذي يؤثث لجزء كبير من مساحة الرواية ويهيمن على باقي فضاء المؤلف، وهو البُعد الذي يتجسد بشكل جلي في ثنايا شخصيات الرواية، خصوصا منها: ادريس، مارية وشُعيب.
يبدو إدريس منذ البداية شخصا مقعد الفهم، ذا شخصية مركبة، متعدد الأبعاد النفسية وغامض البعد الروحاني. يتخبط بين الماضي والحاضر، ولا يُقيم رؤية واضحة للمستقبل. واختلال البعد الزمني لدى صاحبنا يظهر جليا من خلال علاقة هاته الشخصية بالأزمنة الثلاثة. فهو لا يقيم وزنا للثبات الروحي في الحاضر كما في الماضي، خلافا لنصيحة الأستاذ يوليوس لتلميذه الوفي عمر: ''لم أتغير بل تغير العالم.. لم أخن الدنيا بل الزمن خان الزمن.." ص.46، بل إن إدريس مُتْخَمٌ كُليةً بالتجديد والأفكار المستجدة المواكبة للتطورات المجتمعاتية للحضارة الإنسانية، حيث نجد لهذا العنصر ما يدل عليه في الرواية. يقول إدريس (مُبَيِنًا وجهة نظره عن المرأة في المجتمع): "(...) انظر يا أخي كيف تتغير المشاريع وكيف احتلت المرأة الصدارة بعد أن بدأت في القصة كرمز مناقض لحقيقة ثابتة ثم انقلب هذا الرمز إلى مخلوق ينبض حيوية.. ليست المرأة في هذا البلد مشكلة، إنها تندمج في مشاكل أعمق وأوسع وإذا ما ارتفعت فتاة عن الواقع وسابقت الزمن فإنها لا محالة تبعث الزوبعة (...)" ص.90. إن تمثيل ادريس بالمرأة في مسألة التجديد يطرح موضوعا ذا أبعادا وافية المعطيات. فرفض المجتمع لمسابقة الفتاة زمنها ومجاراته هو في الحقيقة رفضٌ لمعطى مستجد سيهدم الأفكار التقليدية هدما، وسيعوضها بأفكار آنية. ومهما اختلفت طبيعة هذا الوافد الجديد وتعددت الرُؤى بشأنه، فإنه لا محالة سيكون ذا تأثير عظيم على الأفكار التقليدية التي قاومت لسنين ورسخت في الأذهان واطمأنت لها الأنفس وتماشت معها الروح. فتتجه الأفكار الوافدة لخلخلة الثابت وزعزعته، وربما أزاحته بشكل كلي.. و ما ذلك الثابت سوى رمز أثير، ذي بعد حاضر مرتبط بالماضي وحاملٍ لرهان المستقبل. وكما لو أن ادريس يريد أن يوضح لنا صعوبة وقع التغيير في أنفس عناصر المجتمع، لاسيما منهم أولائك المتشبثون بالتقاليد، المحافظون على العادات والذين يدفعون التهديد عن تلك التقاليد وهذه العادات متى أحسوا بالخطر يزحف نحوها. وهم في ذلك يحافظون على النفس التي أَلِفَتْ أمورا بعينها، فإن أنت أردت تغيير تلك الأمور بارت الأنفس وضاعت.
إن العلاقة القائمة بين الأزمنة الثلاثة كما تصورها ادريس، وكما أوضحناها سلفا، مرتبطة بثنائية القديم والجديد بشكل واضح. وفي إطار بيانه لذات الثنائية، يقول صاحبنا في رصده للسنة التي تقضي بتقابل العنصرين: "لكل مدينة حيها القديم وحيها الجديد وكأن الدنيا في انفصام دائم" ص.90. لقد وضح ادريس فكرته بعبارة تبدو بديهية لتعرضها لسنة من سنن الطبيعة التي تقوم دوما على الاختلاف. غير أن الإشكال هنا نابع في بحثنا عن طبيعة العلاقة الموجودة، أو التي يجب أن تتحقق، بين العنصرين المتقابلين. وحسب وجهة نظر بطلنا فالانفصام هو سيد الموقف ولا تآلف بين المتناقِضَيْن، مع ترجيح كفة الأصالة، حيث إن ''كل واحد منا راجع إلى مسقط الوجدان (و) كل منا يبحث عن منهله'' ص.36، وفي بحثه ذاك، ''(...) يصل (المرء) دائما إلى شاطئ أحلامه إن لم يكن اليوم فغدا وإن لم يكن هو فأخوه أو أبوه'' ص.87. وهذا يشير إلى تشبث ادريس بمنطق الحتمية، خصوصا بعد الوضعية اليائسة التي وصلها المجتمع، وبلغها معه بطلنا.
