"... وما زال الناس في الجبل يتناقلون سيرة مليحة موصوفة عاشت في زمن الأتراك، وحيدة لأبوين عاشقين، طُلبت غرة لرجل هفية من عصبة بطاشين أراذل سقط لهم قتيل في طوشة مع أهل المليحة/ ...هجت المليحة واستجارت بساري ليل تصادف مروره بالوادي، وقيل إن أهلها تفرقوا في شعاب الأرض خوفاً من البطش وخزياً من معيار العروسة الهاربة."
هكذا تبتدئ الحكاية كسيرةٍ ملحمية لا تنفك أحداثها عن الانتهاء. فمزيونة الهاربة والتي قيل في أخبارها الكثير الكثير، وارتبط اسمها بعوالم الجان وغيره، فأضحت أسطورة متكاملة. جعلت للحكاية صوتاً جديداً في الرواية الفلسطينية.
ارتبطت مزيونة بساري الليلة (مطلق)، الذي مات بسبب الوباء، بعد أن أنجب منها حسن وزانة. ليكثر النسل من هذه المليحة، فتصبح الحكاية متواردة متواترة لا نهاية لها ولا حدود، يضعها غريب عسقلاني في عدة فصول، حمل كل فصل فيها عنواناً عرضياً لجملة الأحداث الحاصلة في الفصل ذاته وما يتبعه في بعض الأحايين، مثل (عن الصبي طه والنورية نرجس) و(من حكايا ساري الليل) و(عن المقامات والأحوال)..الخ.
ورغم أن رواية (أولاد مزيونة) رواية قصيرة، إلا أنها أيضاً تعتبر رواية أجيال حيث تمر في صفحات الرواية أجيال وأجيال. فهي تبدأ بالجدة مزيونة وفرارها من عشيرتها، ثم التقائها بمطلق وزواجها منه، انتهاء بمحمد العابد الذي جاء من نسل جده سليمان، الراعي الجبلي الذي ارتبط بمزيونة بعد وفاة مطلق وبعد فرارها مجدداً بسبب زوجة الأخ المتسلطة.
هكذا تتوالى الحكايات تباعاً، بدءاً من الهجرة ومروراً بنكسة حزيران والنزوح إلى غزة وبعض البلدان العربية وغيرها، وصولاً إلى عودة السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاق أوسلو. مما يدلل على أن الرواية كانت مضغوطة إلى أقصى حد ممكن. ولعل جمالية الرواية هنا تنبع من كونها استطاعت اختزال الأفكار وتكثيف اللغة دون أن ترهق البناء الدرامي أو تعمل على تشتت ذهنية القارئ.
تعتبر رواية (أولاد مزيونة) من حيث التصنيف رواية تاريخية أيضاً، إلا أنها تختلف بأسلوبها عن كثير من الروايات والمدارس التاريخية المعروفة، فهي تختلف في أسلوبها عن أمين معلوف الذي كتب عدداً من الأعمال التاريخية بينها رواية سمرقند وليون الإفريقي، وتختلف أيضاً عن أعمال أحمد رفيق عوض، الفلسطيني الجميل صاحب رواية القرمطي وعكا والملوك. فهنا جاء التاريخ في توازي مع التراث والحكاية ليكوِّنا سحرية جديدة غاية في الروعة. كما أن القارئ حين يفرغ من قراءة (أولاد مزيونة) يكتشف بأن الروائي يمتلك من الأدوات الفنية والتقنية المشابهة لمن تأثروا بالأعمال الإبداعية العربية القديمة، أمثال ماركيز وبورخيس وجيمس جويس، لكنه ينقل واقعيته السحرية تلك بلغة جميلة وغريبة في ذات الآن، فقد استخدمت في روايته تقنيات جديدة، منها سحرية الواقع المعاش ووظف الحكاية و(الخرَّافية) لتصبح في غاية من الروعة الروعة، فقد أجاد عسقلاني في توظيف الحكاية الشعبية وصناعة الحدث فيها حتى أضحت الحكاية جديدة قديمة. كأن يقول على سبيل المثال لا الحصر، "وأشيع أنها جنية تبدت للصبي في هيئة غجرية، سحرته وعادت به إلى بلاد الجان في الأرض السابعة، وأنجبت منه بنات مثل القمر، يرضعن أسبوع وتكتمل أسنانهن بعد شهر و..." والحقيقة أن هذا المقطع ذكرني منذ أول وهلة برواية الصياد واليمام لإبراهيم عبد المجيد الذي عمل على إدخال الفنتازيا في روايته تلك حتى أضحت غاية في الروعة. ويقول العسقلاني أيضاً، "وسيج مطلق على أخبار زوجته، وصامت مزيونة عن سيرة ما قبل المقام، وسرح خيال الناس وشطح مع رجل وقع في هوى حورية/جنية، أسرته وتعرف على مفاتيحها، وتبعته على سنة الله ورسوله، لا تفارق الابتسامة ثغرها." كما أظهر عسقلاني مدى تعلق الناس بالمتصوفة آنذاك في المجدل وغيرها من بلادنا المحتلة، كما فعل باولو كويلو في رواياته المتنوعة، فيقول "وتطلع إلى السماء ورفع عصاه وأخذ يحركها نحو مواقع لا يعرفها سواه، وكأنه يَرى مالا يُرى، يتوقف عند اتجاه معين ويدمدم..." وغير ذلك الكثير مما يدلل على استنهاض الكاتب للتراث والخيال في صورة سحرية جذابة تأسر القارئ وتأخذ بلبه إلى حيث يريد الراوي.
