في مجموعته القصصية "قبل الموت.. بعد الجنون" يأخذنا القاص الشاب يسري الغول بين حدي الموت والجنون وكأني به يطرح سؤال الاختيار بين الموت المجاني والمواجهة غير المتكافئة في واقع يمور بالمفاجئات وانقلاب المعايير والتباس وغموض النتائج!!
كتبت القصص ما بين الأعوام 2005 - 2009 وهي السنوات الأكثر دموية التي شهدها قطاع غزة, حيث يعيش الكاتب, فقد شهدت هذه الفترة استشهاد الشيخ احمد ياسين ورحيل الرئيس ياسر عرفات, وتصاعد وتيرة انتفاضة الأقصى, والسجال الدموي مع الغاصب الصهيوني, وصولاً إلى الحرب على غزة, كما شهدت هذه الفترة احتدام الاشتباك مع الذات في الاقتتال الفلسطيني الذي شطر الحال إلى شطرين متخاصمين على مستوى القمة وخسارة الكل على مستوى القاعدة, ولعل السؤال الذي يطل علينا: هل قدم يسري الغول في مجموعته -وهو الكاتب الفياض- كل ما كتب من قصص في تلك الفترة؟ أم أنه اختار القصص التي تدور حول محاور ما!!
في تقديري أنه قدم مجوعة إطار حول أسئلة مشتركة, فتشكلت المجموعة سلسلة سردية لفضاء زمكاني, الأمر الذي قربها من رواية تقوم على التشظي والتبعثر وقدر الفلسطيني المرجوم بالصراع الأزلي, والمعلق بين معطيات واقع جائر ولؤلؤة رؤيا ما بعد الحياة.
هل هو قرار العاجز أم هو قرار المسير بأقداره المرتبطة بأقدار المكان؟!!
أما في قصة " فلسراقية " نرى الفلسطيني الذي تمكن منع اللوثة الحضارية, يحاول التأقلم للبقاء في باريس, بعد أن حصل على الإقامة فيها, فيمتثل لغواية الغربة محبطاً, أما العراقية الهاربة من جحيم العراق فتقرر العودة بحزام ناسف.. وهنا يقف القاص بين الوطن/العذاب واللاوطن/ الموت!!
الموت سؤال مزروع في ثنايا القصص, يقفز عن الواقع والمتخيل إبان الحرب يتمطى مثل كابوس يصعب فك طلاسمه!!
في قصة "وجع" يتابع المقاتل صاحبه وهو يلفظ آخر الأنفاس, وشيطان الوقت محمول بين قذيفة وقذيفة, والرماد مجبول بدم الحجر والشجر والبشر, والموت ثعبان ضاق بسمه, يقذف سؤال الذهاب إلى الجنة عارياً من شهوات الدنيا أو البقاء على الأرض في جحيم النار!!
وفي قصة "صاروخ آخر" يأخذ الصاروخ بيت بطل القصة وزوجته وأولاده في طرفة عين, فيدخل حالة انعدام الوزن.. يهرب مع الناس إلى مدارس وكالة الغوث ليجد صاروخاً آخر بانتظاره,
المسافة بين الموت والموت كما المسافة بين صاروخ وصاروخ!! هل ضاقت المسافة ببطل القصة وأخذته إلى الجنون قبل الموت, أم لاحت له الرؤيا عند انعدام اليقين؟
سؤال بحجم الجحيم !
والفنتازيا السوداء أيضا..
على جغرافيا محدودة, مضغوطة بالحصار والمقاومة والاجتياح وغياب أساسيات الحياة!! كيف تكون الهواجس والتداعيات, وكيف يتخلق الحلم, وكيف يلتقط يسري الغول لحظة انفجار الكتابة, وإطلاق حكاياته وتحريك كائناته في موازاة الواقع؟
يقف القارئ أمام قصص تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الواقع المعاش, ولكنها قصصاً واقعية بامتياز تستعير من الواقع أسئلته، ومن الفن مواد البناء وتحمل الواقع المكتوب مصداقية دون الوقوع في صرامة التوثيق, فلا تتجاوز إلى ما بعد الحدث.
في قصة "ثمن الحصار" مفارقة سوداء، فبطل القصة في الحلم يعتبر وقت الحصار أحد تفريعات زمن الرمادة, يجوز فيه ما لا يجاز, فنراه بعد أن فشل في الحصول على طعام لأسرته يعود بقط يقدمه وجبة شهية لعائلته التي فقدت طعم اللحم, لكن الأسرة تعود إلى أعرافها وقيمها وتقوم بحماية الكائن الأليف الضعيف، فتحرم الأطفال من الحليب والخبز وتقدمه للقطة, يحاول الرجل التخلص من القطة, ولكنها تعود بعد كل قصف..