غير أن صرح الهوية والقيم الذي شيده ادريس في وعيه وفكره، أو بالأحرى حُمل على تَبَنِيه أيام شبابه الأولى حملاً، لم يكد يصمد طويلا بمجرد مجيء رياح الشمال التي حملت معها غبار الشك لتهدم الصرح رويدا رويدا، فيكون الهدم متدرجا ويصير البناء عسيرا.
ثم يهيم رجل بلا هوية ولا مقصدٍ باحثا عن صراط قويم ينجو به قاربه من أمواج اليأس ويصل به إلى بر الأمان. ولنا في حواره مع أبيه خير آية، حيث خاطب الشيخ ابنه قائلا: ''كان يقال في شبابي من أتمَ القرآن والآجرومية وسيدي خليل فتح الله عليه وأما من تعاطى الدمياطي صاحبه الزلط طوال حياته''.. لكن الابن أعلن بوادر ثورة هادئة لم يُكتب لها التحقق، ورد معارضا: ''يا أبتِ إن طرق الماضي مغلقة أمامنا فاتركنا نبحث عن طرق جديدة.. نريدها لازمة وعلنية''.
كان طلبُ ادريس لطرق جديدة نابعا من إحساسه، بل ويقينه، من أنه لاشيء تغير في بلدته، ولا في مدينته، ولا في البلاد بأكملها.. ''(...) نعم .. لم تتغير البلدة لكن السكان تغيروا وهم يظنون أنفسهم أنهم عند ماضيهم واقفون..'' ص.98، وقد بنى ادريس هذه الفكرة بعد أن عاد إلى بلدته بعد غياب، فلم يلاحظ تغييرا يذكر، رغم أن جميع الخطب كانت تُصَرِح بأن البلاد تمر بفترة تاريخية حاسمة وتعيش طفرة.
وفي سعينا لبيان الإشكالية من خلال وجهة أخرى، نتناول رأي شُعيب (صديق ادريس) في ثنائية القديم والجديد؛ حيث يشكل القديم بالنسبة لشعيب ملاذا آمنا يقيه الحيرة والشك، فمن الكتب الصفراء، مثلا، انتهل أول مرة، وإليها يعود عندما تعجزه الحيلة.. بينما يقصد الكتب الملونة (رمز الجديد) عله يجد فيها راحة الضمير. وهنا يُناط بكل من العنصرين (القديم والجديد) وظائف مستقلة ومتباعدة تخدم البُعد النفسي والروحي في الإنسان. فإن هو مل صفار الكتب، قصد بهاء الألوان عَلَ عينه ترتاح لرؤيتها، وهكذا الإنسان يتراوح بين النهل من هذا وذاك حتى تستقيم النفس وتُشبع الروح.