أيضاً، الوصف داخل طيات الرواية كان موظفاً بصورة جيدة، حيث كان يقوم الروائي عسقلاني بوصف الحدث والشخصيات، مما يسهل على السيناريست أو المسرحي فيما بعد لأن يستخدم أحداث الرواية كي تكون ناطقاً للتغريبة الفلسطينية بصورة غير مألوفة، فيقول في وصفه لطه مثلاً، "طويل أبيض مثل ضابط تركي، بهي الطلعة، عيناه مكحولتان كحلاً ربانياً، عرف عند الرجال بالمكحل والمقدسي والمغربي والركوب والممسوس" ويقول غريب عسقلاني في وصفه لتنظيف أجزاء سلاحه، "كل حواسي تتعلق بأصابع جدي حسن وهو ينظف بارودته الألمانية، ينزع الخزنة ويطرد منها الفشك، يضغط على نقطة معينة فتخرج المكنزمة من جسد البندقية إلى راحته، يتحسس إبرة الضراب، ثم..." .
اللغة في الرواية، كانت شاعرية متألقة، فكعادته دوماً يطل العسقلاني بلغة تفرض على قارئ الرواية التأني وتحليل الحرف والكلمة، مذكراً إياي برواية (ليالي الأشهر القمرية) للروائي ذاته، المفعمة باللغة بالشعرية. ففي هذه الرواية لعبت اللغة دوراً قوياً في إضفاء هالة حول الشخصيات والأحداث. وأذكر هنا ما قيل عن هذه الرواية من كونها "نسق سردي يطمح لتكريس معمار روائي خاص، يقوم على تقنيات القص الحديث، متجاوزاً السرد الواقعي والفنتازيا والتهاويم، محمولة على لغة شعرية تنبض بالرؤى والشفرات حاملة أسئلة النص".
الرواية انقسمت لعدة فصول، حمل كل فصل فيها أوجاع وشخوص ومنافي ودروب، وكانت فصول الرواية في كل ركن تبشر بشخصية جديدة لها أحداث دينامكية على سطح الرواية، فهذا طه المتعلق بالنورية نرجس والذي تبتدئ به الحكاية كفلاش باك، نتوه معه في جنبات صفية التي أحبته بعد موت زوجها غرقاً واستشهاد ابنها، لكنه يرفض الاقتران بها بعد عودته إلى المجدل، فتعمل معه في (التنجيد) على أن تبقى أخت له في دين الله. ثم تتوالى الأحداث حول سيرة طه الذي فر إلى القدس في مراهقته مع النورية نرجس ليعمل طبالاً لها، فتضيق به المعيشة لأنه سيصبح له شركاء في معشوقته نرجس –حسب إرادة النورية التي يقطنون لديها في القدس- فيهجرها طه ليعمل منجداً لدى المغربي، يتعلم طه الحرفة ويعود بها إلى بلاده حسب نصيحة المغربي، ليتزوج فيما بعد بزانة ابنة مزيونة. وفي خضم الأحداث يفصح طه لصفية عن النورية نرجس وفردة الخلخال الذي تركته لديه، لأنها عادت في الثلث الأخير من الرواية، كي (ينجد) لها لحافاً، فترتجف أعضاؤه، وتحدث المكاشفة لصفية التي علمت بالحدث. الجميل هنا بأن خلخال نرجس كانت إحدى فرداته مع طه، تعيده صفية مع المال لنرجس بعد عودتها وتقول لها بأن (المنجِّد) لن يقوم بتنجيد اللحاف. وأحداث جميلة أخرى مشوقة داخل الرواية لعب فيها الفلاش باك دوراً حاسماً.
السوداوية موجودة في الرواية رغم روح الحب ورياح الزواج والتناسل، فهموم الفلسطيني، مجدلياً كان أو غيره، لا تنتهي بسبب المحتل الغاصب، فمن الهجرة عن المجدل إلى النكسة عام 1967 ، إلى مذبحة صبرا وشاتيلا واغتصاب الفتيات وبقر البطون، كما حدث مع زينة، وتوصيف كيف تم التناوب عليها من قبل خمسة صهاينة، حتى أن آخرهم تفحم بعد أن تفجرت زينة كقبلة مدوية، ولعل هناك تحدث السحرية، حين تبرز الآهات على شكل حكاية مختلقة كتفحم الجندي بسبب آهات زينة المكتومة.
إبراهيم الزنط والمعروف باسم غريب عسقلاني، أراد بروايته هذه أن يعود إلى الماضي الجميل الذي يتنسم عبيره كل صباح وهو يتأمل البحر وينظر باتجاه الشمال نحو المجدل وحمامة وحيفا ويافا، فهو غريب عن الوطن عسقلان (المجدل) لأنها هجرته قسراً وباتت ملاذاً للمغتصبين.
بقي لنا أن نذكر بأن الروائي غريب عسقلاني، يعتبر أحد أهم رموز الرواية الفلسطينية، فقد صدر له أكثر من 10 روايات، وست مجموعات قصصية، ترجم معظمها إلى لغات عدة، بينها الانجليزية والفرنسية والعبرية والايطالية والروسية وغيرها.