كان ذلك عندما كان الرجل يتصيد بعض نوم بين كل قصف وقصف, ولكنه وفي الحلم يصحو أمام بوابة غزة, وعبارة الترحيب:"غزة ترحب بكم" فهل هتف الرجل خارج الكابوس مهما امتد الحصار.
وفي قصة "قبر حزين" يخرج الميت من قبره غاضباً على أولاده الذين انقطعوا عن زيارته, وفي الطريق يسمع صوت الطائرة الزنانة فيكتشف أنه ميت ويزول غضبه! هل يؤكد القاص, أنه في وقت الموت يجب أن نبحث عن قيم أخرى.
وفي قصة "العنقاء" هذيان البطل بعد تهشم تمثال من الكريستال للعنقاء هدية صديقه الفنان الذي قضى بقذيفة مجنونة, تناثر شظايا التمثال فيتوجه إلى قبر صديقه، يعتذر فيرى الطائر الأسطوري على القبر في وضع الاستعداد للتحليق. وهنا إشارة أن الكنعاني مثل العنقاء يولد من رماده ليبدأ رحلة الخلود من جديد.
حبل سري:
في قصص المجموعة ثمة حبل سري بين الواقعي والمتخيل, يظهر, من خلال التهويم والحلم والكوابيس. الإسقاط وتعدد مستويات لغة القص من لغة السرد الوصفي المتداول, واللغة المشفرة بالرموز والإشارات, أو الشفافة التي تحلق في فضاء الشعر, والإسقاط على الموجودات, عبر أزمان لا تتوقف عند الماضي, وتجتاز الحاضر إلى المستقبل..
في قصة "لحظة موت" إسقاط على حال العربي/الفلسطيني في زمن الخسائر حيث تدهس القط عربة بالقرب من حاوية, فينهار أبو القط, وتتماسك أمه ثم سرعان ما تثور, بينما تضحك زوجته وتبيح لحممها من أجل أولادها الثمانية, فيما ينشغل أصدقاؤه بالترويج لنظرية المؤامرة, وتكون الفئران الرابحة الفرحة بموت القط. "هل هناك فئران آدمية تستفيد وتنشط في زمن الفجيعة؟!!
وفي قصة "الغرباء" نقف أمام مناجاة صرصارة لزوجها المقتول بالمبيدات الزراعية المغشوشة التي يروجها أبو حمدان في زمن الحصار!!
في ذلك إشارة إلى الصراصير الآدمية التي تكاثرت لفساد وسائل الردع والمراقبة والمحاسبة؟
وفي قصة برداً وسلاماً نجد تناصاً مع قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام.. " قلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم".
الموت شبح متربص:
هل هو موت مجاني, أو فعل عبثي يعصف بالكائنات في بقعة محاصرة, أم هناك ما هو أبعد من الظاهر بنتائجه؟
اعتقد أن قصة "عصفور" وبذكاء لافت وسلس ومحكم, كشفت آليات الصراع وأدواته وأطرافه غير المتكافئة يطرحها مشهد متوازي بين القاتل والقتيل.
فالطفل الذي نبت في بيته الفقير على أطراف المستوطنة, يفرد شباكه ويتسلى بدفع عصافير الفناكر الصغير نحو شباكه ليحظى بصيد يقيه الجوع, فلا يأبه بالجندي المعلق في برج المراقبة في المستوطنة التي تزحف كل يوم, وتضيق عليه الأرض والفضاء..
أما المشهد في البرج فينكشف عن مجند شاعر يلعن أقداره, وفشله في ممارسة الحب مع المجندة التي تذكره بفشله مع حبيبته في إسرائيل.
يتمدد الموت بين قدرين عندما يدخل المجند الرهان مع المجندة إن هو قتل الطفل تكون المجندة له, يثبت المجند الطفل على صليب منظار البندقية ويصيبه في قدمه، فيقفز الطفل نازفاً، صارخا:"يمااااااااا "
يخسر الجندي الرهان, ولأن قرار الموت قد أخذ منذ نشأت المستوطنة, تقوم المجندة بالتصويب نحو الطفل وتقوم بتفجير رأسه بدم بارد.
هذه القصة وببراعة البراءة وضعت سؤال الأسئلة على المحك, حول علاقة الموت بالمستوطنة, وحول استحالة الحل طالما هناك من يحلم بالعصافير في صراع غير متكافئ..
أما بعد:
فإن هذه المجموعة القصصية قد تمحورت حول الصراع مع الغربة والقتل والموت والشطب المقرر سلفا، وقد امتلكت شروط وأدوات القص, ونقلت أرق الكاتب إلى وجدان المتلقي وأخذه إلى دوائر البحث عن القابع في النصوص بطرح أسئلة موازية أو حتى متقاطعة مع رؤية الكاتب..