إعياءٌ غامض: تبدو شخصية ادريس في رواية الغربة هائمة في بحر لا تُعرف له سواحل، رغم كونه في ريعان شبابه ولم يمض في الحياة كما يجب ليعلن انكساره وبداية الاحتضار الذي سوف يبلغه في رواية ''اليتيم'' التي تعد امتدادا للمؤلف موضوع الدرس. كيف لا وهو يعلن في أيما موقف من مواقف الرواية هشاشته النفسية، وتخلخله الروحي، مصورا بذلك وضعية شيخ هام في الدنيا حتى بلغ الثمالة. يقول ادريس نفسه مصرحا بكل ما سبق: ''أنا ابن الثامنة والعشرين وكأن دور حياتي قد انتهى.. نعم رافقت هتلر ورومل ومازلت أعايش هيروهيتو وتيتو، لكني شاب. في الماضي كنت أعجب لكلام من قال إنه نشأ شيخا وشاخ طفلا. إن هذا الإعياء الذي لا يُضبط له سبب ولا يُدرك له موضوع، الذي ليس له شكل ولا مضمون، لعله لا يرتكز في حياتي بل في المدينة أو في هذه الغرفة، أو في هذه الساعة قريب العصر'' ص. 113. ثم محاولا تفسير هذا الإعياء الغامض: ''كيف يشعر ابن ثمان وعشرين سنة بهذا العياء؟ لقد قرأ أن مثل هذا التعب والسأم من علامات الإحجام الذي يعتري الشاب وهو في مقتبل الحياة وكان على استعداد لقبول الفكرة لو لم يسمعها أحيانا من صبيان أو شيوخ طال عهدهم بطعم الشباب..'' ص.177.
لم يتوصل ادريس بعد رحلته الطويلة عبر قارب أحداث الرواية لسبب إعياءٍ متواصل اشتعل في نفسه شرارةً شرارةً على امتداد الأحداث التي عصفت بالمجتمع. هل الحالة تلك نابعة من كُنه دواخله؟ أم هي نتاج لحالة من اليأس العام المتفشي في المجتمع؟ أم هي لعنة المكان تؤثر في العناصر التي يحويها؟ أم هو عنصر الزمان؟
لا يُدرك بطلنا جوابا لهاته التساؤلات التي استحالت إشكالات عويصة عصفت به وبحياته وزادت من حدة السأم والتعب الذي اعتراه رغم محاولاته إناطة عناصر عامة أو خاصة بحالته تلك كالإحباط الذي قيل له إنه أمر عادي عند كل شاب يستقبل الحياة ويُشفق من متاعبها ومحنها، غير أن الثابت في مخيلته وفي فكره هو أن المركب اتخذ مسارا غير المسار، وحاد عن الصراط. وليس بطلنا سوى مكون مادي لهذه الحياة لا حيلة لديه اتجاه تغيير مسار مركب بأكمله لاسيما وأن ''الشعب متأخر جدا'' و ''لا يمكن العناد'' اتجاه تشخيص الوضعية السلبية تلك..ف''لا يمكن أن نتحكم في الزمن بل نحن عبيد الزمن (...)'' ص.109. واتجاه هذا الوضع يُذكر ادريس نفسه بالحل الذي آمن به بعد التغير السياسي والثقافي والاجتماعي وكيفية تدبير المرحلة (مرحلة ما بعد الاستقلال) حيث ذكر: ''أنا في الماضي كنت أطالب بالتعمق في البحث والتأني في العلاج واعتبار هذه الفترة مرحلة انتقال. الآن المشكلة مشكلة حضارة لا مشكلة سيادة أو قيادة.. لكن الحضارة لا تؤخذ كما يؤخذ هذا الكأس.. لابد من وقت ووقت طويل.. لماذا إذن التشاؤم ولماذا هذا العناد؟؟..'' ص.109.
الآن، ''كل الحلول تؤدي إلى نفس النتيجة وهذه هي المأساة'' ص.112، ولا مهرب سوى تقبل النتيجة التي آل إليها الوضع وانتظار الذي يأتي و لا يأتي، كانتظار ادريس لمارية التي سئمت الوضع الراهن، بل وحاقتها العلل من جراءه، فقررت الرحيل بعد مخاض نفسي عسير وطويل. و نحن نرى ادريس يطلب مارية في مناجاته المستغرقة في الزمن: ''هكذا تنقضي الليالي في انتظار شخص لا يجيب وهكذا تمر الأيام في تغير دائم غير واع (...)" ص 98.
قبل الصدمة الكبرى، وبعد خيبة أمل ادريس من الواقع الذي حاق بالبلاد بعد تحررها السياسي وقبيل استسلامه للفتور والوهن، مضى ادريس في محاولات يائسة لإيجاد حلول فردية تخرجه من حالة السأم والتعب الذي مسه في الجوهر. لكن الأحداث التالية ستبين مدى ضعف تلك الحلول التي بقيت منقوشة في جدار المخلية ولم تعرف طريقها إلى الواقع. فبعد التأسف على الواقع المر (''إننا لا نأسف على الماضي بل على عدم مسايرة الحاضر'' ص.97،) الذي أفرزه المخاض السياسي والثقافي، يعطي ادريس تشخيصا لحالة البلاد؛ فـ''عندما رجعت المياه إلى مجاريها وكثرت الإشاعات وأسفر الحاضر عن أبعد الآمال وذهبت الوفود تهنئ بسلامة العودة، أحسست إحساسا قويا أن السير سيتعثر وقلت للعم آنذاك أننا كهذا الطائر قفز من المراح إلى الغصن وهَم أن يطير إلى السطح لكن خيطا رقيقا يمنعه من الوصول إلى بغيته. كذلك نحن مقيدون بخيط حريري لا يُرى، نحن أحرار طلقاء بين حدود لا يجوز لنا أن نتعداها'' ص.112. يبقى السؤال المؤرق والمُبهَم: ما الخيط الحريري الذي يكبل حرية الطائر ويحول دون تحليقه عاليا؟.
يظل ادريس، إذن، في حيرته وسأمه يسنده في ذلك إيمانه الذي يحميه من الحكم القاسي، ومن عقاب الوحدة والانعزال، ولسان حاله يردد: انسكبت مني الحياة منذ سنوات وتركتني ظلا أسعى.
---------------- مــــــــــاريــــــــــة تنشد المرأة السوية.
مارية هي خطيبة ادريس، وأنيسة روحه، لهما نفس الخصائص النفسية كما يمتلكان القدرة نفسها على التشخيص والوصف والتقصي، وذلك أهلهما لتكوين رؤية وحدوية اتجاه الوضع الحالي. غير أن الخطيبان بعد أن امتطيا صهوة واحدة في سبيل رحلتهما التي تنشد النجاة من فتورِ ويأسِ مجتمعٍ لم يعِ بعدُ وضعيته الحقيقية التي تُشوشها ''خُطبٌ'' رسمت للأفراد رؤية يراها الخطيبان مجانبة للواقع، هاهما الآن على وشك إنهاء الرحلة التي لم تنطلق بعد. حيث كان لكل منهما رؤية مختلفة في مرحلة بيان المنافذ الممكنة، فادريس تبنى وضعيته القارة والمتشبثة بالزمان والمكان والتي بيناها سلفا، في حين قررت مارية مغادرة البلاد بأكملها، إيمانا منها بأن لعنة ما تطارد المكان وأهله.. ولتيقنها كذلك من أن الخيط الذي يحول دون أن يحلق الطائر المتطلع للأفق البعيد لن يُكتب له التمزق إلا بعد عمر طويل على الأقل.
لقد حملت رياح الشمال، التي داعبت ملامح ادريس سابقا، لمارية آمالا جديدة وآفاقا عريضة مكنتها من أن تستشف مساحة ممكنة تخولها تقويم الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بوار النفس واحتضار الروح. ولم تكن هاته الرياح سوى همسات لارة لمارية من بلاد الشمال. مما دفع بادريس، الرافض لموقف الرحيل قطعيا، إلى انتقاد موقف مارية الجديد هذا، وما ترتب عنه من محاولة هروب إلى الأمام وتغيير البلد، والأهل، والمجتمع، محاولا في خضم ذلك كله إلقاء اللوم على لارة، حيث قال مخاطبا مارية: '' (...) هي (لارة) التي أقحمت الضيق في فؤادك، لقنتك أن التجديد يجب أن يكون شاملا يعم كل شيء، هؤلاء الأجانب يعرفون كيف يبثون فنون الريبة في النفوس. يسفهون العقول ويتحيلون حتى يهدوا البنيان المشيد الثابت'' ص.27 . غير أن مارية التي بلغها الضيق مبلغا، استغرقت في الانغماس الفرداني في الفضاء، ولما كانت إرادة التغيير هاته قوية في نفس مارية، لم تستطع قوة الحيولة دون ما قررت وعزمت على فعله. وكذلك كانت الرحلة.
كانت مارية في رحلتها المجهولة تلك تنشد لارة، النموذج اللأمثل للمرأة السوية، كانت سيدة في الأربعينيات من العمر، ورغم ذلك لازالت تحافظ على نظارة الشباب، وحيويته.
فور أن بلغت مارية بيت لارة في بلاد الغربة، فطنت المرأة السوية حال مارية، و خاطبتها مشخصة ومستفهمة: ''جئتني مريضة يا مارية، مريضة جدا، ولست أدري هل دواؤك حقا على هذه الأرصفة المبتلة'' ص.26. فبادرت خطيبة ادريس في مسائلة صديقتها القديمة بدورها: ''كيف احتفظت بتوازنك يا لارة وسط هذه الكآبة؟'' فكان الجواب مُبهما في كُليته، حيث أقرت لارة بأن الأسفار المتعددة وتعب الترحال هي من بين عوامل عديدة مكنتها من الحفاظ على توازن نفسي وإقامة بُعد روحي سوي.
هنا استحضرت مارية رحلة لارة التي مكنتها من تجاوز وضعيتها مبكرا.. وما تلك الرحلة سوى وليدة لأفكار تليدة راسخة في ذهن لارة منذ زمن، وهي التي جهزت لها العدة للسفر، وعبدت لها الطريق، كما بينت لها المقصد وفرشت لها المأوى. استحضرت مارية قولة لارة الأثيرة: ''إذا تخلى عنك القدر فاقصده بقدم ثابتة'' ص.15. وتأسيسا على ذلك قررت لارة وهي شابة غضة تائهة في أحضان السعادة الفنية أن تهجر الحبيب وتندفع إلى الضجة والنار. وحيث أن الطيور تموت دائما في أوكارها، مهدت لارة لصراط تراه قويما، ونشدت الحرية بعد ن أخذت العبرة من الطير الحر واستعارت منه جناحيه، وارتقت آخر قطار قصد الشرق ووصل بعد أن كان العالم على وشك الانفجار. تقول لارة: ''إنْ تاه العالم وتفرق فلأجمع أنا شتات حياتي، وخرجتُ إلى مسقط عواطفي تاركة ورائي آيات البطولة والخراب وكأنني قد شخت بغتة. إن الثورة ضد الأمل أمر عسير وكيف أختلق أملاً جديدا وقد فات من حياتي ما فات. كنت في عداد اللاجئين وما فررت من أحد ولا فزعت إلى احد. إنما علمت أن حياتي قد مرت على الهامش، أوقات القبض وأوقات البسط. ووعدت نفسي أن أغير وطني وأملي ومهنتي..'' ص.16.
لقد مثلت لارة بالنسبة لمارية النموذج الأول، والمثال الحر للمرأة الناضجة، لكونها كانت تضطلع بأدوار التوجيه والنصح. فالسيدة الأربعينية بابتساماتها اللاحزينة واللاجذلة، خرقت العادة، عادة مجتمع راسخ البنيان، واستطاعت دون طول تفكير، تغيير البلد مبكرا، بل واستطاعت تبديل الأمل القديم بأمل آخر جديد قادها نحو النجاة المبتغى.. فهل ستنجح مارية في احتذاء طريق لارة -المرأة السوية- قصد الوصول إلى بر الأمان وإرساء معالم نفسية وشخصية جديدة؟؟
الـــــيَــــتـــــيـــــم:
كتب عبد الله العروي رواية ''اليتيم'' سنة 1978، وهي امتداد طبيعي لغربة ادريس، واستمرار سردي لأحداث الرواية، وفق تطورات الشخصيات الفاعلة.
انتقل ادريس من ''المهدية'' - مسقط رأسه- إلى مدينة ''البيضاء''. وبعد خوض عسير في نظريات معرفية عديدة، ومقارنات نظرية شتى، ومزج بين هذا وذاك، هاهو ذا ادريس يقول - وبشبه تصريح- بأنه يتعسر على الأمة المضي نحو الأمام، لأسباب قدرية. يقول في مُبتدئ الرواية: ''أعتقد اعتقادا راسخا أننا نحن أبناء الصحاري لا نتطلع إلى ما هو فوق الإمكان. إن الله أراد لنا اليُسر'' ص.131. ولأن شعاع الأفق قد انحسر، فـإنه ''لم يعد بالإمكان تغيير أي شيء في حياتنا. ظاهرا أو باطنا، ننظر الموت ونحن أموات. (...) نرتبط بالحياة متباطئين وننسلخ عنها مسرعين.'' ص131. ونتيجة لكل هذا ينظر ادريس يوما يُعلن فيه عن لاجدوى الكتب.
لقد قادت هاته الوضعية العنيفة ادريسَ إلى أعماق المحيطات الباردة بعد أن حاذت به عن الشواطئ الدافئة، كونه يفتقد حرارة العاطفة، ويحاول سبر أغوار نفس محرفة والبحث عن مكمن روح مُغَيَبَة، وسط ساحة غبراء حيث الجو كئيب، والمدينة كئيبة، وصاحبنا أيضا كئيب. ولما كان المكان من الأسباب العاملة في الحالة هاته، فقد تبرأ ادريس من مدينة بلا قلب، بل وتنكر للحاضرة التي تأويه وتطعمه وتسقيه، حتى ''إذا جاء الزلزال حق العذاب على قوم لا يؤمنون'' ص 133-134.
ازداد شعور ادريس بمنطق الحتمية، وتعمقَ إيمانه بسلطان القدر، فمضى هائما بلا هوية ولا مقصد حتى، معتبرا كل من يزعم التخطيط لحياته كذاب يستحق أن يصلب. فكفى المرء أن يعيش حرا أبيا، لا تدخل كنتيه كنانيش الإدراة ولا يعرف له اسم قار. هذه هي الحرية كما عاشها ادريس في البيضاء، وكما مارسها في دروب حياته، حيث استحال نكرة مثل الآلاف غير المؤلفة الذين لا يعرفون بالاسم والسكنى والمهنة.. رقم بين الأرقام، غير محاولٍ البحثَ عن منطق لحياته الذي يرجح وجوده ويؤكد استحالة ضبطه. ورغم تعمق إيمان ادريس بعنصري الحتمية والقدرية، يعود ليُظهر لكنة تحدٍ للقدر ''الجائر''، حيث عزم على أن يكتب كلمة النهاية في صفحة بيضاء، يجعلها هي الأخيرة، رغما عن ترتيبات القدر. وبالتالي أعلن البطل بوادر خصومة فجة مع القدر، سينتظر فيما بعد أن يدفعها، أو أن تشرق الأنوار المرجوة، وهو ما سيعلنه في حواره مع مارية التي عادت لتوها من بلاد ''الغربة'' بعد خمسة عشر عاما من الفراق الذي أرادت له نهاية، فقصدت ادريس تبغي الوصال، لكن زجاج الأمل الذي تراءى لها في المنام لم يكن بالحقيقة وإنما الأيام ستبين أنه كان مجرد بهتان. فسرعان ما وقفت على الوضع القائم ولحظَتْ وضعية ادريس الذي ظل في هيامه وسأمه، بعد أن انتظر أشخاصا وأقوالا وحوادث، ثم طال الانتظار حتى نسي الخطيب القديم معنى الأمل، وسأم انتظار بشرى حارس الليل بانفلاق الفجر، وإطلالة خيوط النور. بينما أطلت مارية بطلعة بهية عكست أسمى معالم الأنوثة الناضجة.
و بعد أن طالع ادريس حال مارية، أضحى يجيد تمييز المساحات الشاسعة التي تفصل الوصف عن التحليل، ومظاهر البُعد المتجلية بين النضج والمراهقة. لقد علمته تجربة مارية قواعد عامة ما كان ليتوصل إليها لو أنها ظلت إلى جانبه طيلة خمسة عشر عاما مضت. ولعل أهم تلك القواعد عدم وجوب اقتران النضج بالذات، ولا بالخلايا أو المورثات. وهنا يستحضر ادريس مارية التي اغتربت سنوات طِوال، راحت يانعة العقل، وعادت ناضجته. يفكر ادريس في أن سبب ذلك التحول - أي النضج- هو سبب خارجي متعلق بالظروف التي أحاطت بمارية خلا سنين غربتها. إذن فنضجها ليس مؤداه عاملا ذاتيا.
أعاد ادريس شريط الذكريات، واستحضر ماضيه، ثم سار في درب الأحداث والمنعطفات، حتى بلغ الواقع الراهن، أحس بمرارة الإخفاق وخالجه شبه ندم. لو كان قد سافر مع مارية لكان الآن في أحسن حال. لقد لعبت فتاته الورقة الرابحة بينما ظل هو ممسكا بتلابيب الماضي في الوقت الذي أفلت فيه زمام النفس. هل يحب أن يحل محلها؟ لو هاجر لنجا إلى بر النضج، لكن المفصوم لا يتمنى أن يختفي عالم من عالميه.
ثم يعود بطلنا ليعتبر أنه حقق ما يكفي من الانجازات طيلة خمسة عشر عاما لكي يقرر العزوف عن الانسياق وراء حاضر مارية المزهر. لا شك في أنه تقدم طيلة تلك المدة؛ ''خمسة عشر عاما من التجارب في فنون الحياة. ستمحي نتائج الرياضة من عقلك وجسمك إذ أنت ارتبطت بمارية من جديد، إذ أنت تعلقت بشبح الماضي'' ص161. لقد تعود ادريس على الوحدانية، وتأسيسا على ذلك فهو يدافع عن هذا الإنجاز بكل قواه.
كانت مارية تدفع ادريس نحو الأمام دفعا. أرادت له واقعا غير الذي يعيشه ويعايشه. كان ذلك الدفع يتم بكل هدوء وروية، روية فرضها نضج مارية الذي أهلها كذلك لأن تبتعد عن أسلوب الإلحاح وعن طبع الإلجاج. في مقابل ذلك تشبث ادريس بالأمر الواقع وبالقدر، أو أن هذا الأخير تشبث به، بل وانطبع على روحه طبعاً، وختم على قبله أبدًا. غير أن مارية لم تسمع بغُراب الشؤم الذي يحجب أشعة الحياة ويمص الدماء.
انصرفت مارية عن ادريس، وذهبت تلبي نداء المستقبل، تاركة إياه في مواجهة لعبة جديدة من ألاعيب القدر، وتجربة فريدة لم يسبق له أن خاض غمارها. لقد مات الأب وغابت القدوة. مات واستراح فعاد صاحبنا يتيما كسائر الناس. الناموس الوحيد الذي استقاه من هاته التجربة هو أن النجوم لا تهوى لموت أحد، والزمن لا يتخلف لإسعاد أحد. هاهو القدر قد لعب لعبته الكبرى، وها قد خان الزمن ادريس بعد أن ظن أنه سيمهله ليتهيأ للمقابلة الكبرى. فهل تطمئن نفسه بعد الآن؟. بعد هذه الواقعة، سيراود ادريس عبير رياح الشمال التي جعلته يرفرف مرة ثانية، نحو بلد يحلو فيه الوفاء ويحق الرفض، شابا بين الشبان قبل أن تهزمه الحياة.
وفي انتظار أن ينقطع الأمل وتزهر الدنيا، يعيش ادريس على فتات من أطلال الأمل والطموح، كَنَزَها اللاوعي مدة طويلة لتغمر في الظرف المناسب وعيه المتلاشي وعقله الراقد الذي لم تعد له القدرة للتصدي لتساؤلات استنفذت حدود إمكاناته (كيف..؟ من..؟ ما..؟)، فـ''ما يجدي العقل عندما يسطو اللاوعي؟'' ص.220. في ظل ترنح حاضر ادريس ''من الهوى إلى الهاوية بين قوم ليسوا بمؤمنين محبوسا في ديار المغرب'' ص.211.
الكاتب:
- عوني مروان
* ملحوظة: جميع الاقتباسات التي تحويها هذه المادة الأدبية هي من الطبعة الرابعة لمؤَلَف '' الغربة واليتيم'' الصادرة سنة 1986 عن المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- المغرب.